نشر الصديق سعد ديب هذخ التأملات حول كتابي في صفحته على الفايسبوك، فله الشكر.
القسم الأوّل:
عنوان الكتاب الأوّل الذي أتحفنا به
الدكتور "بلال عبد الهادي" <لعنة بابل> في السنة الماضية، لم يكن
أختيارًا عبثيًا منه، سيما وهو الضليع بالتاريخ واللغة والحضارات القديمة
والحديثة، فلا شكّ كان قد اختاره عن سابق إصرار وتصميم، ذلك لكثير من الأسباب
الكامنة خلف التراث اللغوي البابلي والذي أدى إلى تعدّد اللهجات التي أصبحت مع
تقدّم الأزمنة لغاتٍ مستقلّة تباعدت عن أفواه الأقوام الكثيرة التي كانت متقاربة،
رفعتها من الأرض المتواصلة إلى القِمم المنفصلة، عوامل الطبيعة المدمّرة، وخاصة
الطوفان الذي تواصل بتقدير التراث العتيق حوالي الستمئة سنة تقريبًا...
"لعنة بابل" أمتعنا فأشغلنا
بالتراث اللهجي الذي لا تقلّ لعنته عن نعمته...
كثير من الأمور تحمل في طياتها الكثير
من الأضداد...
وكلمات معظم اللغات فيها من الأضداد ما
يفوق التعداد...
والفكر الصيني كفيل بالتأكيد والتحقيق...
واليوم ماذا عن عنوان كتابه الثاني
الصامد الذي وقّعه مؤخرًا في المركز الثقافي الصفدي، والذي اختار له العنوان
"الكتابة على جلدة الرأس"؟ وافتتحه بالمقال الأوّل الذي عرض فيه حادثة
حصلت في زمن الخليفة المستعصم وأودت بالرؤوس التي استخدمت أداة لنقل الرسائل
السرّية، بالحفر على جلد الرأس بالأوشمة والرسوم، ليأمن المرسل عواقبها ومكرها...
وقبل أن يفكّر أحدنا باختيار عنوان آخر
للكتاب ، فلم يغفل د. بلال، عن دفع البلبلة في نفس المقال الافتتاحي، عبر التذكير
بالكتابة في الطين والنقش بالحجر وعلى جلود الحيوانات وعظامها، وعلى ورق الشجر أو
القصب، وصولًا الى الورق، قبل معاصرتنا للكتابة الالكترونية الحالية... وهو الذي
نشر ان النقش على الحجر لا يزال معمولًا به الى اليوم لأسباب فنّيّة أو
جنائزيّة... كأنّما يستبق أفكارنا بالإجابة السريعة على اقتراحاتنا...
رغم كل ما تقّدّم، نتذكّر الحكمة
"العلم في الصغر كالنقش في الحجر"، والنقش متعب حقّـًا، ولكنه راسخ في
الرؤوس كما أنه صامد أمام عوامل الطبيعة والتاريخ...
وهنا لا بد من استذكار التعبير اللطيف
والمصيب، "لقد دوّخت حجر رأسي" مما يوحي أنَّ في الرأس حجرًا منقوشًا أو
عنادًا كالحجر الصخريّ من الصعب تحطيمه... ولكن الحجر أبعد وأعمق بكثير من ذلك..!
فماذا تقول اللغة؟
الفصل الثاني
حول كتاب "الكتابة على جلدة الراس"
لا يمكن أن نتعدّى ونتجاوز صاحبَ
الكتاب ورأيَه بعنوان ومضمون مؤلَّفه الذي شرحه بوضوح، ولكنّ لكل كلمة في اللغة،
أي لغة، أبعادًا ايحائية ورمزية ولهجيتها تخضع للتحليل الفيلولوجي... اسوة بالفنون
والآداب التي لا تعبث في اختيار أسماء الشخصيات والأبطال، منذ البدء في رسم
اللوحات في القرون الوسطى وحتّى قبلها، وهي ذات تأثير متواصل في الزمن، ولا تزال
محفوظة في اخراج الأفلام والمسرحيات، وكل العمليات الفنية التي تفضّل ألوانًا على
ألوانٍ، بما يناسب الظروف والأدوار...
من هنا لا يمكن لنا ان نمرَّ مرور
الكرام على "جلدة الرأس" قبل اقتراح أي بديل... ذلك لانَّ جلدة الرأس من
الجذر "جلد"، وظاهريّـًا نرى في الأمر جلادة، أي نجد صبرًا وتأنّيًا
واصرارًا، في الرأس على انجاز هذا المؤلّف، مما يشكّل انسجامًا مع واقع الكتابة
والتفكير والبحث والاخراج، وطبعًا بعيدًا عن عقدة "جلد الذات"
البسيكولوجية، بل قد يكون من أمر الكتابة هو التعرّض للجلد بسبب المضامين التي
تخالف الحاكم؛ وعلى كلّ حالٍ فإنَّ "الجلد" يبقى اقلّ عقاب من قطع الرأس
المذكور بهدف إخفاء المكتوب وكتم لسان حامله الى الأبد... علمًا أنَّ الكتابة كانت
تتمّ غالبًا على "جلود" الحيوانات في ذاك العصر؛ وكان <الابداع>
من قبل الخليفة بإملاء النصّ على رأس ذاك المملوك المسكين الذي تعرّض للقطع لإتلاف
الرسالة وحفظ سريّة المواقف الأميرية...
والجلادة ناتجة عن رغبة في التعبير عن
مكنونات الذات، عندما لم تعد هناك قدرة على حجرها في (حجر) الرأس، وإلّا قد تسبّب
ما لا تحمد عقباه لصاحب الرأس، الذي قد يدوخ حجُره...
وبالمقابل، قد يحظى الكتاب بغلاف
مميّز، وقد يكون هذا الغلاف من جلد الحيوان، الذي يصمد في وجه الأزمنة وعوامل
الطبيعة، أكثر مما يصمد الورق المقوّى...
ولكننا نطمئن الكاتب أن في كتابه مما
يحول دون قطع الرؤوس، بل يحييها، وفي مقالاته، رسائل علنيّة واضحة مكشوفة للعيان،
وقد "وشم" المضامين في الرأس وليس على على جلدته... لذلك هي
"منقوشة في الحجر"... وذلك هو موضوع متابعتنا في الفصل القادم..
الفصل الثالث: حول كتاب "الكتابة
على جلدة الرأس"
بما أنَّ الكاتب يوّجه مقالاته
العلنية، ذات الطابع التعليمي والتربوي والاجتماعي، بالإضافة إلى المواضيع
اللغويّة والتراثيّة، والاصرار على الرسائل المكشوفة، عبر أعتى الوسائل المفضوحة
في التاريخ البشري، ألا وهي الفاسبوكيّات، والتغريدات، والمدوّنات، الجوجولية، وهي
خاضعة كلّيًّا للمراقبة المتواصلة الموثّقة الكترونيّـًا، حيال كل ذلك، فهو ليس
بحاجة للكتابة على جلدة الرأس المميتة، بقدر ما حقق فعليّـًا النحت في الرؤوس
الصلبة...
يا ترى، أمام هذه المعطيات، ماذا لوِ
اقترحنا عنوانًا آخر، وهو "الكتابة على حجر الرأس"..؟ الذي تلمّسنا
أهدافه وغاياته القيّمة وتلمسنا أبعادها وفوائدها..! لذلك ليس لنا إلّا العودة الى
معبودتنا اللغة العربية وقاموسها الغنيّ لإدراك الفارق بين ما هو على الرأس وما في
الرأس، والقاموس ما هو إلّا البحر المحيط، ولغتنا محيط هائل من المعاني...
فماذا سنجد في حِجْرِ الحَجَرِ؟
الفصل الرابع:
تعليقًا على عنوان كتاب د. بلال عبد
الهادي. "الكتابة على جلدة الرأس"
وصلنا الى معاني الحجر:
نقدّم أولى معاني "الحجر"
على سائر المعاني الاخرى بسبب مناسبته للبحث إيّاه، فالمنجد في صفحته ١١٩: الحِجْر
ج حُجُور وحُجورة وأحجار، هو "العقل"، والسبب الذي أورده المنجد، ذلك
لأنّه يحجر أي يمنع الانسان عمّا لا يليق به...
وفي تعليقنا نرى أن أن الكتاب هو بدوره
يحجر الانسان عمّا لا يليق به.
لذا، ندرك لماذا يقولون "داخ حجر
رأسي" لان في الرأس حجر والحجر هو العقل، والعقل من الجذر عقل، والعاقل
والرابط الربط والارتباط.. الخ.
وبالتالي فإنَّ الكتابة على الحجر هي
نقش في العقل..!
ولنعلمْ أن تعبير "ألقمَه
الحجَرَ" يعني أفحمه بجواب مسكت قاطع، فهل يوجد مثل الكتابة الجلودة كي
نستطيع الوصول الى حسم وجزم وحكم قاطع في أي نقاش؟!
بل، إنّ الحجارة بين مختلف مواد
الطبيعة من بينها حجارة كريمة غالية جدًّا، نذكر منها "الحَجَران" أي
الفضة والذهب... دون ذكر باقي الأنواع التي اعتمدت في الطقوس والعلاجات الباقية
حتى الآن...
وعند ذلك، إذا كتبنا على الحجارة،
فإننا نكتب على "حَرَم"، لأنَّه هو المحجر، وهو أيضًا المحجر الصحي...
ففي الكتابة عليه صحة وعلاج..!
أكثر من ذلك هو الحضن الحاضن، والحصن
الحصين..!
ونكتفي بذلك، لأنَّ الموضوع
"الحجري" ذو أبعاد فيلولوجية رمزية تتجاوز الحديث السريع...
في الخاتمة المبدئية ندعو للكاتب
العزيز "انتشارحجرته" أي كثر ماله، وكثرة عطائه.. وبالتوفيق..!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق