الأربعاء، 6 ديسمبر 2017

عن عنوان كتابي الكتابة على جلدة الرأس


الكتابة على جلدة الرأس

انتقال عنوان مقال إلى المقعد الأوّل في الكتاب  أي تحويله الى عنوان  يعطيه حياة جديدة ودلالات أيضا جديدة تتعدّى إطار المقال فيرخي بظلاله  الدلالية على سائر المقالات
ومن يتتبع عناوين الكتب ويقرأ سير العناوين، يعرف ان هنال عناوين مسودة تبقى في الظلّ، وقراءة العناوين في شتّى حالاتها من الأمور التي تستهويني، وكنت منذ اكثر من عشر سنوات قد اشتركت في مؤتمر أقامه مركز اللغة والتواصل  في الجامعة اللبنانية في بيروت ، وكان بحثي  الذي قدّمته بعنوان سيمياء العناوين، وقد اعتبرت الغلاف حلبة مصارعة بين مجموعة من العناصر، فالغلاف يتضمن اسم الكاتب واسم الكتاب ودار النشر وصوراً أو أيقونات أو ألواناً، ويمكن للمرء ان يجيل نظره في مواضع  ومواقع هذه العناصر افقيا وعموديا ليستخرج منها دلالات ذات صلة بأغراض الكتاب.
كما اعتبرت او تعاملت مع عنوان الكتاب وتحولاتها عبر الأزمنة والأمزجة.
واعتبرت يومذاك ان العنوان يمكن ان يكون قريبا من مفهوم ال adn، بمعنى انه يكثف مضامين كتاب ما، وكان الناقد الفرنسي جيرار جينيت قد اشتغل على ذلك في كتابه البديع" العتبات " ، والعنوان عتبة من عتبات الكتاب.
والعنوان بحسب درسة علمائنا الافاضل من معجميين ولغويين قد توقفوا واختلفوا عند معنى العنوان، فمنهم من ذهب به نحو المعنى ومنهم من  اعتبره بمثابة العنان الكتاب او مقود الكتاب.
كتابي في اللغة، وحين اقول في اللغة فانما اقصد بذلك اللغة وهي تمشي في اسواق الناس، وتتفوه بها السنة الناس.
وكلّ صاحب كتاب يصاب بحيرة عنوانية اذا صح التعبير. الا من رحم ربي او آزرته الأقدار تماما كما طريقتنا في تسمية ابنائنا.
الكتاب مجموعة من مقالات ، وهي خمسون: تتناول زوايا مختلفة من اللغة، منها ما يتعلق بكيفية تحبيب ابنائنا بالقراءة للكتب العربية، وتقويم ألسنة النشء ، فاستعنت بالدراجة الهوائية  في بلورة فكرتي.
وبما ان الكتاب يتألف من خمسين مقالا فهذا يعني انه كان يمكن ان يملك خمسين عنوانا افتراضيا، يضاف اليها احتمالات اخرى من خارج عناوين المقالات، وهذا كثيرا ما يحدث في عالم العناوين.
كان عنوان الكتابة على جلدة الرأس هو المنتصر في معركة العناوين، رغم عدم رضى كثير من الاقرباء والاحباء  وربّما بعض الحاضرين هنا أيضا عن العنوان إذ وجدوه عنوانا صادما بل  " مقرفا" و " مقزّزا"  احيانا.  ولا اخفيكم اني استعنت بموقع غوغل لسببين لأعرف إن كان قد سبقني أحد إلى اختيار هذا الاسم، ولكن أيضا لسبب ثان هو  معرفة ما سيقدّمه لي من صور   وضعت العنوان "الكتابة على جلدة الرأس"    فانسدلت امامي صور كثير منها لا تسرّ الناظر.
والعنوان المختار ليس أكثر من صورة فوتوغرافية لواقعة تاريخية حصلت في العصر العباسي، واقعة تحمل دلالات كثيرة، ولكني نظرت إليها من وجهة نظر عالم لغويّ جليل هو ياكبسون الذي حاول رسم معالم الرسالة والمرسل والمرسل اليه، والعلاقة  التي تبنى بينهم. وشاءت المصادفات أن ينتهي الكتاب بمقال وضعت له عنوان " الخلاف على الغلاف"، وكيف ان تحويل الغلاف الى رسالة قد يؤدّي الى توتّر بين المرسل والمرسل إليه.
من يتأمّل عناوين الكتب يجد ان مروحة اختيار الكاتب واسعة نسبيّاً، ولكن في العربية،   والتراث السامي عامّة، ثمّة طريقة في العنونة استلهمتها أو وقعت أسيرا لها وهي ان بعض الكتب تأخذ عنوانها من الكلمة الأولى فيها، أو من إحدى صيغ الجذر، فالقرآن الكريم على سبيل المثال أخذ اسمه من أوّل كلمة من كلمات التنزيل وهي " إقرأ"، وديوان الحماسة الذي اختاره الشاعر العربي الكبير انّما انتقاه الشاعر بسبب أن أوّل غرض تناوله كان شعر الحماسة، ولو اختار الفخر لكان صار اسمه ديوان الفخر مثلا.
وبما ان المقال الأوّل في كتابي يحمل عنوان " الكتابة على جلدة الرأس" راودتني نفسي اتباع سنّة كلاسيكية عربية وساميّة.
وكلمة " الجلدة" ليست غريبة عن عالم الكتب وعالم الكتابة، فالكتابة كانت تستعين بالجلد، وما زالت الجلدة صديقاً حميماً للكتابة حتّى ولو توارت عن الأنظار، فقد يكون كتاب ما مؤلّف من عدّة " مجلّدات" ولكنّها خالية من الجلد. و " تجليد" الكتب لا يعني بالضرورة وجود " جلد" للتغليف!

في أيّ حال، كل ما أتمنّاه لكتابي أن يكون شيّقا، ومحبوبا فيقرأ من الجلدة إلى الجلدة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق