"الإنسان
يحبّ أن يعرف نفسه" عبارة قد تخلو من الصحّة أحياناً! فكم عدد الذين "يفلفشون"
في صفحات أنفسهم ويقرأون المكتوب في سطورها وما بين السطور؟ ما ينطبق على صعيد
الأشخاص ينطبق أيضاً على صعيد الحضارات. ثمّة حضارات تحبّ أنْ تقرأ ذاتها فتقوم بأرشفة
حضورها، وتأريخ سلوكها، ولمّ شمل هويّتها. ولكن كيف؟
هنا، سأتناول أسلوب أو رأي
مفكّر فرنسيّ في قراءة الذات الغربية واسمه فرنسوا جوليان (François Jullien). قد لا يرنّ هذا الاسم كثيراً في
آذان المفتونين فقط بإنجازات الحضارة الغربية! وله وجهة نظر حضاريّة وفكريّة جديرة
بالاعتبار، اعتقد انها تساعدنا على قراءة الذات قراءة مختلفة، جديدة وجادّة.
ماذا يقول هذا المفكر؟
يرى أنّ الأوروبيين لا يعرفون أنفسهم، على تبجحّهم، تمام المعرفة. ثمّة مناطق
كثيرة لا تزال مجهولة، لم يقلّبها نظر بعد. يقول إننا كأوروبيين يعوزنا النظر إلى أنفسنا
بعيون جديدة. ولكن من أيّ مكان نستعير هذه العيون؟ لا بد أن تستعار من نقيض الغرب
أي من الشرق. ولكن ما هو الشرق؟ ومن يمثلّه تمام التمثيل؟ وأين هو؟ هل هناك شرقٌ
صافٍ، وآخرُ غيرُ صافٍ؟ وهل كلّ شرقٍ شرقٌ؟ هل الشرق الأوسط شرقٌ؟ هل الهندُ شرقٌ؟
لقد طرح عدّة أسئلة في كتاباته، والمعروف أنّ السؤال بوّابة المعرفة، ولعلّ عبارة
الخليل ابن أحمد الفراهيديّ في تعريفه للإنسان بأنّه "سؤول عقول" لاقت
هوى في نفس فرانسوا جوليان الذي لا يكفّ عن مساءلة حضارته بغية معرفتها، وإزالة الأجوبة
البديهية الفتّاكة. عدد الأخطاء الشائعة، الفكريّة وغير الفكريّة، نتيجة الاتكال على
أجوبة البداهة الجاهزة لا تحصى.
حين راح
فرانسوا جوليان يبحث عن الشرق النقيّ لم يجد العالم العربيّ ممّثلاً لهذا الشرق،
ويقصد الشرق المغاير، المختلف، من الألف إلى الياء، عن الغرب. انه يريد استعارة
عيون شرقية تكون على نقيض جليّ للعيون الغربية حتى تستقيم له قراءة جديدة كلّ الجدّة
للعالم الغربيّ ولثقافته ولطريقته في التفكير والتعامل مع الأشياء، فلم ير في
العالم العربي ممثّلاً شرعيّاً للشرق، ويقوم بذكر الأسباب، حتى لا يعتبر قوله إهانة
للشرق العربي، أو استصغاراً لما قدمه العرب من إنجازات لم تبدأ من "الصفر"!
، فيقول إنّ الغرب والعالم العربيّ التقيا منذ القديم، عن طريق الدين والدنوّ
الجغرافي، فالغربيّ المسيحيّ والعربيّ المسلم يمتلكان رصيداً دينياً مشتركاً،
ويمكن أخذ مثال من فكرة الخلق، والإنسان الأوّل. فلا المسلم العربيّ ولا الغربيّ
المسيحيّ يختلفان حول هويّة آدم الطينيّة. فرنسوا جوليان يريد البحث عن آخرَ لا
يشاركه في شيء، والعربيّ يشاركه في أشياء كثيرة منها انتماؤهما معاً إلى "الأديان
السماويّة"، وعبر الأديان تمّ التأثر والتأثير، وهذا التشارك يحرم العيون
العربية من فضيلة الاختلاف الكلّي عن العيون الغربيّة.
ونظر أيضا إلى
الهند، ولكنّه أسقطها من حسبانه ليس لأنها ليست شرقية، فلا أحد ينكر شرقيتها
الحادّة. ولكن هل شرقيتها صافية تمنح العين الغربية نظراً جديداً؟ يقول جوليان إن الفكر الهنديّ لا يصلح كأداة في قراءة الذات
الغربية، رغم عدم وجود تجاور جغرافيّ بين الهند والغرب أو اشتراك على مستوى
المعتقد الدينيّ. فما السبب الذي دعاه إلى إسقاط عيون الهند من الاعتبار؟ إنّه
اللغة. فالمعروف في علم اللغة الحديث أنّ اللغات الغربيّة واللغات الهنديّة تنتمي
إلى أسرة لغوية عريقة واحدة، هي الأسرة الهندو- أوروبية، أي أنّ الجدّ اللغويّ
واحد! واللغة تترك تأثيرها الكبير على طريقة التفكير. هذا الشبه في الأصل، يجعل
احتمال الشبه في التفكير وارداً. وبحسب عبارة الألسنيّ الفرنسيّ جوزيف فندريس إنّ الإنسان
أسير لغته، ولا يملك الهروب منها، هي أشبه بالقضاء الذي لا يمكن كبح جماحه.
أين الشرق إذاً؟ هل هو اليابان؟ اليابان شرق، إلاّ
أنّه شرق ناقص، لأنّ الثقافة اليابانية ليست ثقافة أصيلة نابعة من جذورها وجزرها
نفسها، وإنّما هي ثقافة اعتمدت طوال تاريخها الماضي على الثقافة الصينية، وعليه فإنّ
دراسة الأصل خير من دراسة الصورة. لم يبق إلا الصين كحضارة عريقة، عمرها الزمني
يفوق أعمار كلّ الحضارات العائشة اليوم. وهي تختلف كليا عن الحضارة الغربية، فآدم،
على الصعيد الديني، ليس جزءاً من موروثهم الدينيّ، والمفاهيم الأخروية مغايرة
تماماً لمفاهيم الغرب، والتجاور الجغرافيّ معدوم، والخلاف اللغويّ يبلغ ذروته بين
اللغات الغربيّة واللغة الصينيّة. الغرب ألفبائيّ والصين "تصويرية". وإن
ساد في العالم ما يعرف بالمنطق فإنّ الصين لا تعترف به كمقياس عالميّ. المنطق شيء
لا يدخل في معجم الفكر الصيني، وكما في العالم نوعان من الطبّ: طبّ غربيّ وآخر صينيّ،
هناك أيضاً منطقان: منطق غربي وآخر صينيّ.
كان من نتيجة
فحص فرنسوا جوليان للحضارات القائمة اعتباره ان الوصول إلى المناطق المظلمة من
الفكر الغربي لا يمكن أنْ يتمّ إلاّ عن طريق استخدام أدوات الفكر الصيني.
من فضيلة
فرنسوا جوليان اعترافه أنّ الآخر، الآخر المختلف كلّياً، هو من يمنح الهويّة
الذاتيّة دلالتها الخفيّة والعفيّة.
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق