السبت، 9 ديسمبر 2017

كلمة الدكتور #يوسف_عيد في ندوة أمس في #مركز_الصفدي حول #الكتابة_على_جلدة_الرأس. له الشكر والمودّات.


​​​كلمة الدكتور يوسف عيد في
​​​ندوة كتاب : " الكتابة على جلدة الرأس " . ​​​
​هل كتابة على الرأس أو كتابة على كل رأس أو كتابة على رأسي ؟ وصلتني نهارا فأسريت بك ،
​لقد ساهرتك فـتـقـمـــّــرتـك برغم سمائي الملبدة، لأني في الليل أشطف زومـاً وأرشح . وفي النهار أتقسّــم وأتبـــذّل .
​في الليل يجتمع كلّـه فـوق كلّـه ، وفي النهار كثيري قليل وقليلي مع الليل كثير ، قد يستمليني
النهار بضحضاحِــه فَيُـقنعني ، لكن الليل يستعطفني بهالاته فيغلبني لأرشح وأتمنــدل . فالنهار داعر عاهر
والليلُ عفيفُ الإزار ، نقيُّ العِـرض . زبـدة المـَــحضِ أنني قـرأتـكَ ليلا عرضاً وطولاً كما أقـرأ ذاتي في ذاتــي .
قــرأتـك وكلّـنــي ذاك الفعـلُ المقدسُ الذي هو " أقـرأ " ، وقد استنبعـت مِــدادي ولم تبلبلني بالرغم من انك بلال
​مقالك المتـنـوّع ، المتشعّــب ، المتشظــي ، يُشعرنـي في بــداءتـه ، بغرابة عالمك وغروبـه عنـي .
إنـه عالم الدهاليز وأنا لا أحـبّ الدهلـزة ، عالم الجماجم ، ولا أحبّ الجَـمجمَـة ، ، عالـم الطلاسم ولا أحبّ الطلسمة ،
أجل ! عالــمُ غصّــةٍ وخنقـةٍ وإنْ بــدت اللغة مقصـداً في كل مقصـد . لقد استملكتَ ذهنـي ، فرحتُ
أقضـم الكلماتِ وأنهشُ المعاني وألـوك الصفحات . أُرغمت على اللحاقِ بـك في تصوير الأهكومــة
​​​​​1 ​​​​​​​
العظمى ، أهكومـةِ الحياة ، ولا أنكــرُ خـانـوقَ وجودنا في مـآسيـه . أيـن المفّـر من المخطوط في
أعصابنا ؟ وأين الهرب من الذي سُطّــر في لحومنـا ؟ لذلك لا ألومـك ، إنـه عالمك المكتوبُ على
جبينك ، وقد خـرج من يـَـراعــك بحلّــو مجــــازٍ وزُلالِ عبــارة . أشهدُ أنّك من أماثـل أدبائنا في مزاولة
الكلمة الضاربـة ، تداعبها فتأتي من خالص الذهب وقد استعرت لها شبه " سوسير" ( Saussure )
( 186 ) من أنها حجرُ حصان في لعبة الشطرنـج ، والذي يلعبُ بالذهب ليس كمن يلعب بالخشب .
تعطيها القيمة بدلالتها بالسياق وليس قيمتها بـــ " سنكلّيـتها " ( single ) ، فرديّــــتـها ، غازلـــتُ
كلماتِـك فإذا هي لـؤلـؤٌ منضودٌ وتبــْر مسبوك ، ولو أهمَلتَ بعضَ نصوصك في التحريك وحرّكت أخرى ،
لكنك بطـّــاش أخّــاذ . حين قرأتُ عنوانك ، تبـّـرمّـت ، لكن حين تصفحتـك ، وقعت على فجواتك .
ومع ذلك ، فَــنّـك بعيد الغايـة ، رفيع الطبقـة ، دقيقُ السلكِ ، رقيق الحاشية ، يجعلك من حاكة القصة
وصاغتها بلباس لغوي رئيس.
بــــــــــــــــــــــلال :
شخصك ليس من حوك الظنون . فعينك حَيّــزت من زمن "ابن العيد" . وعشرتُك تُدغِمُ وتَحـادثـك يَدمَغْ،
فأنت كمن مَلَك أيماني منذ زمنٍ . نفـنـافٌ ، مشرقٌ ، بــلالٌ ، كلّـه تـناغُـم . كلّـه مَـراوح فوّار .
طَفَحَـت عليك نشوةُ الطرب ، فاستحـرّت بكهـراب الحياة ، وبَــــرقَـت ثناياك ولمعــت أساريرها وهَشَّـــت
​​​​​​2
وبَشَّــت ، فما أعظم الباري في مواجيد البشر . فبـيـنـي وبين لياليك ، ما بين اللطائف والكتائف .
لقد دهشتُ وسررتُ إذْ تحقـقّ خاطـرٌ لـي . كم اجتاحنـي في التـناظـر بيني وبين عيني ،وأنتمنذ كمشة من الزمن عيني .
الاسلوب ليس الإنسان ذاتُـه . الزاعمُ بالعكس كان مخطئاً . الأسلوبُ أخدوعـةٌ كبرى ـــــــــ فالحديث
عن الإعلام ( 196 ) يُسبّـب " l’infobésité " ويعني المكثّـف ، حين أردفت قائلاً إنه يُسبّب
الكولسترول الفكري ولعلّـه يكذّب الواقع ويختصره . يوشّـي ، ينمّـق ، يزخرف ، يطرّز ، يزوّق ، أما انت فتجاوزت
مستعملاً فعل "مـزمـز" للنص أو ارتشف في حديثك عن نصّ التوحيدي ) 202 (
وربما افتريت علينا حين لجأت إلى التكرار في فصل الألوان وحكاية الأعمى كيف يميّز بينها ، غير
أنه لم تلجأ كغيرك الى التحطيب ، بل أبقيت على ذوقك في أراجيحـــــه الهـزّازة ، ولم تتهـــيّــب نــــقــدَ
معاجمنا الكسولـة والجبانـة ، وكأنها تمشي على بيض ( 161 ) .
وبالرغم من حديثي عن تـفييلـيّــة الأسلوب ، غير أنّك لم تكن ذا مودّة كاذبـة مكذوبـة ، تداهـن
وتمالـح وتماكـر ، ولم تنصب للقارىء حبائـل . فقد تـناصرت النصوص على هذه الحقيقة التي عُــــــــدّت
عندي منـزّهـة عن فِطـان الرَّيـب . الأمثلة لا تحصى ولا تُحصر : فاللغة كالأكل وأرحام الأبجديات كأرحام
الأمهات ، وقد نقرت بقولك ان الميتالغة هجينة ، وأسأل : أهي الفسبكة دجينة والميتالغة هجينة ؟ . فقد ينقصك
​​​​​​3
بعض المساند حين ينقل عن أبي حيّـان التوحيدي . ( 165 ) فالكتابة على الرأس يحوجها بعض المساند ليرتاح اليها الرأس. أما عبارة الكلام على الكلام ، فهي
ربما تسيء إلى الكلام باتهامه بالفراغ وبعدم الجدّة والسخافة إذ إنها أضحت عبارة عاميّة للإستهزاء ،
كلام بكلام أي وعود كاذبـة . أو قولك : أين نحن من سفينة معجمية جديدة ؟ ( 168 ) فأسأل:
هل جاء الطوفان ؟ أو أين هو ؟ فَنُــوح كان منقـذاً نبيّـاً ، فأين النبي المؤهّــل اليوم ؟ أو تفتكر انك نوح؟
​في مقطع " عيون من ورق" ، إستـلّ بلال عبارة كونفوشيوس بقوله : "إنّ الصورة الواحدة أبلغ
من ألف كلمة " . نعم ، لقد أصاب بلال في هذا المستلّ ، فنحن في عصر المرئي . لاقيمة للسمع من دون رؤية ،لا قيمة للكلمة من دونفيلم ، لا قيمة للموسيقى من دون عري والشيطان في التفاصيل . ​
​وفي رأيـي ، قد كنت موفقاً جداً في غرابة ما تراه كيف أنّ المآكـل توحّد الأديان ، وَفَاتَـــك توحيـــد
المصطلح بين ( الكوسكوس أو الكسكس ) كالكبسة السعودية والمنسف الأردني . ثم دلـجت لتقول إنّ
الكلمة كالماء ليست من هواة تسلّق الجبال ، تكـرج إلى المنحدرات ، لكنك نسيت أنّ المياه تنبع من الجبال
وليس من المنحدرات . ثم تقارن بين الدين والأكل ، ذاهباً إلى تعداد أنواع الأكل على اختلاف المناطق.
ولعلّـه أنجح نصّ بين النصوص الناجحة لأنه يضرب على عروق هذه الأيام ( 212 ) .
​​​​​​4 ​​
خــلاصـة الملحوظـة :
إنّ الأسلوب ومعيوش حياتنا قد يتخالفان ، ويدور في باب التعزية التي تدور على المفقود . تلك هي
العقدة النفسية وكلّنـا معقّـدون .
العقدة أنّ كياننا مـثـغـور ، من هنا مساحب الهواء في هذا المؤلف ، التي تجعل ظاهرنا المفلوش غير باطننا المكموش .
إنك صاحب رسالة أورفليسيّـة ، لا يختص ببيئة دون أخرى أو شعب دون آخر أو موضوع دون آخر.
إنسان شغوف بمطلقات المطلق الواحد ، المشدود إلى عموميات العام الواحد ، المحدّق بظواهر وبواطن
المظهر الواحد أي الباطن الواحد . كل ذلك هو ذات الهادي بلال عبد الهادي الذي تقصّـد الكتابة على
جلْدة الرأس ليدرك باطن الرؤيا ، ليست كتابة على جلدة المياه أو على جلدة غيمة ، ولربما الكتابة على
الحجر أهون سبيلاً من الكتابة على الرأس . يُعلنها ثورة كوبرنيكيّـة في علم الإجتماع . لذلك ، تتمعّج
كلماتك لتخلد إلى صمت سـاجٍ ، والسجو الى صراخ داج . موضوعات الكتاب فرسـان تــتـصاهل في طرد المسافات والمفازات في
وهج لغة عشق سمندري . عالمك متهدّج ، متطوطح ، نزيل اللغة المتمسكة به ، تدل على أنك قبضت على
مفاصل التغيّر والتحوّل والإنقطاع والانبثاق ، فاندلقت منها شلالات من مراهف المعرفة ونيـط من متألقات
الكشوف . وإن تباعدت العناوين ، ففيها سلك نظيـم يُغنـغنها بـلال المغنغـن الرئيم وكأن ليس كحقله شيء
بل لمثله ليس شيء ، وهذا يعني سحراً حلالاً في الجمال . ​​
​​​​​​5 ​​​​​​
وبيقيـنٍ حازم يا بلال ، إنّ أدبك فيه من السحر الذي لا يحتاج إلى عصا وحبال ، ومرافع وسلالم وأضواء وستائر وراقصين وخفة وخفاف ومسارح .
أدبك ميزان شاهد على الغائب في حاضرك ،
على الباطن في ظاهرك وقد صورخت في رسم الباطن الغائب
كما زوبعْت في يوميات الحاضر الظاهر . وبذلك أعلنك
عميداً لأدبائنا وليس رئيس قسم في اللغة العربية عابـراً ، في هذا المقام . هل عرفت لم قرأتك في الظلام ؟ لأتوجك بياسمين الكلام ، واستعير من فيحائك الليمون والخزام ، وأتقي على من حضر لمحبتك التحية والسلام . ​
​​​*** ​​​*** ​​​***


​​​​​​6

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق