تتكون ثقافات الشعوب من سلسلة متراكمة من العوامل التاريخية والبيئية والجغرافية والفكرية والعقائدية، بل والسياسية، وتتجلى في سلوكيات الفرد العامة والخاصة واختياراته وتفضيلاته وشخصيته وأذواقه. و لكل شعب أذواقه وآدابه على المائدة، حيث تعتبر ثقافة المائدة أحد أهم تجليات الثقافة الجمعية لأي أمة. وتحتل ثقافة المائدة مكانة هامة في حضارتي الأمتين العربية والصينية، ونالت قدرا ملحوظا من الاهتمام من أدباء ومفكري وفلاسفة الأمتين، بل كان لها دور في تشكيل وصياغة الشخصيتين العربية والصينية، بإيجابياتها وسلبياتها، على المستوى الأخلاقي والفكري والاجتماعي. والمدقق في ثقافة المائدة عند الصينيين والعرب يدرك أوجه تشابه كثيرة بينهما، فإذا كان من آداب المائدة عند الصينيين أن يبدأ الفرد بأكل الطعام الأقرب إليه، فقد أوصى النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم بذلك قائلا: "سمّ الله وكُل بيمينك وكُل مما يليك". ويعلم الصينيون مقولة كونفوشيوس: "العَالِم الذي يهاجم عقله الحقيقة، والذي يخجل من الملابس الرديئة والطعام السيئ لا يكون مناسبا للحديث معه"، كما يعلم العرب الحديث النبوي الشريف: "كفى ابن آدم لقيمات يقمن صلبه"، وفي رواية أخرى "أوده".
ويعتقد الصينيون أن شخصية المرء تظهر بوضوح خلال تناول الطعام. وقد قال كونفوشيوس: "المرء السامي يعطي الكثير للآخرين ويُبقي القليل لنفسه، يضع الآخرين أولا، ويضع نفسه أخيرا"، فالذين يبدأون بتناول الطعام قبل الآخرين، يأخذون أفضل الطعام لأنفسهم ومن ثم فهم يؤثرون أنفسهم، والذين لا يقدمون مزيدا من الطعام للآكلين الآخرين يُعتبرون أجلافا أنانيين. وخلال تناول الطعام ينبغي على المضيف أن يعرض على الضيوف أفضل الطعام من كل طبق وأن يلح عليهم مرارا ليأخذوا المزيد، تعبيرا عن الاحترام وإقامة الصداقات.
هذه المبادئ والآداب هي التي تحكم المائدة العربية أيضا، منذ قديم الزمان إلى يومنا هذا. ولكن هناك أيضا اختلافات بين الأمتين العربية والصينية في ثقافة المائدة، نتيجة للظروف الجغرافية والتاريخية والعقائدية، فبعض من طعام الصينيين لا يأكله أو لا يستسيغه العرب وبعض من طعام العرب لا يقبل عليه الصينيون ولا يفضلونه كما أن ثمة اختلافات في آداب المائدة بين العرب والصينيين، فمن عادات الصينيين الموروثة والتي مازالت موجودة إلى اليوم أن يطلب المضيف، بأدب جم، من ضيفه أن يحمل معه إلى بيته ما بقي من الطعام الذي يحبه. وقديما، عندما كانت مأدبة الإمبراطور تنتهي ويهم الضيوف الكبار بالاستئذان للانصراف، إذا كان منهم من يحب طعاما بعينه، يكلف الإمبراطور الخدم بإعداد المزيد منه له، ومرافقته إلى بيته لتوصيل هذا الطعام. وهذه عادة غير موجودة عند العرب، وإن كانت لها وجوه أخرى، فحتى وقت قريب كان الجيران، وخاصة في المناطق الريفية، بمصر يتبادلون الطعام إذا طبخ أي منهم طعاما مميزا.
وتعبيرا عن أهمية الطعام ودوره الأساسي في الحياة، قال الصينيون قديما: "بالنسبة للشعب، الطعام في المقام الأول"، ويقول العرب" الجوع كافر". ورحلة الطعام في الصين عمرها عمر حضارة الصينيين ذاتها، لدرجة يمكن معها القول بأن حضارة الصينيين بدأت من بطونهم. وكذلك الحال عند العرب الذين كانت قرابينهم للآلهة التي كانوا يعبدونها من الطعام، فقد كانت أصنام الكعبة تصنع من التمر مثلا. وإذا كان أهل مصر يقولون: "الذي بني مصر في الأصل حلواني"، فإن الكتابات التاريخية الصينية تؤكد أن فو شي، واضع أصول الحضارة الصينية، كان طباخا، ومن ثم يجوز أن نقول: "الذي بنى الصين كان في الأصل طباخا".
وعلى الرغم من افتتان العرب بالشواء وولعهم المعروف بالأطعمة المشوية، فالحقيقة هي أن الصينيين كانوا أول من اخترع واستخدم النار في الشواء، وبعد أن كان الإنسان الصيني يأكل الطعام نيئا صار يشويه. ويذكر كتاب صيني قديم يحمل عنوان ((تشو لي)) أي "طقوس تشو"، والمقصود هنا أسرة تشو (1064 – 256 ق.م)، أن أول من اكتشف النار في الصين واستخدمها في الشواء شخص أسطوري اسمه سوي رن شي. وقد ظل الصينيون مئات السنين يشوون طعامهم في النار المفتوحة، سواء مباشرة على اللهب أو على ألواح حجرية تُحمى بالنار، قبل أن يعرفوا طريقة أخرى لطهي الطعام هي السلق. وكان أسلوب السلق الأول عبارة عن وضع أحجار ساخنة في أوعية من الخشب والحجر والجلد مملوءة بالماء حتى يصل الماء درجة الغليان. وقد أدى اختراع الصينيين للأواني الفخارية إلى جعل عملية غلي الماء وسلق الطعام أكثر سهولة، حيث يمكن وضع الوعاء الفخاري مباشرة على النار.
كان التطور التالي في الطهي عند الصينيين هو الطبخ على البخار، إذ تشير المكتشفات الأثرية في الصين إلى أن أوعية الطعام المطهو على البخار كانت مستخدمة في زمن أسرة ين (القرن 14- القرن 11 ق.م). ومازال أشهر أنواع الخبز الصيني الذي يسمى بالصينية "مانتو" يُنضَج على البخار، ومازال الصينيون يطهون الأرز على البخار حتى يومنا هذا. في بقعة أخرى من أرض الشرق، اكتشف المصريون القدماء النار واستخدموها، ليس فقط في طهي الطعام وإنما أيضا في صناعة الخزف، الذي استخدموه، مثل الصينيين، أوعية للطعام. كان المصريون يطهون بعض الأطعمة باستخدام أفران تُشعَل من أسفلها وعلى سطوحها ثقوب وانخفاضات دائرية مختلفة السمك والحجم؛ مما يسمح للطعام بأن يُطهى عند درجات حرارة مختلفة.
في الصين، بعد الأدوات الحجرية والأواني الفخارية ظهرت أواني الطعام المصنوعة من البرونز، ثم من الحديد، ومن أشهر تلك الأوعية ما يسمى بالصينية دينغ، وهو وعاء له ثلاث أو أربع قوائم تجعله مستقرا عند وضعه على الأرض. وكان دينغ، إلى جانب استخدامه كوعاء للطعام والماء، يستخدم أيضا في الطهي بوضعه فوق النار. وفي زمن أسرتي شانغ وتشو كانت أواني دينغ البرونزية والحديدية أدوات مطبخ ومائدة ذات قيمة عالية في ذلك الزمان. ونظرا لارتفاع تكلفتها كان يقتني أواني دينغ الأثرياء وأصحاب النفوذ في المجتمع، وصارت رمزا للوجاهة والثراء والمكانة العالية والوضع الاجتماعي، وفي النهاية باتت رمزا للسلطة الإمبراطورية. وخلال فترة أسرة هان الإمبراطورية بدأت أدوات المائدة الخزفية في الظهور، واستمر تفوق الصينيين في صناعة الخزف، حتى صارت الأدوات الخزفية تسمى عند العرب "الصيني"، وفي الغرب يسمونها "تشينا"، أي الصين.
وإذا كان يُعتقد أن المصريين القدماء هم أول من اكتشفوا الملح واستخدموه في حفظ الطعام، وبخاصة الزيتون، كما استخدموه في الطب وفي التحنيط، فإن الصينيين لهم قصب السبق في استخدام التوابل، حيث لم يكن مفهوم تتبيل الطعام موجودا في عصور ما قبل التاريخ في الصين. وتشير كتابات صينية قديمة إلى أن الصينيين في زمن أسرة شانغ كانوا يستخدمون أنواعا معينة من البُهارات. وعندما كان إمبراطور أسرة تشو يقدم القرابين أو يقيم مناسبات كبيرة لضيوف على درجة عالية من الأهمية، كان عدد أنواع الصلصة المتبلة على المائدة يصل إلى مائة وعشرين نوعا. ولا عجب في هذا، فالصين بها أكثر من خمسمائة نوع من البهارات، وتضاف الصلصة لكل الأطعمة الصينية تقريبا، وحتى اليوم عندما تدخل مطعما صينيا تجد على كل مائدة قنينة صلصة، وأخرى بها الخل الأحمر.
وقد كان لدى المصريين والصينيين قديما كثرة وتنوع من الأطعمة، ففي مصر، وبفضل وفرة ماء نيلها وخصوبة تربتها برع المصريون في الزراعة ووفر لهم النيل الأسماك والطيور البرية، بينما استأنسوا الدواب من أجل الحصول على لحومها. وكانت وجبات المصريين القدماء في العادة مصحوبة بمشروب من الجعة التي تصنع من الشعير، ولكن الأثرياء كانوا يتناولون النبيذ مع الطعام. وكان الطعام، ومازال، يمثل جانبا بالغ الأهمية في المهرجانات وغيرها من احتفالات العرب.
واعتبارا من عصر ما قبل الأسرات في مصر، كان الخبز المصنوع من حبوب الغلال هو الطعام الأساسي للمصريين. وكان الطحين يخلط بالخميرة والملح والتوابل والحليب؛ وأحيانا بالزبد والبيض. وكان الخليط يعجن باليدين، في أوعية ضخمة. وكان الخبز في النهاية يسوى على شكل أقراص، ثم يوضع فيما بعد داخل قوالب بأشكال مختلفة؛ أو يشكل يدويا كملفوف دائري أو طويل، أو في هيئة أشكال للأغراض الاحتفالية. وكانت الأرغفة السميكة تجوف أحيانا وتملأ بالفول أو الخضراوات. وكان الخبز المسطح يصنع بحواف لكي يحتوي على البيض أو غير ذلك من أنواع الحشو. كما كان الخبز يحلى أيضا بالعسل والتمر والفاكهة.
أما الفلافل، أو الطعمية، فهي طعام عرفه قدماء المصريين ومن بعدهم استمر أقباط مصر في صنعها بعد دخول المسيحية، ثم بعد الفتح الإسلامي استمرت بين المسيحيين والمسلمين كطعام شعبي أصيل ورخيص ومغذ. ثم انتقلت الفلافل إلى سورية وفلسطين قبل أربعة آلاف سنة وأُدخل الحمص كبديل للفول في إعدادها.
وإذا كان الذين يكتبون عن الأطعمة في الصين الحديثة يؤكدون دائما على أن الصينيين يأكلون كل ما يقف على أربع إلا طاولة الطعام، وكل ما يطير في السماء إلا الطائرة، وكل ما في البحر إلا السفينة، فالحقيقة هي أن الطعام في الصين متنوع بشكل لا مثيل له في أي مجتمع آخر، وفي أسواق الخضار واللحوم والدواجن الصينية ترى أنواعا من الخضراوات ربما لا تؤكل في مكان آخر غير الصين.
وعلى المائدة يتحدث الصينيون دائما عن القيمة الغذائية لكل صنف من الطعام. وتقول الكتب الصينية إن الصينيين كانت لهم نظرية حول التغذية المتوازنة منذ فترة الربيع والخريف- الدويلات المتحاربة. وحسب تلك النظرية القديمة، تتكون الوجبة المتكاملة من خمسة أنواع من الحبوب الرئيسية، تكملها خمسة أنواع من الفواكه وخمسة أنواع من لحوم الحيوانات المستأنسة، وتتمها خمسة أنواع من الخضراوات. والنباتات الصالحة للأكل ليست فقط الحبوب والخضراوات وإنما أيضا العديد من الأعشاب والفواكه والزهور والفطر. وتشير الإحصاءات إلى أن الصينيين يأكلون أكثر من ستمائة نوع من الخضراوات. وهم يأكلون من النبات كل شيء فيه، الجذر والساق والأوراق، ويستخدمون في طعامهم كل أجزاء الحيوان والطير، ومنها الأذنان واللسان والأجنحة والغشاء والأعضاء الداخلية، أما الجلد فيجفف ويحمص، ويستخدم الدم المتخثر في العديد من الأطباق والحساء، وإن كان هذا التوجه يقل حاليا.
والأصل عند العرب أن الطعام كله مقبول إلا ما حرمته عقيدة معينة أو منعته أسباب صحية، وقد جاء في القرآن الكريم "لا تحرِّمـوا طيِّبـات ما أحـل الله لكم ولا تعتـدوا".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق