الأمم الحضارية تبقى حيّة في كل شيء رغم تقادم الزمن وتوارد الأحداث واضطرابات العصور، وتظهر حيويتها في موروث مادي أو معنوي، وفي فلكلور شعبي أو شواهد تبقى تنبض بالحياة مهما تقلبت وتغيرت الأحوال. الأمتان العربية والصينية تتمتعان بحضارتين تاريخيتين عريقتين قدمتا إسهامات لا يمكن تجاهلها للحضارة الإنسانية جمعاء، وتواصلتا وتلاقحتا على مر العصور، فأنتجتا نموذجا رائعا للتواصل الحضاري بين الأمم. الأدب في كلٍ من الجانبين العربي والصيني، غزير ثري رائع، ومعظم العرب يعرفون جيدا روعة أدبنا العربي وتأثيراته الكبيرة. ولكن الأدب الصيني مازال مجهولا لدى الكثير من القراء العرب التواقين لمعرفة الكثير والمزيد عن هذا الأدب الشرقي الأصيل. هناك الكثير من الروائع الكلاسيكية في الأدب الصيني في المجالات الأبرز وهي القصة والرواية والشعر والمسرح، ولكنها لم تترجم وتنقل للقارئ العربي لأسباب عديدة. الخبر السارّ هنا هو أنه مع تطور العلاقات بين الجانبين، أضحت الظروف ملائمة تماما لمزيد من التبادل الثقافي بين الجانبين العربي والصيني في مجالات الترجمة والطباعة والنشر. الصينيون المعنيون بالترجمة الأدبية تحديدا، يقولون إنهم يبذلون جهدهم لترجمة أعمال أدبية عربية بارزة إلى اللغة الصينية، وفي هذا المقال المتواضع، أشهد لهم بالجهد والرغبة الصادقة الفعلية. رصيدهم في الترجمة كبير فعلا، ولكنهم يشتكون- والحق معهم- من قلة ترجمة المعنيين العرب للأدب الصيني. آخر من طرح هذه الشكوى زملاء عمل وطلاب جامعات وعاملون في مجال الإعلام الصيني الموجه للعالم العربي. العلاقات العربية- الصينية ممتازة ومتميزة لا مجال فيها للشكوى، والأمر لا يحتاج إلا لجهد مشترك، ومزيد من التواصل اللغوي، حتى نثري مكتبتنا المشتركة العربية- الصينية، بالكثير من روائع الثقافة والأدب. هذه مقدمة جاءت سلسة في ذهني في خضم حرصي لتشاطر معرفة اكتسبتها من خلال ترجمتي لقصص جميلة من أدب الخيال الصيني هي ((مختارات من حكايات لياوتشاي العجيبة)) وتعرف أيضا بـ(حكايات عجيبة من ملتقى القصاصين)، لأن كلمة "لياوتشاي" الصينية تعني ملتقى أو مقهى شاي مؤقت، أعده صاحبه لاستقبال المحليين أو المارّين، ممن شهدوا أو سمعوا قصصا عجيبة غريبة، من قصص السحر والخيال والجن والعفاريت والأشباح والملائكة، وهلم جرّا، من حكايات جدّتي!
لقد قام الكاتب الأديب بو سونغ لينغ بجمع القصص من مختلف مصادرها، ثم أعاد كتابتها بشكل يعكس الواقع الحقيقي لتلك الفترة بكل صورها. التواصل الحضاري بين الأمم جعل من غير المستغرب أن يكون لكل أمة من الأمم موروثها الشعبي المتنوع الثري، ومنه القصص الخيالية. الأمثلة كثيرة في هذا الصدد، ولعل أبرزها حكايات ألف ليلة وليلة، درّة التاج في الأدب العربي. الصينيون يعتبرون ((حكايات لياوتشاي العجيبة))، جوهرة ثمينة في خزانة الأدب الصيني.
معاناة الأديب الإنسان ثمرة رائعة
هذه حقيقة تنطبق على كاتب هذه القصص الرائعة، الأديب بو سونغ لينغ (1640-1715)، وهو أديب من فترة أسرة تشينغ (1644-1911)، آخر أسرة إمبراطورية في تاريخ الصين. وُلد في مدينة بوجياتشوانغ تسيتشوان(تعرف اليوم بمدينة تشيبو) بمقاطعة شاندونغ، شمال شرقي الصين، في عائلة لها باع في عالم الأدب، ولكنها كانت تشهد تدهورا في أحوالها. سبب معاناته هو أنه كان يرى حكام ومسؤولي تلك الفترة فاسدين جشعين، لا يجيدون سوى فرض الرقابة القاتلة على الناس، لا سيما المثقفين منهم، ويأخذون المجتمع نحو تدهور خطير، ولكنه لا يستطيع عمل شيء لكبح ذلك التدهور، ولا يجد متنفسا لسخطه وغضبه. ويرى معاناة الناس بسبب أولئك الحكام والمسؤولين الفاسدين، ويقف، رغم مشاعره الإنسانية الفيّاضة كإنسان وأديب مثقف، عاجزا عن فعل أي شيء يواسي به الناس على أقل تقدير. كانت له مواهب أدبية ثقافية واضحة منذ صباه، ولكن نظام الامتحانات "الغبي" السائد حينذاك، طمر مواهبه، ودفعه، ومعه الكثير من المثقفين، لخيبة أمل ومعاناة مؤلمة، فلجأ للقصة ليعبر بها بصورة رمزية غير مباشرة، عما يجول بخاطره من انتقادات ساخرة مُرّة لذلك الواقع المزري، شأنه في ذلك شأن الكثير من الأدباء الإنسانيين، المرآة العاكسة لواقع مجتمعاتهم. في تلك الفترة، كان لا بد لكل من يطمح لوظيفة حكومية مرجوّة، أن يجتاز الامتحان الإمبراطوري، الذي كان يتألف من درجات هي: الأعلى "جينشي"، على المستوى الوطني، والثانية والثالثة وهما "جيويرِن" و "شيوتساي"، وتعنيان المرشح الناجح على مستوى المحافظة. الدرجة الأولى ضرورية للحصول على وظيفة رسمية في البلاط أو على مستوى عالٍ، كحاكم مقاطعة مثلا. لقد تمكن الأديب بو سونغ لينغ من الحصول على درجة شيوتساي فقط، ولم ينجح في غيرها. وإيمانا بمواهبه وسمعته الرفيعة، مُنح لقبا استثنائيا هو "قونغ شنغ" أي الشخص الذي يتم اختياره للدراسة بالأكاديمية الإمبراطورية، ولكن اللقب جاء متأخرا، ومات الأديب بعد عدة سنوات من ذلك. وفي ظل هذه الحقيقة، يمكن القول إن إمكانياته أصلا، ثم ظروفه ومشاعره تلك هي التي مكنته من إبداع هذا الأسلوب القصصي الفريد، ودفعته ليكون في مصاف الأدباء الناجحين.
إبداع عالم خيالي من الشخصيات والأحداث
أبرز ميزة للكاتب الأديب بو سونغ لينغ، عمّن سبقوه، هي أنه قام بتشخيص أو شخصنة الأشباح والأرواح لمختلف أنواع الكائنات كالبشر والحيوانات، خاصة الثعالب، والنباتات مثل الأزهار، وفي بعض الأحيان أضفى على شخصيات بشرية طابع إمكانيات الآلهة وخلودها، وقدراتها الخارقة. وبهذه الطريقة، أبدع عالما خياليا مليئا بالمخلوقات والأحداث المتصوّرة، يحكي من خلالها ما يجول في خاطره ويعتصر قلبه وقلوب معظم الناس، وما كان يحدث في مجتمع تلك الفترة. وبسبب قسوة ظلم الحكام الفاسدين والمسؤولين الجشعين، كان يلجأ لشخصيات وأحداث يبدعها خياله ليقول ما لا يستطيع البوح به مباشرة، كأضعف الإيمان. وعلى أساس خصائص واقع وظروف تلك الفترة، كانت جنيّات الثعالب، الأكثر وجودا بين شخصيات حكايات لياوتشاي العجيبة، لما تتمتع به من مزايا الفتنة والرقة والجمال. فهذه روح ثعلب طيبة، وتلك ماكرة، وأخرى ذات إمكانيات غير طبيعية ساحرة، وتلك روح ترحب بعامة الناس وتواسيهم، وترفض في الوقت نفسه مقابلة مسؤول فاسد "حمار في ثوب بشر". في كل حكاية، كان بو سونغ لينغ يهدف لعرض صورة من واقع ذلك المجتمع. أما ظلم الواقع الإقطاعي، فكان شوكة قوية تخزّ جنب هذا الأديب الإنسان. لذلك، كان يطلق العنان لمخيلته، فيبدع شخصيات لفتيات جميلات فاضلات ذكيات، يسعين لكسر القيود التي وضعها المجتمع الإقطاعي عليهن، حيث لم يكن بإمكان الرجال والنساء أن يتصافحا ما لم يكونا متزوجين، ورغم ذلك، تسعى شخصياته بشجاعة للحب الذي يتمثل ويتجسد في الجمال ورقة العبارة وحتى الأمور فوق الطبيعية كالسحر والخوارق. حكايات تقترب من الـخمسمائة، وشخصيات كثيرة وصفها الأدباء والمبدعون والنقاد بـ"كتاب يضم بين جنباته قصصا عن أرواح وأشباح الإنس والجن، والخالدين، والوحوش، ولكن لغته رفيعة المستوى تماثل الروعة الأدبية لكبار الأدباء الكلاسيكيين. وما يتضمنه الكتاب من إشارات حول الأشباح والأرواح، يختلف عما جاء في كتب السابقين. فالوصف الذي يبرع فيه بو سونغ لينغ يضفي حيوية غير تقليدية على الشخصيات. وكل هذا قد تحقق بفضل ما يمتلكه من ثقافة غنية ومهارات أدبية رائعة." وقال أديب آخر: "الشخصيات تتميز بخصائص مختلفة، وأوضاع القصص تأتي بإعداد مميز. لا يمكن أن تجد شخصيتين أو حبكتين متشابهتين في هذه القصة أو تلك. إنها رواية مختلفة متنوعة للأحداث، مصحوبة بمهارة حرفية عالية وأسلوب راق في وصف الشخصيات، ما يجعلها حقا قيمة أدبية عالية لا تُضاهى".
إنه جهد عظيم تطلب العمل الشاق والحلم والأناة وسعة الأفق، ليكون بهذا القدر من الأهمية الأدبية المتجددة، وعمق الرسالة التي حملها. وإلى جانب الأدب الرفيع المستوى والبراعة الفنية الفائقة والإبداع الخيالي والمتعة الأدبية، يتضمن الكتاب وصفا لرحلات وإشارات لمواقع وأماكن وقصور وأزقة، وعادات وتقاليد لتلك الفترة. لقي هذا الكتاب اهتماما عالميا منذ ظهوره وحتى يومنا هذا، بدءا بالدول المجاورة كاليابان وكوريا، ثم أوروبا والأمريكتين، وقد تُرجم للكثير من لغات العالم، ولاقى ترحيبا كبيرا من القراء والباحثين والنقاد المتخصصين حيثما ظهر. لقد تُرجمت سبع عشرة حكاية منه إلى العربية، على يد الأستاذ السوري الراحل علي زيتون، رحمه الله، وظهرت طبعتها الأولى في بكين ودمشق، عام 1987. وإضافة للـسبع عشرة حكاية المترجمة أصلا، تم اختيار وترجمة حكايات أخرى منه إلى العربية، على أمل أن يتعرف القارئ العربي الكريم على جانب رائع من هذا الأدب الصيني الثري. وستقوم دار النشر باللغات الأجنبية في بكين، بطبعه وتوزيعه ضمن برنامج واسع طموح لترجمة وطبع وتوزيع كلاسيكيات الأدب الصيني. ولا شك في أن ظهور هذا الكتاب باللغة العربية سيسهم في إثراء المكتبة الأدبية المشتركة العربية- الصينية. لم أشأ الغوص أكثر في عمق الحكايات الممتعة جدا، ولم أتناول الأحداث رغم كثرتها وغزارة مضامينها، ولم أعدد أسماء القصص، رغم أنها تقترب من خمسمائة قصة، ولكنني واثق تماما من أن هذه الحكايات ستضيف الكثير لرصيدكم الثقافي من النهر الخالد للأدب العالمي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق