السبت، 22 يونيو 2013

الاسكندرية بناها الاسكندر... لحنها سيد درويش, غنتها فيروز وصورها يوسف شاهين.


i
بناها الاسكندر الكبير فحملت اسمه.. أرادها أن تربط الشرق بالغرب وتخلق من التزاوج حضارة توحد
ضفاف المتوسط ففعلت. كانت جزيرة وانتهت مدينة تاريخية شكلت عبر التاريخ منارة وملتقى للثقافة والعلوم لحضارات متعددة. مدينة عريقة قدم الزمن, وآثارها شاهدة وهي مقصد السياح من كافة أنحاء المعمورة. هنا جولة في معالمها نتعرف خلالها على مدينة خصتها السينما العربية مع يوسف شاهين بفلمين سينمائيين وفيروز بأغنية جميلة "شط اسكندرية يا شط الهوى".

عشاق الاسكندرية كثر, والمخرج السينمائي يوسف شاهين الذي خصص للمدينة فلمين حملا اسمها: "الاسكندرية ليه" ثم "الاسكندرية كمان وكمان" هو أحد هؤلاء الذين ترجموا عشقهم للمدينة في صياغة فنية. ولم يكن يعبر في فلميه فقط عن حبه لهذه المدينة الفاتنة, وانما كان يحاول أن يؤرخ, بشكل من الاشكال, لحياة الاسكندرية. فهذه المدينة تعتبر جزءا من ذاكرة مصر ولكنها قبل شيئ جزء من ذاكرة البحر المتوسط. فالاسكندرية هبة المتوسط بقدر ما هي هبة النيل. وهي اكثر المدن غنى بالرموز, الرموز المعرفية خاصة, واذا ما كانت الآثار تقل فيها الآن رغم غزارتها الرائعة فيما مضى من أيام فان الرمز, هنا, يلعب دور الأثر الخالد, ومن خلال الرمز, ايضا, يحاول المرء ان يتقرى ماضيها العريق, ويخرجه من الغياب. فسيرة حياتها مترفة جدا, من أول ما نهضت من الارض حين وصلها الاسكندر المقدوني عام 332 قبل الميلاد. اذ أن الاسكندر أراد أن يبني مدينة تربط الشرق بالغرب, وتخلق من هذا التزاوج حضارة جديدة توحد ضفاف البحر المتوسط. وبحث عن الارض التي تحتضن رغبة المعمارية والحضارية في آن, حتى وقع اختياره على المكان الذي عرف فيما بعد بالاسكندرية العظمى تمييزا لها من مدن أخرى حملت اسمه. اختارها لطيب هوائها, وخصب أرضها, ولوقوعها ايضا ازاء بحر هادئ, لين الطبع, يعرف كيف يمنح السفن الراسية أمانا بفضل الجزيرة الواقعة قبالة اليابسة, على بعد 1200متر تقريبا, فكانت هذه الجزيرة بمثابة رائض لبحر يستكين له الموج قبل أن يصل الى اليابسة.

منارة للعلوم والثقافات

ومن الاسكندرية دخلت أول ما دخلت الديانة المسيحية الى مصر على يد القديس مرقص, ويروى أنه قضى أيامه الأخيرة في الاسكندرية. وتاهت رفاته في الارض كما تاهت رفات الاسكندر, كما أن اشهر ترجمة للعهد القديم والمعروفة بالترجمة السبعينية, نسبة لعدد الذين عملوا على نقل النص المقدس الى اللغة اليونانية, تحققت في الاسكندرية ايام مجد مدرستها التي كانت تعتبر بمثابة أكاديمية للعلوم على اختلاف مشاربها من فلسفة وتنجيم وطب وفيزياء ولغة وطب. وكان بجوار مكتبتها الشهيرة التي كانت تضم ما لا يقل عن سبعمائة الف مخطوطة يونانية أو مترجمة من اللغات الفارسية والعبرية. مكتبة سرعان ما أكلتها النيران عام 48 حين حاصر القيصر المدينة, ولكن حاول انطونيو اعادة بنائها بجلبه لمائتي الف مخطوطة جديدة. لكن بداية تدهور العلاقة بين الطوائف التي كانت تسكن المدينة, والنزاعات التي تولدت أدت الى حريق آخر تكفل بتحويل القسم الأكبر من منتوجات العقل الى رماد. وثمة مشروع الآن في الاسكندرية لبناء مكتبة الاسكندرية مجددا, مكتبة تحاول أن تعيد أمجاد المدينة القديمة, ومتوقع أن يتم المشروع عام 1995 ليضم كل ما له علاقة بالتاريخ اليوناني – الروماني, والقبطي, والاسلامي, والمصري, والمتوسطي, مجموعة من الكتب يقدر عددها بخمسة ملايين.

عهدها الجديد مع محمد علي

حين وصل نابليون خلال حملته على مصر الى شاطئ الاسكندرية كانت مدينة صغيرة, لا يقطنها اكثر من سبعة آلاف نسمة بعد أن كان مجموع سكانها في الزمن اليوناني يناهز النصف مليون نسمة. ولم تبدأ الاسكندرية عهدها الجديد الا في زمن محمد علي في القرن التاسع عشر, حين استعاد مرفأ الاسكندرية قيمته في نظر محمد على لبناء ترسانة حربية, وجعل من المدينة شبه عاصمة له فزودها بالمياه عن طريق حفر قناة المحمودية التي يبلغ طولها 78كلم وعرضها ثلاثين مترا. ربع مليون عامل قاموا بأنشاء هذه القناة بين عامي 1819 و1820, قناة تسير من الشمال الشرقي الى الجنوب الغربي بموازاة بحيرة مريوط ولقد تغيرت الآن ضفاف هذه القناة, اذ كانت فيما مضى من أجمل الاماكن في الاسكندرية اما الآن فحلت محل المناظر الفاتنة مصانع ومستودعات. فارتبطت بواسطة القناة, الاسكندرية بالنيل, ثم مدت سكة حديدية بين الاسكندرية والقاهرة. ويذكر رفاعة الطهطاوي أحد أعمدة النهضة الفكرية في مصر في كتابه "تخليص الابريز في تلخيص باريز" انه وصل الى الاسكندرية لركوب البحر والمجيئ الى فرنسا, دهش لروعة الاسكندرية وشبهها بمدينة أوروبية حتى قبل أن يصل الى اوروبا. لا تساع شوارعها, وجمال جنائنها, وفخامة بنيانها, ثم يذكر أنه حين وصل الى فرنسا تأكد له الشبه بين الاسكندرية وبين مدن الغرب فالاسكندرية ابان نهضتها العمرانية الحديثة اعتمدت على مهندسين غربيين ذوي خبرة, وعدة مبان ما زالت الى الآن تدل على فخامة البنيان كالبورصة, وكنيسة سان مارك. وازدهرت ازدهارا كبيرا في القرن التاسع عشر ووفدت اليها اجناس من كل انحاء المتوسط وكأنها بذلك تحقق نبوءة الاسكندر. ويقول الكاتب الانكليزي دوريل في رواية "رباعية الاسكندرية" التي تمحورت حول المدينة: "الطوائف والاعارف هنا تتجاور وتتحاور فالقبطي, واليهودي والمسلم, والمصري والسوري والبناني والارمني والتركي والايطالي واليوناني والفرنسي والبريطاني والمالطي كلهم في حيز واحد. أي مدينة في العالم قادرة على مزج هذه الشعوب غير الاسكندرية؟" ويقول الكاتب نفسه ان التحدث في ذلك الوقت بخمس لغات – بالنسبة لتاجر – هو أمر عادي.

متحفها يلملم ذاكرتها

واذا ما كانت المدينة القديمة اندثرت معالمها كلها تقريبا ما خلا بعض الأعمدة فان المتحف اليوناني – الروماني القريب من شارع عبد الناصر يحاول أن يلملم ذاكرة المدينة, ويعتبر هذا المتحف أهم كتحف, في مصر, للفترة الممتدة من القرن الثالث قبل الميلاد الى القرن السابع بعد الميلاد ألف سنة أو بقايا ألف سنة من تاريخ مصر موجود في قاعات المتحف بعضها فرعوني صرف. وآخر وهو الأهم , ربما, في المتحف يتناول النواحي المشتركة بين الفنين المصري القديم واليوناني ولا يضم المتحف آثار الاسكندرية وحدها فبعض الآثار الموجودة تم العثور عليها في الفيوم, أو في أبو قير. وقد تأسس هذا المتحف عام 1892 على يدي عالم الآثار الايطالي بوتي وهو يضم حوالي أربعين الف قطعة متوزعة على 21 قاعة. واول ما يراه المرء عند مدخل المتحف هو نسخة من حجر الشريد الذي بواسطته قدر شامبليون الفرنسي على حل اللغة الهيروغليفية. اما الحجر الاصلي فإنه موجود في المتحف البريطاني في لندن كأشياء كثيرة من آثار الشرق غادرت نهبا او حيلة مواطنها الاصلية.

آثارها تمزج الحضارتين المصرية واليونانية

ومن الاشياء التي تدل على تمازج الحضارتين المصرية واليونانية في عمل واحد ما نراه من مسلات نقش وسطها باليونانية وأحيط باطار من الكتابات الهيروغليفية, وثمة قاعة جميلة هي قاعات المجوهرات تضم من جملة ما تضم تمثالا صغيرا من الفضة لفينوس وقاعة اخرى تحتوي على مجموعة من النقد المضروب في الاسكندرية. المتحف يمنح المرء شعورا ما بأنه لا ينتقل في حيز مكاني وانما يتجوب في ازمنة زمن عتيق ما يزال ينبض. ولدى خروج المرء من المتحف يمكنه ان يرى على بعد مائتي متر فتحة خزان مائي ضخم هو من بقايا العهد الاول للمدينة, من ثلاث طبقات تحت الارض. فهمنا, في الاسكندرية,اكثر الآثار التي تعود الى العهد الروماني او اليوناني موجودة تحت الارض كسرداب "قم الشقافة" وهو مقبرة من القرن الميلادي الاول واهمية السرداب تكمن في اظهار تداخل وتعايش الرموز الدينية من يونانية ورومانية.

من خلال الرسومات الجدارية الملونة فإيزيس بجوار اشخاص يونانيين, وانوبيس يحاور اشخاصا يلبسون الزي الروماني.  تعايش سلمي تحت الارض بين عدة حضارات.

الاسكندرية ليست الماضي العريق فقط, انها حاضر, ايضا, زاهر, بفضل البحر, وبفضل المجهود الذي قام به محمد علي. فهي عاصمة الصيف, حلم مصر, وخصوصا ابن القاهرة الذي يأتي الاسكندرية للتمتع بشطآنها ومسابحها وحيويتها الليلية فتكتظ في الصيف بالسياح ولكن البحر رحب يغسل الشعور بالاختناق.
 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق