الخميس، 7 ديسمبر 2017

كلمتي في الندوة حول " الكتابة على جلدة الرأس"، مع الشكر لكل الذين كَبُرْتُ بحضورهم.

أشكر مركز الثقافة في الفيحاء، وعنيت مركز الصفدي، الذي يؤدّي دور الرافعة الثقافيّة على تنوّع تجلّياتها ومجالاتها من مسرح، وسينما، وموسيقى، وغناء، وتعليم لغات، ومكتبة عامّة دائمة التجدّد، وندوات متعدّدة المنازع، ومنها ندوتي هذه. والشكر لمديرة المركز الدكتورة نادين العلي
وأشكر الناشر الصديق ناصر جرّوس ويدَه اليمنى والميمونة الأخت العزيزة رندة جرّوس.
وأشكر أيضاً الصديق الذي عمل في الكواليس الصفديّة وقصدت الدكتور مصطفى حلوة.
أشكر رفيق الرحلات البيروتية الكثيرة الدكتور والصديق جان جبّور الذي منحني ومنح كتابي شيئاً من وقته، فأمتعني بحضوره وكلمته، كما أمتعكم بحضوره وكلمته.
وأشكر الصديق ، صديق الدراسة وصديق التدريس وصديق ما بينهما، الدكتور يوسف عيد الذي ألقى نظرته الماهرة في الشعر والنقد والرسم فرسم صورة ملونة بالكلمات عن كتابي.
وأشكر الصديقة الدكتورة ديما حمدان التي أطلّت من عالمها الرقميّ إلى كتابي، وأنا من المؤمنين بالصلة الروحيّة التي تربط بين العالم الورقيّ والعالم الرقميّ، وهي صلة يخشاها البعض، ولكني أعرف أنّ الأدب صدره رحب، ويعرف كيف يبني علاقة حميمة مع العالم الرقميّ، وإن كان العالم الرقميّ يتعامل مع الضوء، حيث ورقته هي شاشة تستعين بالضوء، فإنّ الحرف العربيّ حرف ضوئيّ بامتياز، وليس هذا الكلام من عندي، فالعرب القدامى قسموا الحروف العربية بطريقة جميلة جدّا، طريقة شاعرية ونورانيّة، فالحرف العربي حرفان: حرف شمسيّ وحرف قمريّ. من هنا، لا أستبعد مقدرة الحرف العريي على بناء علاقة حميمة مع العالم الرقمي أو الضوئيّ. فالحرف العربيّ والعالم الرقميّ من جبلّة ضوئيّة واحدة!
وأشكر الصديق مايز الأدهميّ رئيس تحرير جريدة الإنشاء التي كانت تستقبل كلماتي بالأهلا والسهلا.
وأشكر كلّ الإعلاميين الذين يواكبون بأقلامهم وعدسات كاميراتهم هذه الندوة.
كما أرحّب بكلّ الذين حضروا من أصدقاء وزملاء وطلاّب أعزاء ومهتّمين بالشأن الثقافيّ في الفيحاء.
أشكركم من القلب، وآمل أن لا تخرجوا من هذه الأمسيّة بخفيّ حنين!
وأشكر كلّ من اختلس من وقته وقتا لمشاركتنا حفل اطلاق كتابي الثاني " الكتابة على جلدة الرأس".
وبعد،
أحبّ اللغة العربيّة، ولأنّي أحبّها، أحببت كرمى لعينيها كلّ اللغات. ومن باب اللغة العربية دخلت إلى عالم اللغة الرحيب والفاتن، وما قرأت عن لغة من اللغات إلاّ وكانت عيني على اللغة العربيّة. تعلّم لغات الآخرين ضرورة تكاد أن تكون فرض عين لا فرض كفاية، ولكن ليس على حساب اللغة الأمّ. ولأنّي على يقين بأنّ الإنسان لا يمكنه أن يعرف نفسه إلاّ من خلال معرفته للآخرين. ولنا في العين أسوة حسنة، العين تريك أشياء كثيرة ولكنها تعجز عن أن تريك نفسها إلاّ عبر الآخر، وقد يكون هذا الآخر مرآة، وقد يكون بؤبؤ عين الآخر.
ومن هنا كان اهتمامي بلغات الآخرين، واحترامي لكلّ اللغات، فاللغات كأسنان المشط، ولكن لتوضيح علاقتي مع لغات الآخرين أستعين بنقطتين:
- النقطة الأولى هي عنوان كتاب لناقد عربيّ بديع ومبدع من المغرب أعتبر مؤلّفاته كلَّها بمثابة أساتذة أجلاء لي، وهو عبد الفتاح كيليطو، والعنوان: أتكلّم جميع اللغات لكن بالعربية.
- النقطة الثانية آخذها من ملعب مدرسة صينيّة يدرس طلاّبها اللغة الإنكليزيّة: سأل أحد الصحفيين ، ذات يوم، تلميذا صينيّاً السؤال التالي: لماذا تدرس اللغة الإنكليزيّة؟ كان جواب الطفل الصينيّ غريباً على سمعي. وأظنّ أنّه سيكون، أيضاً، غريباً وغير متوقّع، ( واللامتوقّع ، فيما يبدو، رفيق درب المرء إلى الثقافة الصينيّة) قلت سيكون، أيضاً، غريباً على سمعكم فيما أظنّ. أجاب الطالب الصينيّ : أتعلّم اللغة الإنكليزيّة لأنّني أحبّ اللغة الصينيّة. تعلّم لغات الآخرين - في نظر الصينيّ - تعلّم يخدم قضيّة وطنيّة. قلت بيني وبين نفسي: ما عدد الذين يفكرون هذا التفكير الطريف في عالمنا العربيّ؟
ولا أظنّ أنّ جواب الصينيّ الصغير يغاير عنوان كتاب عبد الفتاح كيليطو.
من هنا يجد قارىء الكتاب استشهاداتي من لغات غير عربية، فقد يكون الشاهد من لغة صينية أو عبرية أو تركية أو كوريّة أو إيرانية أو يابانية أو ألمانيّة أو إنكليزيّة أو عربيزيّة . كلّ شاهد يساعد في توضيح فكرة لغوية تدعَم أو أظنّ أنّها تدعَم اللغة العربية أعتبره حليفاً حصيفاً للغة العربية.
وبما أنّ اللغة بوجهين، ولست أقصد هنا بالطبع المعنى السلبيّ الشائع للوجهين، ولكنّ هذه هي طبيعة اللغة الحضارية، والعربية لغة حضاريّة بامتياز رغم كلّ ما هي عليه اليوم من وهن نسمعه أو نراه. وقصدت بالوجهين : الوجه المنطوق والوجه المكتوب. وذهب اهتمامي إلى المنطوق والمكتوب معاً. وهذا ما نراه في مقالي الذي يحمل توصيفا لواقع لغويّ لا يمكن نكرانه تحت عنوان " الحرف العربيّ الجريح"، كما تناولت ظاهرة الكتابة بلغة النت والتي سمّيتها أيضاً بالـ " الكرشونيّ المودرن" . ونحن نعرف أن لا وجود للغة كرشونيّة كما لا وجود للغة النت، وهو تعبير شاع استخدامه على الألسنة، لأنّ تغيير الحرف لا يعني تغيير اللغة، فانتقال التركية من الحرف العربيّ إلى الحرف اللاتينيّ لم يكن انتقالاً من اللغة التركية الى لغة أخرى، وإن كان انتقالا من ايديولوجيا إلى أخرى. وهنا يكمُن الخطر. اللعب بالحرف هو لعب بما هو غير لغويّ، لعبٌ ايديولوجيّ وفكريّ وحضاريّ، وهذا ما تناولته في مقالي "العصر الذهبيّ للحرف اللاتيني". فالحرف اللاتينيّ ، اليوم، قدر مكتوب على الأصابع والعيون! ولا يعني هذا الاعتراف الاستسلام له بقدر ما يعني الاستعانة به على طريقة ذلك الطالب الصينيّ.
كما كنت أتساءل: أين مكمن صعوبة اللغة العربيّة، وكيف ننقذ شفتي الطفل من الأخطاء في القراءة ؟ فكان مقالي " درّاجة اللغة" وطرحت فيه فكرة استلهام طريقة تعليم اللغة العربية من طريقة تعلّم الطفل ركوب الدرّاجة الهوائيّة. فالطفل يتدرّج في تعلّم ركوب الدرّاجة ، والدرّاجة نفسها تتغيّر من دراجة ذات أربعة دواليب إلى دراجة ذات دولابين، والدولابان اللذان تنتهي مهمتهما هما الدولابان الموجودان على طرفيّ الدولاب الورّانيّ أو الخلفيّ، فاعتبرتهما بمثابة الحركات الإعرابيّة التي تتوارى عن الأنظار في أغلب الكتابات العربيّة.
اللغة لا مفرّ منها حتّى في الأمور التي لا علاقة لها باللغة، حتّى الرياضيات تتداعى وتتفكّك في حال أدارت ظهرها للغة، وإن كان في الحدّ الأدنى. من هنا قلت: على اللغة أن تفتح قلبها وأبوابها لكلّ العلوم وهذا ما قلته في مقال " النحو وصلاة السهو" ، ومقال " البيولوجيا والحكاية" .
اللغة السليمة، المعافاة، هي اللغة التي لا تؤمن بالتمييز العنصريّ بين عناصر وجودها.
أكتفي بهذا القدر، وأرجو أن تمتعكم قراءة " الكتابة على جلدة الرأس" كما أمتعتني كتابته.

وكلّ كتاب وأنتم بخير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق