كتبهابلال عبد الهادي ، في 28 آذار 2011 الساعة: 17:32 م
قال: إني
أريد أن أسألك عن ابن عباد فقد انتجعته وخبرته وحضرت مجلسه، وعن أخلاقه ومذهبه
وعادته، وعن علمه، وعن علمه وبلاغته، وغالب ما هو عليه، ومغلوب ما لديه؛ فما أظن
أني أجد مثلك في الخبر عنه، والوصف له، على أني قد شاهدته بهمذان لما وافي، ولكني
لم أعجمه، لأن اللبث كان قليلاً، والشغل كان عظيماً، والعائق كان واقعاً.
فقال: إني رجل مظلوم من جهته، وعاتبٌ عليه في معاملتي، وشديد الغيظ لحرماني، وإن وصفته أربيت منتصفاً، وانتصفت منه مسرفاً، فلو كنت معتدل الحال بين الرضا والغضب، أو عارياً منهما جملة، كان الوصف أصدق، والصدق به أخلق؛ على أني عملت رسالة في أخلاقه وأخلاق ابن العميد أودعتها نفسي الغزير، ولفظي الطويل والقصير، وهي في المسودة ولا جسارة لي على تحريرها، فإن جانبه مهيب، ولمكره دبيب، وقد قال الشاعر:
إلى أن يغيب المرء يرجى ويتقى … ولا يعلم الإنسان ما في المغيب
قال: دع هذا كله، وانسخ لي الرسالة من المسودة، ولا يمنعنك ذاك فإن العين لا ترمقها والأذن لا تسمعها واليد لا تنسخها.
فقال: إني رجل مظلوم من جهته، وعاتبٌ عليه في معاملتي، وشديد الغيظ لحرماني، وإن وصفته أربيت منتصفاً، وانتصفت منه مسرفاً، فلو كنت معتدل الحال بين الرضا والغضب، أو عارياً منهما جملة، كان الوصف أصدق، والصدق به أخلق؛ على أني عملت رسالة في أخلاقه وأخلاق ابن العميد أودعتها نفسي الغزير، ولفظي الطويل والقصير، وهي في المسودة ولا جسارة لي على تحريرها، فإن جانبه مهيب، ولمكره دبيب، وقد قال الشاعر:
إلى أن يغيب المرء يرجى ويتقى … ولا يعلم الإنسان ما في المغيب
قال: دع هذا كله، وانسخ لي الرسالة من المسودة، ولا يمنعنك ذاك فإن العين لا ترمقها والأذن لا تسمعها واليد لا تنسخها.
وبعد، فما
سألتك إلا وصفه بما جبل عليه، أو بما كسب هو بيديه من خير وشر؛ وهذا غير منكر ولا
مكروه، لأمر الله تعالى، فإنه مع علمه الواسع، وكرمه السابغ، يصف المحسن والمسيء،
ويثني على هذا وينثو على ذاك؛ فاذكر لي من أمره ما خف اللفظ به وسبق الخاطر إليه
وحضر السبب له.
قلت: إن الرجل كثير المحفوظ حاضر الجواب فصيح اللسان؛ قد نتف من كل أدب خفيفٍ أشياء، وأخذ من كل فن أطرافاً؛ والغالب عليه كلام المتكلمين المعتزلة، وكتابته مهجنة بطرائقهم، ومناظرته مشوبة بعبارة الكتاب؛ وهو شديد التعصب على أهله الحكمة والناظرين في أجزائها كالهندسة والطب والتنجيم والموسيقي والمنطق والعدد؛ وليس عنده بالجزء الإلهي خبر، ولا له فيه عين ولا أثر؛ وهو حسن القيام بالعروض والقوافي؛ ويقول الشعر، وليس بذاك؛ وفي بديهيته غزارة. وأما رويته فخوارة؛ وطالعه الجوزاء، والشعري قريبة منه؛ ويتشيع لمذهب أبي حنيفة ومقالة الزيدية، ولا يرجع إلى الرقة والرأفة والرحمة، والناس كلهم محجمون عنه، لجرأته وسلاطته واقتداره وبسطته؛ شديد العقاب طفيف الثواب، طويل العتاب؛ بذيء اللسان؛ يعطي كثيراً قليلاً أعني يعطي الكثير القليل، مغلوبٌ بحرارة الرأس، سريع الغضب، بعيد الفيئة قريب الطيرة، حسودٌ حقودٌ حديد، وحسده وقفٌ على أهل الفضل، وحقده سارٍ إلى أهل الكفاية؛ أما الكتاب والمتصرفون فيخافون سطوته، وأما المنتجعون فيخافون جفوته؛ وقد قتلا خلقاً، وأهلك ناساً، ونفى أمة، نخوةً وتعنتاً وتجبراً وزهواً؛ وهو مع هذا يخدعه الصبي، ويخلبه الغبي؛ لأن المدخل عليه واسع، والمأتي إليه سهل؛ وذلك بأن يقال: مولانا يتقدم بأن أعار شيئاً من كلامه، ورسائل منثوره ومنظومه؛ فما جبت الأرض إليه من فرغانة ومصر وتفليس إلا لأستفيد كلامه وأفصح به، وأتعلم البلاغة منه؛ لكأنما رسائل مولانا سور قرآن، وفقره فيها آيات فرقان؛ واحتجاجه من ابتدائها إلى انتهائها برهان فوق برهان؛ فسبحان من جمع العالم في واحد، وأبرز جميع قدرته في شخص.
فيلين عند ذلك ويذوب، ويلهى عن كل مهم له، وينسى كل فريضة عليه ويتقدم إلى الخازن بأن يخرج إليه رسائله مع الورق والورق ويسهل له الإذن عليه، والوصول إليه، والتمكن من مجلسه؛ فهذا هذا.
ثم يعمل في أوقات كالعيد والفصل شعراً، ويدفعه إلى أبي عيسى بن المنجم، ويقول: قد نحلتك هذه القصيدة، امدحني بها في جملة الشعراء، وكن الثالث من الهمج المنشدين. فيفعل أبو عيسى - وهو بغدادي محكك قد شاخ على الخدائع وتحنك - وينشد، فيقول له عند سماعه شعره في نفسه ووصفه بلسانه، ومدحه من تحبيره: أعد يا أبا عيسى، فإنك - والله - مجيد زه يا أبا عيسى والله، قد صفا ذهن، وزادت قريحتك، وتنقحت قوافيك؛ ليس هذا من الطراز الأول حين أنشدتنا في العيد الماضي، محل تخرج الناس وتهب لهم الذكاء، وتزيد لهم الفطنة، وتحول الكودن عتيقاً، والمحمر جواداً؛ ثم لا يصرفه عن مجلسه إلا بجائزة سنية؛ وعطية هنية؛ ويغيظ الجماعة من الشعراء وغيرهم، لأنهم يعلمون أن أبا عيسى لا يقرض مصراعاً ولا يزن بيتاً ولا يذوق عروضاً.
قال يوماً: من في االدار؟ فقيل له: أبو القاسم الكاتب وابن ثابت؛ فعمل في الحال بيتين، وقال لإنسان بين يديه: إذا أذنت لهذين فادخل بعدهما بساعة وقل: قد قلت بيتين، فإن رسمت لي إنشادهما أنشدت وازعم أنك بدهت بهما، ولا تجزع من تأففي بك، ولا تفزع من نكري عليك، ودفع البيتين إليه، وأمره بالخروج إلى السجن؛ وأذن للرجلين حتى وصلا؛ فلما جلسا وأنسا دخل الآخر على تفيئتهما، ووقف للخدمة، وأخذ يتلمظ يرى أنه يقرض شعراً؛ ثم قال: يا مولانا، قد حضرني بيتان، فإن أنت أذنت لي أنشدت. قال: أنت إنسان أخرق سخيف، لا تقول شيئاً فيه خير، اكفني أمرك وشعرك. قال: يا مولانا، هي بديهتي، فإن نكرتني ظلمتني؛ وعلى كل حال فاسمع، فإن كان بارعين وإلا فعاملني بما تحب قال: أنت لجوج، هات. فأنشد:
يأيها الصاحب تاج العلا … لا تجعلني نهزة الشامت
بملحدٍ يكنى أبا قاسم … ومجبر يعزى إلى ثابت
قال: قاتلك الله، لقد أحسنت وأنت مسىء: قال لي أبو القاسم: فكدت أتفقأ غيظاً، لأني علمت أنه من فعلاته المعروفة؛ وكان ذلك الجاهل لا يقرض بيتاً. ثم حدثني الخادم الحديث بنصه.
قلت: إن الرجل كثير المحفوظ حاضر الجواب فصيح اللسان؛ قد نتف من كل أدب خفيفٍ أشياء، وأخذ من كل فن أطرافاً؛ والغالب عليه كلام المتكلمين المعتزلة، وكتابته مهجنة بطرائقهم، ومناظرته مشوبة بعبارة الكتاب؛ وهو شديد التعصب على أهله الحكمة والناظرين في أجزائها كالهندسة والطب والتنجيم والموسيقي والمنطق والعدد؛ وليس عنده بالجزء الإلهي خبر، ولا له فيه عين ولا أثر؛ وهو حسن القيام بالعروض والقوافي؛ ويقول الشعر، وليس بذاك؛ وفي بديهيته غزارة. وأما رويته فخوارة؛ وطالعه الجوزاء، والشعري قريبة منه؛ ويتشيع لمذهب أبي حنيفة ومقالة الزيدية، ولا يرجع إلى الرقة والرأفة والرحمة، والناس كلهم محجمون عنه، لجرأته وسلاطته واقتداره وبسطته؛ شديد العقاب طفيف الثواب، طويل العتاب؛ بذيء اللسان؛ يعطي كثيراً قليلاً أعني يعطي الكثير القليل، مغلوبٌ بحرارة الرأس، سريع الغضب، بعيد الفيئة قريب الطيرة، حسودٌ حقودٌ حديد، وحسده وقفٌ على أهل الفضل، وحقده سارٍ إلى أهل الكفاية؛ أما الكتاب والمتصرفون فيخافون سطوته، وأما المنتجعون فيخافون جفوته؛ وقد قتلا خلقاً، وأهلك ناساً، ونفى أمة، نخوةً وتعنتاً وتجبراً وزهواً؛ وهو مع هذا يخدعه الصبي، ويخلبه الغبي؛ لأن المدخل عليه واسع، والمأتي إليه سهل؛ وذلك بأن يقال: مولانا يتقدم بأن أعار شيئاً من كلامه، ورسائل منثوره ومنظومه؛ فما جبت الأرض إليه من فرغانة ومصر وتفليس إلا لأستفيد كلامه وأفصح به، وأتعلم البلاغة منه؛ لكأنما رسائل مولانا سور قرآن، وفقره فيها آيات فرقان؛ واحتجاجه من ابتدائها إلى انتهائها برهان فوق برهان؛ فسبحان من جمع العالم في واحد، وأبرز جميع قدرته في شخص.
فيلين عند ذلك ويذوب، ويلهى عن كل مهم له، وينسى كل فريضة عليه ويتقدم إلى الخازن بأن يخرج إليه رسائله مع الورق والورق ويسهل له الإذن عليه، والوصول إليه، والتمكن من مجلسه؛ فهذا هذا.
ثم يعمل في أوقات كالعيد والفصل شعراً، ويدفعه إلى أبي عيسى بن المنجم، ويقول: قد نحلتك هذه القصيدة، امدحني بها في جملة الشعراء، وكن الثالث من الهمج المنشدين. فيفعل أبو عيسى - وهو بغدادي محكك قد شاخ على الخدائع وتحنك - وينشد، فيقول له عند سماعه شعره في نفسه ووصفه بلسانه، ومدحه من تحبيره: أعد يا أبا عيسى، فإنك - والله - مجيد زه يا أبا عيسى والله، قد صفا ذهن، وزادت قريحتك، وتنقحت قوافيك؛ ليس هذا من الطراز الأول حين أنشدتنا في العيد الماضي، محل تخرج الناس وتهب لهم الذكاء، وتزيد لهم الفطنة، وتحول الكودن عتيقاً، والمحمر جواداً؛ ثم لا يصرفه عن مجلسه إلا بجائزة سنية؛ وعطية هنية؛ ويغيظ الجماعة من الشعراء وغيرهم، لأنهم يعلمون أن أبا عيسى لا يقرض مصراعاً ولا يزن بيتاً ولا يذوق عروضاً.
قال يوماً: من في االدار؟ فقيل له: أبو القاسم الكاتب وابن ثابت؛ فعمل في الحال بيتين، وقال لإنسان بين يديه: إذا أذنت لهذين فادخل بعدهما بساعة وقل: قد قلت بيتين، فإن رسمت لي إنشادهما أنشدت وازعم أنك بدهت بهما، ولا تجزع من تأففي بك، ولا تفزع من نكري عليك، ودفع البيتين إليه، وأمره بالخروج إلى السجن؛ وأذن للرجلين حتى وصلا؛ فلما جلسا وأنسا دخل الآخر على تفيئتهما، ووقف للخدمة، وأخذ يتلمظ يرى أنه يقرض شعراً؛ ثم قال: يا مولانا، قد حضرني بيتان، فإن أنت أذنت لي أنشدت. قال: أنت إنسان أخرق سخيف، لا تقول شيئاً فيه خير، اكفني أمرك وشعرك. قال: يا مولانا، هي بديهتي، فإن نكرتني ظلمتني؛ وعلى كل حال فاسمع، فإن كان بارعين وإلا فعاملني بما تحب قال: أنت لجوج، هات. فأنشد:
يأيها الصاحب تاج العلا … لا تجعلني نهزة الشامت
بملحدٍ يكنى أبا قاسم … ومجبر يعزى إلى ثابت
قال: قاتلك الله، لقد أحسنت وأنت مسىء: قال لي أبو القاسم: فكدت أتفقأ غيظاً، لأني علمت أنه من فعلاته المعروفة؛ وكان ذلك الجاهل لا يقرض بيتاً. ثم حدثني الخادم الحديث بنصه.
والذي غلطه
في نفسه وحمله على الإعجاب بفضله والاستبداد برأيه، أنه لم يجبه قط بتخطئة، ولا
قوبل بتسوئة؛ ولا قيل له: أخطأت أو قصرت أو لحنت أو غلطت أو أخللت، لأنه نشأ على أن
يقال: أصاب سيدنا، وصدق مولانا، ولله دره، ولله بلاؤه، ما رأينا مثله، ولا سمعنا من
يقاربه، من ابن عبد كان مضافاً إليه؟ ومن ابن ثوابة مقيساً عليه؟ ومن إبراهيم بن
العباس الصولي إذا جمع بينهما؟ من صريع الغواني من أشجع السلمي إذا سلك طريقهما،
ومتح برشائهما، وقدح بزندهما؟ قد استدرك مولانا على الخليل في العروض، وعلى ابي
عمرو بن العلاء في اللغة وعلى أبي يوسف في القضاء، وعلى الإسكافي في الموازنة، وعلى
ابن نوبخت في الآراء والديانات، وعلى ابن مجاهد في القراءات؛ وعلى ابن جرير في
التفسير، وعلى أرسطوطاليس في المنطق، وعلى الكندي في الجزء، وعلى ابن سيرين في
العبارة، وعلى أبي العيناء في البديهة، وعلى ابن أبي خالد في الخط، وعلى الجاحظ في
الحيوان، وعلى سهل بن هرون في الفقر، وعلى يوحنا في الطب؛ وعلى ابن ربن في الفردوس،
وعلى عيسى بن دأب في الرواية، وعلى الواقدي في الحفظ، وعلى النجار في البدل، وعلى
ابن ثوابة في التفقه، وعلى السري السقطي في الخطرات والوساوس، وعلى مزبد في
النوادر، وعلى أبي الحسن العروضي في استخراج المعمى، وعلى بني برمك في الجود، وعلى
ذي الرياستين في التدبير، وعلى سطيح في الكهانة، وعلى ابن المحيا خالد بن سنان
العبسي في دعواه؛ هو والله أولى بقول أبي شريح أوس بن حجر التميمي في فضالة بن
كلدة:
الألمعي الذي يظن بك الظن … كأن لقد رأى وقد سمعا
قد يسبق المدح إلا من لا يستحقه، ويصير المال إلى من لا يليق به أن يكون ميلاً حتى إذا وجد من كان لذلك مستحقاً منحه ووفر عليه.
فتراه عند هذا الهذر وأشباهه يتلوى ويتبسم، ويطير فرحاً ويتقسم ويقول: ولا كذا؛ ثمرة السبق لهم، وقصرنا أن نلحقهم، أو نقفو أثرهم ونشق غبارهم أو نرد غمارهم. وهو في كل ذلك يتشاكى ويتحايل، ويلوي شدقه، ويبتلع ريقه، ويرد كالآخذ، ويأخذ كالمتمنع، ويغضب في عرض الرضا، ويرضى في لبوس الغضب، ويتهالك ويتمالك، ويتقابل ويتمايل؛ ويحاكي المومسمات، ويخرج في أصحاب السماجات؛ ومع هذا كله يظن أن هذا خافٍ على نقاد الأخلاق وجهابذة الأحوال، والذين قد فرغهم الله لتتبع الأمور، واستخراج ما في الصدور، واعتبار الأسباب؛ وذلك أنه ليس بجيد العقل، ولا خالص الحمق؛ وكل كدر بالتركيب فقلما يصفو، وكل مركب على الكدر فقلما يعتدل؛ إلا أن الانحراف متى كان إلى جانب العقل كان أصلح من أن يكون إلى طرف الحمق؛ والكامل عزيز، والبرىء من الآفات معدوم؛ إلا أن العليل إذا قيض الله له طبيباً حاذقاً رفيقاً ناصحاً كان إلى العافية أقرب، وللشفاء أرحي، ومن العطب أبعد، وبالاحتياط أعلق، أعني أن العاقل إذا عرف من نفسه عيوباً معدودة، وأخلاقاً مدخولة، استطب لها عقله، وتطبب فيها بعقله، وتولى تدبيرها برأيه ورأي خلصانه، فنفي ما أمكن نفيه، وأصلح ما قبل إصلاحه، وقلل ما استطاع تقليله؛ فقد يجد الإنسان الرمص في عينه فينحيه، ويبتلي بالبرص في بدنه فيخفيه.
وقد أفسده أيضاً ثقة صاحبه به، وتعويله عليه، وقلة سماعه من الناصح فيه؛ فعذر بازدهاء المال والغلم والاقتدار والأمر والكفاية وطاعة الرجال وتصديق الجلساء والعادة الغالبة؛ وهو في الأصل مجدود لا جرم ليس يقله مكانٌ دلالاً وترفاً، وعجباً وتيهاً وصلفاً؛ واندراءً على الناس، وازدراءً للصغار والكبار، وجبها للصادر والوارد؛ وفي الجملة، صغار آفاته كبيرة، وذنوبه جمة ولكن الغني ربٌ غفور قال: ما صدر هذا البيت؟ فأنشدته الأبيات، وهي لعروة بن الورد في الجاهلية، وكان يقال له عروة الصعاليك، لأنه كان يؤويهم ويحسن إليهم كثيراً:
ذريني للغنى أسعى فإني … رأيت الناس شرهم الفقير
وأبعدهم وأهوانهم عليهم … وإن أمسى له حسبٌ وخير
ويقصيه الندى وتزدريه … حليلته وينهره الصغير
وتلقى ذا الغنى وله جلالٌ … يكاد فؤاد صاحبه يطير
قليلٌ ذنبه والذنب جمٌ … ولكن الغني رب ٌ غفور
الألمعي الذي يظن بك الظن … كأن لقد رأى وقد سمعا
قد يسبق المدح إلا من لا يستحقه، ويصير المال إلى من لا يليق به أن يكون ميلاً حتى إذا وجد من كان لذلك مستحقاً منحه ووفر عليه.
فتراه عند هذا الهذر وأشباهه يتلوى ويتبسم، ويطير فرحاً ويتقسم ويقول: ولا كذا؛ ثمرة السبق لهم، وقصرنا أن نلحقهم، أو نقفو أثرهم ونشق غبارهم أو نرد غمارهم. وهو في كل ذلك يتشاكى ويتحايل، ويلوي شدقه، ويبتلع ريقه، ويرد كالآخذ، ويأخذ كالمتمنع، ويغضب في عرض الرضا، ويرضى في لبوس الغضب، ويتهالك ويتمالك، ويتقابل ويتمايل؛ ويحاكي المومسمات، ويخرج في أصحاب السماجات؛ ومع هذا كله يظن أن هذا خافٍ على نقاد الأخلاق وجهابذة الأحوال، والذين قد فرغهم الله لتتبع الأمور، واستخراج ما في الصدور، واعتبار الأسباب؛ وذلك أنه ليس بجيد العقل، ولا خالص الحمق؛ وكل كدر بالتركيب فقلما يصفو، وكل مركب على الكدر فقلما يعتدل؛ إلا أن الانحراف متى كان إلى جانب العقل كان أصلح من أن يكون إلى طرف الحمق؛ والكامل عزيز، والبرىء من الآفات معدوم؛ إلا أن العليل إذا قيض الله له طبيباً حاذقاً رفيقاً ناصحاً كان إلى العافية أقرب، وللشفاء أرحي، ومن العطب أبعد، وبالاحتياط أعلق، أعني أن العاقل إذا عرف من نفسه عيوباً معدودة، وأخلاقاً مدخولة، استطب لها عقله، وتطبب فيها بعقله، وتولى تدبيرها برأيه ورأي خلصانه، فنفي ما أمكن نفيه، وأصلح ما قبل إصلاحه، وقلل ما استطاع تقليله؛ فقد يجد الإنسان الرمص في عينه فينحيه، ويبتلي بالبرص في بدنه فيخفيه.
وقد أفسده أيضاً ثقة صاحبه به، وتعويله عليه، وقلة سماعه من الناصح فيه؛ فعذر بازدهاء المال والغلم والاقتدار والأمر والكفاية وطاعة الرجال وتصديق الجلساء والعادة الغالبة؛ وهو في الأصل مجدود لا جرم ليس يقله مكانٌ دلالاً وترفاً، وعجباً وتيهاً وصلفاً؛ واندراءً على الناس، وازدراءً للصغار والكبار، وجبها للصادر والوارد؛ وفي الجملة، صغار آفاته كبيرة، وذنوبه جمة ولكن الغني ربٌ غفور قال: ما صدر هذا البيت؟ فأنشدته الأبيات، وهي لعروة بن الورد في الجاهلية، وكان يقال له عروة الصعاليك، لأنه كان يؤويهم ويحسن إليهم كثيراً:
ذريني للغنى أسعى فإني … رأيت الناس شرهم الفقير
وأبعدهم وأهوانهم عليهم … وإن أمسى له حسبٌ وخير
ويقصيه الندى وتزدريه … حليلته وينهره الصغير
وتلقى ذا الغنى وله جلالٌ … يكاد فؤاد صاحبه يطير
قليلٌ ذنبه والذنب جمٌ … ولكن الغني رب ٌ غفور
فقال: لاشك
أن المسودة جامعةٌ لهذا كله. قلت: تلك تجزع في دست كاغدٍ فرعوني. فقال: أجد
تحريرها، وعلى بها، ولك الضمان ألا يراها إنسان، ولا يدور بذكرها لسان.
قلت: السمع والطاعة. قال: قد تركنا من حديثه ما هو أولى مما مر بنا؛ كيف بلاغته من بلاغة ابن العميد؟ وأين طريقته من طريقة ابن يوسف والصابي؟ قلت: قد سألت جماعة عن هذا، فأجابني كل واحد بجواب إذا حكيته عنه كان ما يقال فيه ألصق، وكنت من الحكم عليه وله أبعد.
قال: صف هذا؛ قلت: سألت ابن عبيد الكاتب عن ابن عباد فيك تابته فقال: يرتفع عن المتعلمين فيها بدرجة أو بدرجتين. وقال علي بن القاسم: هو مجنون الكلام، تارةً تبدو لك منه بلاغة قس، وتارة يلقاك بعي باقل؛ تحريف كثير في المعاني، وإحالةٌ في الوضع، وغلطٌ في السجع، وشرودٌ عن الطبع.
وقال ابن المرزبان: هو كثير السرقة، سيىء الإنفاق، رديء القلب والعكس، فروقةٌ في غيراده، هزيمته قبل هجومه. وإحجامه أظهر من إقدامه. وقال الصابي: هو مجتهد غير موفق، وفاضل غير منطق ولو خطا كان أسرع له، كما أنه لما عدا كان أبطأ عليه؛ وطباع الجبلي مخالف لطباع العراقي، يثب مقارباً فيقع بعيداً، ويتطاول صاعداً فيتقاعس قعيداً.
وقال علي بن جعفر: مم كانت الطبائع! هو يكذر نفسه بحسن الظن في البلاغة، وطباعه تصدق عنه بالتخلف، فهو يشين اللفظ ويحيل المعنى، فأما شينه اللفظ فبالجفوة والغلظة والإخلال والفجاجة؛ وأما إحالته فبالإبعاد عن حومة القصد والإرادة؛ والعجب أنه يحفظ الطم والرم من النثر والنظم؛ ثم إذا ادعاهما يقع دونهما سقوطاً، أو يتجاوزهما فروطاً؛ هذا مع الكبر الممقوت والتشيع الظاهر، والدعوى العارية من البينة العادلة.
وما أحسن ما كتب بن أحمد بن إسماعيل بن الخصيب إلى آخر: الكبر - أعزك الله - معرض يستوي فيه النبيه ذكراً، والخامل قدراً، ليس أمامه حاجب يمنعه، ولا دونه حاجز يحظره؛ والناس أشد تحفظاً على الرئيس المحظوظ، وأكثر اجتلاء لأفعاله، وتتبعاً لمعايبه، وتصفحاً لأخلاقه، وتنقيراً عن خصاله منهم عن خامل لا يعبأ به، وساقطٍ لا يكترث له؛ فيسير عيب الجليل يقدح فيه، وصغير الذنب يكبر منه، وقليل الذم يسرع إليه؛ ولابن هندو في هذا المعنى:
العيب في الرجل المذكور مذكور … والعيب في الخامل المستور مستور
كفوفة الظفر تخفي من مهانتها … ومثلها في سواد العين مشهور
وقال الزهيري: قد نجم بأصبهان ابنٌ لعبادٍ في غاية الرقاعة والوقاحة والخلاعة وإن كان له يوم، فسيشقى به قوم، سمعته يقول هذا سنة اثنتين وخمسين في مجلسٍ من الفقهاء.
وقال ابن حبيب: قال بعض الحكماء: إن اللنفس أمراضاً كأمراض البدن إلا أن فضل أمراض النفس على أمراض البدن في الشر والضرر كفضل النفس على البدن في الخير؛ وصاحبنا يعني - ابن عباد - مريض عندنا، صحيح عند نفسه، زيف بنقدنا، جيد بنقده؛ ولو قامت السوق على ساقها، وتناصف المتعاملون فيها، ولم يقع إكراه في أخذٍ ولا إعطاء، عرف البهرج الذي ضرب خارج الدار والجيد الذي ضرب داخل الدار.
قلت: السمع والطاعة. قال: قد تركنا من حديثه ما هو أولى مما مر بنا؛ كيف بلاغته من بلاغة ابن العميد؟ وأين طريقته من طريقة ابن يوسف والصابي؟ قلت: قد سألت جماعة عن هذا، فأجابني كل واحد بجواب إذا حكيته عنه كان ما يقال فيه ألصق، وكنت من الحكم عليه وله أبعد.
قال: صف هذا؛ قلت: سألت ابن عبيد الكاتب عن ابن عباد فيك تابته فقال: يرتفع عن المتعلمين فيها بدرجة أو بدرجتين. وقال علي بن القاسم: هو مجنون الكلام، تارةً تبدو لك منه بلاغة قس، وتارة يلقاك بعي باقل؛ تحريف كثير في المعاني، وإحالةٌ في الوضع، وغلطٌ في السجع، وشرودٌ عن الطبع.
وقال ابن المرزبان: هو كثير السرقة، سيىء الإنفاق، رديء القلب والعكس، فروقةٌ في غيراده، هزيمته قبل هجومه. وإحجامه أظهر من إقدامه. وقال الصابي: هو مجتهد غير موفق، وفاضل غير منطق ولو خطا كان أسرع له، كما أنه لما عدا كان أبطأ عليه؛ وطباع الجبلي مخالف لطباع العراقي، يثب مقارباً فيقع بعيداً، ويتطاول صاعداً فيتقاعس قعيداً.
وقال علي بن جعفر: مم كانت الطبائع! هو يكذر نفسه بحسن الظن في البلاغة، وطباعه تصدق عنه بالتخلف، فهو يشين اللفظ ويحيل المعنى، فأما شينه اللفظ فبالجفوة والغلظة والإخلال والفجاجة؛ وأما إحالته فبالإبعاد عن حومة القصد والإرادة؛ والعجب أنه يحفظ الطم والرم من النثر والنظم؛ ثم إذا ادعاهما يقع دونهما سقوطاً، أو يتجاوزهما فروطاً؛ هذا مع الكبر الممقوت والتشيع الظاهر، والدعوى العارية من البينة العادلة.
وما أحسن ما كتب بن أحمد بن إسماعيل بن الخصيب إلى آخر: الكبر - أعزك الله - معرض يستوي فيه النبيه ذكراً، والخامل قدراً، ليس أمامه حاجب يمنعه، ولا دونه حاجز يحظره؛ والناس أشد تحفظاً على الرئيس المحظوظ، وأكثر اجتلاء لأفعاله، وتتبعاً لمعايبه، وتصفحاً لأخلاقه، وتنقيراً عن خصاله منهم عن خامل لا يعبأ به، وساقطٍ لا يكترث له؛ فيسير عيب الجليل يقدح فيه، وصغير الذنب يكبر منه، وقليل الذم يسرع إليه؛ ولابن هندو في هذا المعنى:
العيب في الرجل المذكور مذكور … والعيب في الخامل المستور مستور
كفوفة الظفر تخفي من مهانتها … ومثلها في سواد العين مشهور
وقال الزهيري: قد نجم بأصبهان ابنٌ لعبادٍ في غاية الرقاعة والوقاحة والخلاعة وإن كان له يوم، فسيشقى به قوم، سمعته يقول هذا سنة اثنتين وخمسين في مجلسٍ من الفقهاء.
وقال ابن حبيب: قال بعض الحكماء: إن اللنفس أمراضاً كأمراض البدن إلا أن فضل أمراض النفس على أمراض البدن في الشر والضرر كفضل النفس على البدن في الخير؛ وصاحبنا يعني - ابن عباد - مريض عندنا، صحيح عند نفسه، زيف بنقدنا، جيد بنقده؛ ولو قامت السوق على ساقها، وتناصف المتعاملون فيها، ولم يقع إكراه في أخذٍ ولا إعطاء، عرف البهرج الذي ضرب خارج الدار والجيد الذي ضرب داخل الدار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق