بلال عبد الهادي ، في 10 نيسان 2011 الساعة: 19:54 م
وقال -
أدام الله أيامه - في ليلة أخرى : كنت أحب أن أسمع كلاماً في كنه الاتفاق وحقيقته ،
فإنه مما يحار العقل فيه ، ويزل حزم الحازم معه ، وأحب أيضاً أن أسمع حديثاً غريباً
فيه ؛ فكان من الجواب : إن الرواية في هذا الباب أكثر وأفشى من الاطلاع على سره ،
والظفر بمكنونه ؛ فقال : هات ما يتعلق بالرواية . قلت : حكى لنا أبو سليمان في هذه
الأيام أن ثيودسيوس ملك يونان كتب إلى كنتس الشاعر أن يزوده بما عنده من كتب فلسفية
؛ فجمع ماله في عيبةٍ ضخمة ، وارتحل قاصداً نحوه ، فلقي في تلك البادية قوماً من
قطاع الطريق ، فطمعوا في ماله وهموا بقتله ، فناشدهم الله ألا يقتلوه وأن يأخذوا
ماله ويخلوه ، فأبوا ، فتحير ونظر يميناً وشمالاً يلتمس معيناً وناصراً فلم يجد ،
فرفع رأسه إلى السماء ، ومد طرفه في الهواء ، فرأى كراكي تطير في الجو محلقة ، فصاح
: أيتها الكراكي الطائرة ، قد أعجزني المعين والناصر ، فكوني الطالبة بدمي ؛
والآخذة بثأري . فضحك اللصوص ، وقال بعضهم لبعض : هذا أنقص الناس عقلاً ، ومن لا
عقل له لا جناح في قتله ؛ ثم قتلوه وأخذوا ماله واقتسموه وعادوا إلى أماكنهم ؛ فلما
اتصل الحديث بأهل مدينته حزنوا وأعظموا ذلك ، وتبعوا أثر قاتله واجتهدوا فلم يغنوا
شيئاً ولم يقفوا على شيء ؛ وحضر اليونانيون وأهل مدينته إلى هيكلهم لقراءة التسابيح
والمذاكرة بالحكمة والعظة ، وحضرالناس من كل قطر وأوب ، وجاء القتلة واختلطوا
بالجمع ، وجلسوا عند بعض أساطين الهيكل ، فهم على ذلك إذ مرت بهم كراكي تتناغى
وتصيح ، فرفع اللصوص أعينهم ووجوههم إلى الهواء ينظرون ما فيه فإذا كراكي تصيح
وتطير ، وتسد الجو ؛ فتضاحكوا ، وقال بعضهم لبعض : هؤلاء طالبو دم كنتس الجاهل -
على طريق الاستهزاء - فسمع كلامهم بعض من كان قريباً منهم فأخبر السلطان فأخذهم
وشدد عليهم ، وطالبهم فأقروا بقتله ، فقتلهم ؛ فكانت الكراكي المطالبة بدمه ، لو
كانوا يعقلون أن الطالب لهم بالمرصاد . وقال لنا أبو سليمان : إن كنتس وإن كان خاطب
الكراكي فإنه أشار به إلى رب الكراكي وخالقها ، ولم يطل الله دمه ولا سد عنه باب
إجابته ؛ فسبحانه كيف يهيىء الأسباب ، ويفتح الأبواب ، ويرفع الحجاب بعد الحجاب .
فقال : هذا عجب : قلت : قال لنا أبو سليمان : كل ما جهل سببه من ناحية الحس بالعادة
، ومن ناحية الطبيعة بالإمكان ، ومن ناحية النفس بالتهيئة ، ومن ناحية العقل
بالتجويز ، ومن ناحية الإله بالتوفيق - فهو معجوبٌ منه ، معجوزٌ عنه ، مسلمٌ لمن له
القدرة المحيطة ، والمشيئة النافذة ، والحكمة البالغة ، والإحسان السابق . ولقد حكى
أبو الحسن الفرضي في أمر الاتفاق شيئاً ظريفاً عن بعض إخوانه قال : خرجنا إلى بعض
المتنزهات ومعنا جرٌ نصيد به السماني ، وكنا جماعة ، فقال حدثٌ كان معنا - وكان
أصغرنا سناً - : أنتم تصديون بجرٍ ، وأنا أصيد بيدي ؛ يقول ذلك على جهة المزح ؛
فرمى بعد قليل فاتفق له أن أثار سماني ، فأسرع إليه ونحن لا نعلم أنه أخذ شيئاً ،
فقلنا له على طريق العبث : احذر الخنزير - من غير أن نكون رأينا خنزيراً - فالتفت
فزعاً وفر مولياً ، فاتفق له أن رأى خنزيراً منه غير بعيد ، فأقبل إلينا مسرعاً
هارباً من الخنزير والسماني بيده وقد صاده . وكنت في البادية في صفر سنة أربع
وخمسين منصرفاً من الحج ومعي جماعةٌ من الصوفية ،فلحقنا جهدٌ من عوز القوت وتعذر ما
يمسك الروح في حديث طويل - إلا أنا وصلنا من زبالة - بالحيلة اللطيفة منا ، والصنع
الجميل من الله تعالى - إلى شيء من الدقيق ؛ فانتشعت أنفسنا به ، وغنمناه ، ورأيناه
نفحةً من نفحات الله تعالى الكريم ؛ فجعلناه زادنا ، وسرنا ؛ فلما بلغنا المنزل
قعدنا لنمارس ذلك الدقيق ، ولقطنا البعر ودقاق الحطب ، فلما أجمعنا على العجن
والملك لم نجد الحراق - وكان عندنا أنه معنا ، وأننا قد استظهرناه - فدخلتنا حيرة
شديدة ، وركبنا غمٌ غالب ، وسففنا من ذلك الدقيق شيئاً ، فما ساغ ولا قبلته الطبيعة
، وبتنا ليلتنا طاوين ساهرين ، قد علانا الكمد ، وملكنا الوجوم والأسف ؛ فقال بعضنا
: هذا لما وجدنا الدقيق ؟ وأصبحنا وركبنا قد استرخت ، وعيوننا قد غارت ، وأحدنا لا
يحدث صاحبه غماً وكرباً ؛ وعدنا إلى ما كنا فيه قبل بزيادة حسرةٍ من النظر إلى
الدقيق ؛ وقال صاحبٌ لنا : نرمى بجراب الدقيق حتى نلقي حمله وثقله في طول هذا
الطريق ؛ فقلنا : ليس هذا بصواب ، وما يضرنا أن يكون معنا ، فلعلنا أن نرى ركباً أو
نلقى حطباً . وكانت البادية خاليةً في ذلك الوقت ، لرعبٍ لحق قوماً من بني كلاب من
جهة أعدائهم ، فلم يكن يجتاز بها في ذلك الوقت غريب . وبقينا كذلك إلى اليوم الثالث
، ونحن نلاحق ونجاهد في المشي ؛ فلما كان العصر من ذلك اليوم كنت أسير أمام القوم
أجرئهم وأسألهم ، وكنت كالحاطب لهم : إذا عثرنا بحراقٍ وظفرنا بفتيلة ؛ فوجدوا
خرقةً ملفوفة فيها حراق ، فهللوا وكبروا ، ورفعوا أصواتهم ؛فقلت كالمتعجب : ما
الخبر ؟ قالوا : البشرى ؛ قلت : وما ذاك ؟ قالوا : هذه خرقة ملئت حراقاً ، فلا تسل
عما دهانا من الفرح والاستبشار ؛ وثاب إلينا من السرور والارتياح ، وزال عنا من
الانخزال والانكسار ، وقعدنا في مكاننا ذلك ، ولقطنا البعر ، وأثرنا الوقود ،
وأججنا ناراً عظيمة ، وملكنا الدقيق كله ملكةً واحدةً وكان أربعين رطلاً ، وكان ذلك
بلاغنا إلى القادسية ؛ فلما دنونا منها تلقانا بشر من أهلها ، وقالوا لنا : كيف
سلمتم في هذه الطريق مع العوز والخوف ؟ فقلنا : لطف الله يقرب كل بعيد ، ويسهل كل
شديد ، ويصنع للضعيف حتى يتعجب القوي . وليس أحدٌ من خلق الله يجحد هذا القول ،
وينكر هذا الفضل ، ويرجع إلى دينٍ وثيقٍ أو واهٍ ‘ إن الله لذو فضلٍ على الناس ‘ .
وحدثني أبو الحسن علي بن هارون الزنجاني القاضي صاحب المذهب قال : اصطحب رجلان في
بعض الطرق مسافرين : مجوسيٌ من أهل الري ، والآخر يهوديٌ من أرض جى ؛ وكان المجوسي
راكباً بغلة له عليها سفرة من الزاد والنفقة وغير ذلك ، وهو يسير مرفهاً وادعاً ،
واليهودي يمشي بلا زادٍ ولا نفقة ؛ فبينا هما يتحادثان إذ قال المجوسي لليهودي : ما
مذهبك وعقيدتك يا فلان ؟ قال اليهودي : أعتقد أن في هذه السماء إلهاً هو إله بني
إسرائيل ، وأنا أعبده وأقدسه وأضرع إليه ، وأطلب فضل ما عنده من الرزق الواسع
والعمر الطويل ، مع صحة البدن ، والسلامة من كل آفة ، والنصرة على عدوي ، وأسأله
الخير لنفسي ولمن يوافقني في ديني ومذهبي ، فلا أعبأ بمن يخالفني ، بل أعتقد أن من
يخالفني دمه لي يحل ، وحرام علي نصرته ونصيحته والرحمة به . ثم قال للمجوسي : قد
أخبرتك بمذهبي وعقيدتي وما اشتمل عليه ضميري ، فخبرني أنت أيضاً عن شأنك وعقيدتك
وما تدين به ربك ؟ فقال المجوسي : أما عقيدتي ورأيي فهو أني أريد الخير لنفسي
وأبناء جنسي ، ولا أريد لأحدٍ من عباد الله سوءاً ، ولا أتمنى له ضراً ، لا لموافقي
، ولا لمخالفي . فقال اليهودي : وإن ظلمك وتعدى عليك ؟قال : نعم ، لأني أعلم أن في
هذه السماء إلهاً خبيراً عالماً حكيماً لا تخفى عليه خافيةٌ من شيء ، وهو يجزي
المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته . فقال اليهودي : يا فلان ، لست أراك تنصر مذهبك
وتحقق رأيك . قال المجوسي : كيف ذاك ؟ قال : لأني من أبناء جنسك ، وبشرٌ مثلك ،
وتراني أمشي جائعاً نصباً مجهوداً ، وأنت راكبٌ وادعٌ مرفهٌ شبعان . فقال : صدقت ،
وماذا تبغي ؟ قال : أطعمني من زادك ، واحملني ساعةً ، فقد كللت وضعفت . قال : نعم
وكرامة . فنزل ومد من سفرته وأطعمه وأشبعه ، ثم أركبه ، ومشى ساعة يحدثه ؛ فلما ملك
اليهودي البغلة وعلم أن المجوسي قد أعيا ، حرك البغلة وسبقه ، وجعل المجوسي يمشي
ولا يلحقه ، فناداه : يا فلان ، قف لي وانزل ، فقد انحسرت وانبهرت . فقال اليهودي :
ألم أخبرك عن مذهبي وخبرتني عن مذهبك ، ونصرته وحققته ؟ فأنا أريد أيضاً أن أحقق
مذهبي ، وأنصر رأيي واعتقادي . وجعل يحرك البغلة ، والمجوسي يقفوه على ظلع وينادي :
قف يا هذا واحملني ، ولا تتركني في هذا الموضع فيأكلني السبع وأموت ضياعاً ،
وارحمني كما رحمتك . واليهودي لا يلوي على ندائه واستغاثته ، حتى غاب عن بصره ؛
فلما يئس المجوسي منه وأشفى على الهلكة ، ذكر اعتقاده وما وصف به ربه ، فرفع طرفه
إلى السماء وقال : إلهي قد علمت أني اعتقدت مذهباً ونصرته ، ووصفتك بما أنت أهله ،
وقد سمعت وعلمت ، فحقق عند هذا الباغي علي ما مجدتك به ، ليعلم حقيقة ما قلت . فما
مشى المجوسي إلا قليلاً حتى رأى اليهودي وقد رمت به البغلة ، واندقت عنقه ، وهي
واقفةٌ ناحيةً منه تنتظر صاحبها ؛ فلما أدرك المجوسي بغلته ركبها ومضى لسبيله ،
وترك اليهودي معالجاً لكرب الموت ؛ فناداه اليهودي : يا فلان ، ارحمني واحملني ولا
تتركني في هذه البرية أهلك جوعاً وعطشاً ، وانصر مذهبك ، وحقق اعتقادك . قال
المجوسي : قد فعلت ذلك مرتين ، ولكنك لم تفهم ما قلت لك ولم تعقل ما وصفت . فقال
اليهودي : وكيف ذلك ؟ قال : لأني وصفت لك مذهبي فلم تصدقني في قولي ، حتى حققته
بفعلي ، وذاك أني قلت : إن في هذه السماء إلهاً خبيراً عادلاً لا يخفي عليه شيء ،
وهو ولي جزاء المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته .قال اليهودي : قد فهمت ما قلت ،
وعلمت ما وصفت . قال المجوسي : فما الذي منعك من أن تتعظ بما سمعت ؟ قال اليهودي :
اعتقادٌ نشأت عليه ، ومذهبٌ تربيت به ، وصار مألوفاً معتاداً كالجبلة بطول الدأب
فيه ، واستعمال أبنيته ، اقتداءً بالآباء والأجداد والمعلمين من أهل ديني ومن أهل
مذهبي ، وقد صار ذلك كالأس الثابت ، والأصل النابت ؛ ويصعب ما هذا وصفه أن يترك
ويرفض ويزال . فرحمه المجوسي ، وحمله معه حتى وافى المدينة ، وسلمه إلى أوليائه
محطماً موجعاً ، وحدث الناس بحديثه وقصته ، فكانوا يتعجبون من شأنهما زماناً طويلاً
. وقال بعض الناس للمجوسي بعد : كيف رحمته بعد خيانته لك ، وبعد إحسانك إليه ؟ قال
المجوسي : اعتذر بحاله التي نشأ فيها ، ودأب عمره في اعتقادها ، وسعى لها واعتادها
؛ وعلمت أن هذا شديد الزوال عنه ، وصدقته ورحمته ، وهذا مني شكرٌ على صنع الله بي
حين دعوته عندما ذهاني منه ، وبالرحمة الأولى أعانني ربي ، وبالرحمة الثانية شكرته
على ما صنع بي . هذا كله سردناه لسبب الأمر الذي يبدو من غير جنان ، والعارض الذي
يبرز من غير توهم . وأبو سليمان يقول : الأمور مقسومةٌ على الحدود الطبيعية والقوى
النفسية والبسائط العقلية والغرائب الإلهية ؛ فبالواجب ، ما كان ها هنا مألوفٌ له
نسبةٌ إلى الطبيعة ، ونادرٌ له نسبةٌ إلى النفس ، وبديعٌ له نسبةٌ إلى العقل ،
وغريبٌ له نسبةٌ إلى الإله ؛ والفلتات في الأحوال من هذا القبيل ، أعني ما يتخلل
هذه المراتب . فقال له البخاري : أيقال لما يصدر عن الإله فلتة ؟ قال : بحسب مصيره
إلينا ، ووصوله إلى عالمنا ، لا بحسب صدوره عن الباري ، فليس هناك هذا ولا ما يشبهه
، لأن هذه السمات لحقت المركبات ، من الأوائل المزدوجات ، والثواني المكررات ،
والثوالث المحققات ، والروابع المتممات ، والخوامس المدبرات ، والسوادس المضاعفات ،
والسوابع الظاهرات ، والثوامن المعقبات ، والتواسع العاليات ، والعواشر الكاملات ؛
وما بعد العواشر داخلٌ في المكررات .قال له البخاري مستزيداً : أكان التوفيق من
الاتفاق ؟ فقال : هما يتوحدان من وجه ، ويفترقان من وجه ؛ فوجه توحدهما أن الاتفاق
وليد التوفيق ، والتوفيق غاية الاتفاق ؛ ووجه افتراقهما أن الاتفاق يبرز إلى الحس ،
وأصحابه يشتركون في التعجب منه ، والاستطراف له ؛ والتوفيق يستتر عن الحس ؛ ولهذا
لا تسلك مساكله . وأما الوفاق والموافقة والتوفيق والاتفاق فمتلابسة المعاني ؛ ولما
لم يكن بين المعنى والمعنى مسافةٌ محصلةٌ حسب هذا في حيز هذا ، وعد هذا في جملة هذا
. وقال - أبقاه الله وأدام أيامه - : ما اليمن والبركة ؟ والفأل والطيرة وأضدادها ؟
فكان الجواب : إن اليمن عبارةٌ عن شر يبشر به ويبتغي ويراد ؛ ويقال : فلانٌ ميمون
الناصية ، وميسور الناصية ؛ أي هو سببٌ ظاهرٌ في نيل مأمول وإدراك محبوب ؛ واشتقاقه
من اليمين ، وهو القوة ؛ ولذلك يقال لليسار : شمالٌ ، لأنها أضعف منها ، وتسمى
أيضاً : الشومي . ويقال : يمن فلانٌ عليهم ، وشؤم ، وهو ميمونٌ ومشؤم ؛ جعل الفعل
على طريق ما لم يسم فاعله ، لأنه شيءٌ موصولٌ به من غير إرادته واختياره . وإنما
نزعوا إلى قولهم : فلان مشؤم ليكون الفعل واقعاً به - أعني المكروه - وإلا فهو
شائمٌ في الأصل . ويقال : شأم فلانٌ قومه ، وكذلك يمنهم ؛ وكأنهما قوتان علويتان
تصحبان مزاجين مختلفين ، وإذا اعتيد منهما هذان العرضان اللذان يصدران عن هاتين
القوتين العلويتين ، قيل : فلان كذا ، وفلانٌ كذا . وأما البركة فهي النماء
والزيادة والرفع ، من حيث لا يوجد بالحس ظاهراً مكشوفاً يشار إليه ، فإذا عهد من
الشيء هذا المعنى خافياً عن الحس قيل : هذه بركة ، واشتقاقها من البروك ، وهو
اللزوم والسعة ؛ ومن ذلك : البركة . والبركة يوصف بها كل شيء ، وليس لضدها اسمٌ
مشهور ، لذلك يقال : قليل البركة . وأما الفأل ففسر بأنه جريان الذكر الجميل على
اللسان معزولاً عن القصد ، إما منالقائل ، وإما من السامع . وقد سمع النبي ( صلى
الله عليه وسلم ) لما نزل المدينة على أبي أيوب الأنصاري أبا أيوب يقول لغلامً له :
يا سالم يا غانم . فقال لأبي بكر : ‘ سلمت لنا الدار في غنم إن شاء الله ‘ . وهذا
مشهورٌ بين الناس . وضده الطيرة والإشعار . ويروى أنه نهي عن الطيرة ، وكان يحب
الفأل ( صلى الله عليه وسلم ) ، وليس لهما عللٌ راتبة ، ولا أسباب موجبة ، ولا
أوائل معروفة ؛ ولهذا كره الإفراط في التطير والتعويل على الفأل ، لأنهما أمران
يصحان ويبطلان ، والأقل منهما لا يميز من الأكثر ؛ وللمزاج من الإنسان فيهما أثرٌ
غالب ، والعادة أيضاً تعين ، والولوع يزيد ، والتحفظ مما هذا شأنه شديد . ولقد غلب
هذا حتى قيل : فلانٌ مدور الكعب ، وفلانٌ مشئوم ؛ وحتى تعدى هذا إلى الدابة والدار
والعبد ؛ وكل هذا ظهر في هذه الدار حتى لا يكون للعبد طمأنينة إلا بالله ، ولا
سكونٌ إلا مع الله ، ولا مطلوبٌ إلا من الله ؛ ولهذا - عز وجل - يطلع الخوف من ثنية
الأمن ، ويسوق الأمن من ناحية الخوف ، ويبعث النصر وقد وقع اليأس ، ويأتي بالفرج
وقد اشتد البأس . وأفعال الله تعالى خفية المطالع ، جلية المواقع ، مطوية المنافع ؛
لأنها تسري بين الغيب الإلهي ؛ والعيان الإنسي ، وكل ذلك ليصح التوكل عليه ،
والتسليم له ، واللياذ به ، ويعرج على كنف ملكه ، ويتبوأ معان خلده ، وينال ما عنده
بطاعته وعبادته . فقال الوزير - كبت الله أعداه ، وبلغه مناه - : هذا كلامٌ ليس
عليه كلام ، أرى النعاس يخطب إلى عيني حاجته ، وإذا شئت فاجمع لي فقراً من هذا
الضرب الذي مر من حديث الطيرة والفأل والاتفاق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق