نشر غسان تويني كتاباً بعنوان: «قرن لأجل لا شيء»، ويقصد به ضياع الفرصة من يد العرب على امتداد القرن العشرين. ولكن، عملياً، من يتأمل العالم العربي ويتابع حركته يلحظ ان العربي لم يُضع قرناً واحداً من الزمان، ولكنه أضاع قروناً كثيرة، وفرصاً كثيرة، تتعدّى القرن الواحد والقرنين بل والثلاثة. أتساءل أحياناً لماذا نحن العرب من هواة تضييع الفرص؟ أظن ان الأسباب متعددة، ثمة ما أسميه «معايير التخلّف» و«معايير التقدّم» إذ من العبث ردّ أسباب التخلّف او التقدم الى عامل واحد، وإن كنت أعتقد ان السبب الجوهري للتخلّف هو الأميّة، ولكن ليس بحسب ما يعرّفها القاموس، وتعريف القواميس يكون أحياناً بارداً، يحتاج الى دفء الشواهد النصيّة. هل الشهادات، مثلاً، تنفي الأميّة؟ ومن يعمل في حقل المعاجم يعرف صعوبة ضبط سلوك كلمة. النظرية اللغوية التي أتى بها الفيلسوف النمساوي «فتغنشتاين Wittigenstein» تنسف فكرة وجود معنى للكلمة، ونظريته من أصدق النظريات تصويراً للواقع اللغوي، الاستعمال هو الذي يحدّد معنى كلمة ما، القاموس أشبه بصفّارة الانطلاق للمعنى، ولكن لا هو الطريق، ولا هو عابر الطريق. السياق هو الذي يحكم مسار الكلمة، كرّها وفرّها في أرض المعنى. والسياق لغويّ وزمني ومكاني وجنسي، ولكل كلمة ظل.. لا تعيش الكلمات بلا ظلال، نعرف ان الظل لا يصبر على شكل واحد، الشمس تلعب بشكله، الغيمة تلعب بشكله، المكان الذي هو فيه يلعب بشكله. الظل على صفحات الماء ليس كالظل على اليابسة... الخ. كلامي تمهيد لوصف معاناة شهرزاد في مصر. مجموعة من المحامين الذين يناصبون شهرزاد العداء طالبوا بمحاكمتها وقصّ لسانها ومنعها من نشر الغواية والدعارة في المطبوعات المصرية. طالبوا بتمزيق صفحات «ألف ليلة وليلة». هل يعرف الانسان العربي ان أشهر امرأة «عربية» في العالم هي شهرزاد، وأن «ألف ليلة وليلة» رصيد عربي لا يشاركها فيه أي كتاب آخر؟ كنت أقرأ عن تجوال «ألف ليلة وليلة» في العالم، فاكتشفت أنه أشهر كتاب عربي خارج الجغرافية العربية وليس القرآن الكريم، أي ان الناس غير المسلمين الذين سمعوا بـ«ألف ليلة وليلة» هم أضعاف من سمعوا بالقرآن الكريم. فاجأتني هذه المعلومة إذ كنت أظن مثل كثيرين ان القرآن الكريم هو الكتاب العربي الأكثر شهرة وليس كتاب «ألف ليلة وليلة». تساءلت وأنا أقرأ الخبر في الجرائد المصرية: أليس كل من يناصب «ألف ليلة وليلة» العداء إنما يفعل ذلك جهلاً بتراثه العربي؟ وحين أقول: «تراثنا العربي» فإنما أقصده بكل تفاصيله. لنفترض ان تراث كل أمّة هو منزل (هل يخلو منزل من بيت خلاء او غرفة نوم؟). ويلٌ لمن لا يسكن في تراثه! وويلٌ، أيضاً، لمن يناصب تراث غيره العداء. النظرة الى تراث الآخر جزء من إغناء منظوري لتراثي. سأعطي مثالاً بسيطاً، كنت قد درست اللغة العبرية في باريس لمدى سنتين في «معهد اللغات الشرقية»، وكنت أجيب من يسألني عن سبب تعلّمي اللغة العبرية بأنني أتعلّمها لأقوّي لغتي العربية! الجواب الأولي المتوقّع ربما هو أنني أتعلم لغة عدوّي، اعتبرت الجواب الأول ثانويّ لأن تخصصي فياللغة العربية، وعليه تعلّمي للعبرية، كان بهدف تعميق معرفتي بلغتي العربية، ومعرفة ما لا تقوله لي لغتي بلسانها المباشر. تابعت تخصصي في مجال الألسنية العربية في باريس، وإن كنت أحترم شيئاً في التعليم هناك فهو تعليم الأدب العربي باللغة الفرنسية، لا أنسى كيف كان المستشرق الفرنسي الكبير أندريه ميكيل (André Miquel) يحلّل، في الـ«كوليج ده فرانس»، قصائد أبي العتاهية وابن زيدون ومجنون ليلى بالفرنسية. يقرأ بيت الشعر بالعربي ثم يحلّل دلالاته وجمالياته البلاغية بلغته الفرنسية. تخيّلوا مثلاً تدريس الشاعر الفرنسي بودلير باللغة العربية في جامعة من الجامعات العربية! سوف يعتبر الأساتذة تعليمه بالعربية جنوناً من جملة الجنون الضارب أطنابه في العالم العربي. ولكن أليس من معايير التقدّم الاستبصار بالأدوات والمناهج التي تستعملها الأمم التي ننظر اليها باعتبارها أمماً متحضّرة علمياً؟ وعليه فإنني أعتبر تعامل أندريه ميكيل مع القصائد العربية معياراً من معايير التقدّم. «ألف ليلة وليلة» من تراثنا العربي، والطريف ان أول دراسة عربية جادّة عن شهرزاد كانت بقلم امرأة رائدة هي الدكتورة سهير القلماوي. لا أفهم سرّ العداوة لشهرزاد. لنفترض ان الكتاب ماجنٌ وغير أخلاقي وهو يتضمن مقاطع وصفية تثير الغرائز، ولنفترض جدلاً ان هذه التعابير تخلّ بالآداب، وتخدش الحياء، وتسفك دم الأخلاق، ولنفترض جدلاً ان هذا الكلام صحيح! أليس من المفروض ان نطبّق هذا المعيار بالعدل والقسطاس المبين؟ أليس من المفترض ان لا نمارس ما يمارسه الغرب من ازدواجية خبيثة في المعايير، وأن لا نتعامل مع تاريخنا من منظور عنصري؟ ثم لماذا نعامل بعض التراث على أنه ابن ستّ وبعض التراث على أنه ابن جارية؟ ولماذا نتعامل مع شريحة من كتاباتنا على أنها بنت حبر مثل الدم الأزرق، وشريحة أخرى على أساس أنها بنت حبر ملوّث؟. وهل يبقى تراثنا تراثاً في حال طبّقنا عليه ما نطبّقه على «ألف ليلة وليلة»؟ الخسارة، في حال وضعنا المعيار حيّز التطبيق، فادحة. لأننا سنلغي من تراثنا شخصيات كثيرة، دينية وغير دينية، علينا ان نطرد الجاحظ من ديارنا وصفحات كتبنا، ونستعيذ بالله منه كما نستعيذ من الشيطان الرجيم، ففي كتابه «البيان والتبيين» كلام فاحش كثير، وتعابير عارية، وكذلك في كتاب «الحيوان» وكلمات ونوادر ما لا تجرؤ أية جريدة عربية، اليوم، على نشره. وعلينا ان نقطع نسل أبي حيّان التوحيديّ الأدبي من الوجود، لأنه كان فاسق اللسان في «الإمتاع والمؤانسة»، وفي «البصائر والذخائر»، وعلينا ان نرمي بالإمام جلال الدين السيوطيّ في سلّة المهملات لأنه ألّف كتاب «رشْف الزلال من السحر الحلال» وهو كتاب عن وصف «ليلة الزفاف» بلسان ومفردات ومصطلحات فقيه ومحدّث ومقرئ، وأن نتّهم الإمام ابن الجوزيّ بالمجون لأنه ألّف كتاب «أخبار الظراف والمتماجنين»، وعلينا ان نرمي بشعراء العصر الأموي، الفرزدق والأخطل وجرير في البحر لأن في شعرهم الهجائي سباباً من تحت الزنّار، وأن لا نعترف بابن الرومي سليط اللسان، وأن نسحب الجنسية من أبي نؤاس المارق ومن على شاكلته، وأن نحرق أوراق كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني، او كتاب «يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر» للثعالبي، وأن نلغي كل المعاجم العربية القديمة لأنها تتضمن كلاماً بذيئاً يجرح مشاعر الآداب. من الحماقة ان تتعامل الأمة العربية مع أشياء حضارتها كما تعاملت طالبان مع «أصنام بوذا» التي كانت شاهد عيان على سماحة الحقبات الاسلامية الزاهرة. |
الخميس، 14 أغسطس 2014
محاكمة شهرزاد
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق