كلمة الدكتور يوسف عيد في
ندوة كتاب : " الكتابة على جلدة
الرأس
" .
هل كتابة على الرأس أو كتابة على كل رأس أو
كتابة على رأسي ؟ وصلتني نهارا فأسريت بك ،
لقد ساهرتك فـتـقـمـــّــرتـك برغم سمائي
الملبدة، لأني في الليل أشطف زومـاً وأرشح . وفي النهار أتقسّــم وأتبـــذّل .
في الليل يجتمع كلّـه فـوق كلّـه ، وفي
النهار كثيري قليل وقليلي مع الليل كثير ، قد يستمليني
النهار بضحضاحِــه فَيُـقنعني ، لكن الليل
يستعطفني بهالاته فيغلبني لأرشح وأتمنــدل . فالنهار داعر عاهر
والليلُ عفيفُ الإزار ، نقيُّ العِـرض .
زبـدة المـَــحضِ أنني قـرأتـكَ ليلا عرضاً وطولاً كما أقـرأ ذاتي في ذاتــي .
قــرأتـك وكلّـنــي ذاك الفعـلُ المقدسُ
الذي هو " أقـرأ " ، وقد استنبعـت مِــدادي ولم تبلبلني بالرغم من انك
بلال
مقالك المتـنـوّع ، المتشعّــب ، المتشظــي
، يُشعرنـي في بــداءتـه ، بغرابة عالمك وغروبـه عنـي .
إنـه عالم الدهاليز وأنا لا أحـبّ الدهلـزة
، عالم الجماجم ، ولا أحبّ الجَـمجمَـة ، ، عالـم الطلاسم ولا أحبّ الطلسمة ،
أجل ! عالــمُ غصّــةٍ وخنقـةٍ وإنْ بــدت
اللغة مقصـداً في كل مقصـد . لقد استملكتَ ذهنـي ، فرحتُ
أقضـم الكلماتِ وأنهشُ المعاني وألـوك
الصفحات . أُرغمت على اللحاقِ بـك في تصوير الأهكومــة
1
العظمى ، أهكومـةِ الحياة ، ولا أنكــرُ
خـانـوقَ وجودنا في مـآسيـه . أيـن المفّـر من المخطوط في
أعصابنا ؟ وأين الهرب من الذي سُطّــر في
لحومنـا ؟ لذلك لا ألومـك ، إنـه عالمك المكتوبُ على
جبينك ، وقد خـرج من يـَـراعــك بحلّــو
مجــــازٍ وزُلالِ عبــارة . أشهدُ أنّك من أماثـل أدبائنا في مزاولة
الكلمة الضاربـة ، تداعبها فتأتي من خالص
الذهب وقد استعرت لها شبه " سوسير"
( Saussure )
( 186 ) من أنها حجرُ حصان في لعبة الشطرنـج ،
والذي يلعبُ بالذهب ليس كمن يلعب بالخشب .
تعطيها القيمة بدلالتها بالسياق وليس
قيمتها بـــ " سنكلّيـتها
" ( single ) ،
فرديّــــتـها ، غازلـــتُ
كلماتِـك فإذا هي لـؤلـؤٌ منضودٌ وتبــْر
مسبوك ، ولو أهمَلتَ بعضَ نصوصك في التحريك وحرّكت أخرى ،
لكنك بطـّــاش أخّــاذ . حين قرأتُ عنوانك
، تبـّـرمّـت ، لكن حين تصفحتـك ، وقعت على فجواتك .
ومع ذلك ، فَــنّـك بعيد الغايـة ، رفيع
الطبقـة ، دقيقُ السلكِ ، رقيق الحاشية ، يجعلك من حاكة القصة
وصاغتها بلباس لغوي رئيس.
بــــــــــــــــــــــلال :
شخصك ليس من حوك الظنون . فعينك حَيّــزت
من زمن "ابن العيد" . وعشرتُك تُدغِمُ وتَحـادثـك يَدمَغْ،
فأنت كمن مَلَك أيماني منذ زمنٍ . نفـنـافٌ
، مشرقٌ ، بــلالٌ ، كلّـه تـناغُـم . كلّـه مَـراوح فوّار .
طَفَحَـت عليك نشوةُ الطرب ، فاستحـرّت
بكهـراب الحياة ، وبَــــرقَـت ثناياك ولمعــت أساريرها وهَشَّـــت
2
وبَشَّــت ، فما أعظم الباري في مواجيد
البشر . فبـيـنـي وبين لياليك ، ما بين اللطائف والكتائف .
لقد دهشتُ وسررتُ إذْ تحقـقّ خاطـرٌ لـي .
كم اجتاحنـي في التـناظـر بيني وبين عيني ،وأنتمنذ كمشة من الزمن عيني .
الاسلوب ليس الإنسان ذاتُـه . الزاعمُ
بالعكس كان مخطئاً . الأسلوبُ أخدوعـةٌ كبرى ـــــــــ فالحديث
عن الإعلام ( 196 ) يُسبّـب " l’infobésité
" ويعني
المكثّـف ، حين أردفت قائلاً إنه يُسبّب
الكولسترول الفكري ولعلّـه يكذّب الواقع
ويختصره . يوشّـي ، ينمّـق ، يزخرف ، يطرّز ، يزوّق ، أما انت فتجاوزت
مستعملاً فعل "مـزمـز" للنص أو
ارتشف في حديثك عن نصّ التوحيدي
) 202 (
وربما افتريت علينا حين لجأت إلى التكرار
في فصل الألوان وحكاية الأعمى كيف يميّز بينها ، غير
أنه لم تلجأ كغيرك الى التحطيب ، بل أبقيت
على ذوقك في أراجيحـــــه الهـزّازة ، ولم تتهـــيّــب نــــقــدَ
معاجمنا الكسولـة والجبانـة ، وكأنها تمشي
على بيض
( 161 ) .
وبالرغم من حديثي عن تـفييلـيّــة الأسلوب
، غير أنّك لم تكن ذا مودّة كاذبـة مكذوبـة ، تداهـن
وتمالـح وتماكـر ، ولم تنصب للقارىء حبائـل
. فقد تـناصرت النصوص على هذه الحقيقة التي عُــــــــدّت
عندي منـزّهـة عن فِطـان الرَّيـب .
الأمثلة لا تحصى ولا تُحصر : فاللغة كالأكل وأرحام الأبجديات كأرحام
الأمهات ، وقد نقرت بقولك ان الميتالغة
هجينة ، وأسأل : أهي الفسبكة دجينة والميتالغة هجينة ؟ . فقد ينقصك
3
بعض المساند حين ينقل عن أبي حيّـان
التوحيدي . ( 165 ) فالكتابة على الرأس يحوجها بعض المساند ليرتاح اليها الرأس.
أما عبارة الكلام على الكلام ، فهي
ربما تسيء إلى الكلام باتهامه بالفراغ
وبعدم الجدّة والسخافة إذ إنها أضحت عبارة عاميّة للإستهزاء ،
كلام بكلام أي وعود كاذبـة . أو قولك : أين
نحن من سفينة معجمية جديدة ؟ ( 168 ) فأسأل:
هل جاء الطوفان ؟ أو أين هو ؟ فَنُــوح كان
منقـذاً نبيّـاً ، فأين النبي المؤهّــل اليوم ؟ أو تفتكر انك نوح؟
في مقطع " عيون من ورق" ، إستـلّ
بلال عبارة كونفوشيوس بقوله : "إنّ الصورة الواحدة أبلغ
من ألف كلمة " . نعم ، لقد أصاب بلال
في هذا المستلّ ، فنحن في عصر المرئي . لاقيمة للسمع من دون رؤية ،لا قيمة للكلمة
من دونفيلم ، لا قيمة للموسيقى من دون عري والشيطان في التفاصيل .
وفي رأيـي ، قد كنت موفقاً جداً في غرابة ما
تراه كيف أنّ المآكـل توحّد الأديان ، وَفَاتَـــك توحيـــد
المصطلح بين ( الكوسكوس أو الكسكس )
كالكبسة السعودية والمنسف الأردني . ثم دلـجت لتقول إنّ
الكلمة كالماء ليست من هواة تسلّق الجبال ،
تكـرج إلى المنحدرات ، لكنك نسيت أنّ المياه تنبع من الجبال
وليس من المنحدرات . ثم تقارن بين الدين
والأكل ، ذاهباً إلى تعداد أنواع الأكل على اختلاف المناطق.
ولعلّـه أنجح نصّ بين النصوص الناجحة لأنه
يضرب على عروق هذه الأيام
( 212 ) .
4
خــلاصـة الملحوظـة :
إنّ الأسلوب ومعيوش حياتنا قد يتخالفان ،
ويدور في باب التعزية التي تدور على المفقود . تلك هي
العقدة النفسية وكلّنـا معقّـدون .
العقدة أنّ كياننا مـثـغـور ، من هنا مساحب
الهواء في هذا المؤلف ، التي تجعل ظاهرنا المفلوش غير باطننا المكموش .
إنك صاحب رسالة أورفليسيّـة ، لا يختص
ببيئة دون أخرى أو شعب دون آخر أو موضوع دون آخر.
إنسان شغوف بمطلقات المطلق الواحد ،
المشدود إلى عموميات العام الواحد ، المحدّق بظواهر وبواطن
المظهر الواحد أي الباطن الواحد . كل ذلك
هو ذات الهادي بلال عبد الهادي الذي تقصّـد الكتابة على
جلْدة الرأس ليدرك باطن الرؤيا ، ليست
كتابة على جلدة المياه أو على جلدة غيمة ، ولربما الكتابة على
الحجر أهون سبيلاً من الكتابة على الرأس .
يُعلنها ثورة كوبرنيكيّـة في علم الإجتماع . لذلك ، تتمعّج
كلماتك لتخلد إلى صمت سـاجٍ ، والسجو الى
صراخ داج . موضوعات الكتاب فرسـان تــتـصاهل في طرد المسافات والمفازات في
وهج لغة عشق سمندري . عالمك متهدّج ،
متطوطح ، نزيل اللغة المتمسكة به ، تدل على أنك قبضت على
مفاصل التغيّر والتحوّل والإنقطاع
والانبثاق ، فاندلقت منها شلالات من مراهف المعرفة ونيـط من متألقات
الكشوف . وإن تباعدت العناوين ، ففيها سلك
نظيـم يُغنـغنها بـلال المغنغـن الرئيم وكأن ليس كحقله شيء
بل لمثله ليس شيء ، وهذا يعني سحراً حلالاً
في الجمال
.
5
وبيقيـنٍ حازم يا بلال ، إنّ أدبك فيه من
السحر الذي لا يحتاج إلى عصا وحبال ، ومرافع وسلالم وأضواء وستائر وراقصين وخفة
وخفاف ومسارح
.
أدبك ميزان شاهد على الغائب في حاضرك ،
على الباطن في ظاهرك وقد صورخت في رسم
الباطن الغائب
كما زوبعْت في يوميات الحاضر الظاهر .
وبذلك أعلنك
عميداً لأدبائنا وليس رئيس قسم في اللغة
العربية عابـراً ، في هذا المقام . هل عرفت لم قرأتك في الظلام ؟ لأتوجك بياسمين
الكلام ، واستعير من فيحائك الليمون والخزام ، وأتقي على من حضر لمحبتك التحية
والسلام
.
*** *** ***
6
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق