السبت، 15 يونيو 2013

ماذا يفعل القمع بالانسان؟



 

مجرّد شعورك بأنّك مراقب يقلب حياتك رأساً على عقب، ويصير الرعب بكلّ تجلّياته رفيقك الدائم، يقضّ مضجع كلماتك ويقضي على أفكارك، وقد يتحوّل شعورك هذا بالنهاية إلى فكّ فتّاك.

هذا ما تحكيه قصّة لا تصدّق، وليس المقصود ولا المطلوب، في أيّ حال، تصديقها. وهي بعنوان "وللجدران آذان"، خلاصتها أنّ أحد المغتربين، قبل زمن الانترنت وثورة الاتصالات، أراد إرسال رسالة إلى أهله، ولكنّه ما إنْ همّ بالكتابة حتى قفزت إلى ذهنه عبارة طالما سمعها في مناسبات عديدة، وهي " أنّ للجدران آذانا"، وبما أنّ لها آذاناً فلا بدّ أنْ تسمع ما أقول، بل لعلّها تعرف فكّ شيفرة صرير القلم على الورق. عاش المجاز على أنّه حقيقة حارقة، فلاحظ، وهو يكتب، أنّ شكل الجدران في غرفته يتغيّر مع كلّ كلمة يكتبها، كان يسمع صوت تصدّعات خفيفة في الجدران، ويرى تشقّقات ترتسم كالخطوط السود في السقف، فدبّ في كلماته الخوف، وفي نفسه شعور حادّ بأنّ الجدران تشنّف آذانها وتسمعه، تصغي لما يكتب. ومع كلّ إحساس جديد يتغيّر شكل الجدران، تنبت فيها نتوءات إسمنتية كالآذان الصغيرة، وكان كلّما خطّ كلمة قام بشطبها مخافة أنْ تسقط رسالته، وهي في رحلتها إلى أهله، في يد قارىء مغرض، يقرأ على ذوقه، فيوقعه في ورطة. فليس أسهل من اللعب بالكلمات. والإنسان لفرْط جهله أو غروره يظنّ أنّه سيّد كلماته التي تخرج من بين شفتيه.

نبتت آذان كثيرة، وكانت، مع كلّ حرف، تنمو، وتزداد نموّاً، أيضاً، مع كلّ حذف، بل انتبه إلى أنّ الآذان تطول لسماع الكلمات الممحوّة أكثر من الكلمات التي لا تزال عارية على الورق. كان يقول إنّه في مأمن حيث هو، ولن يعود إلى بلده. يعيش، في الغربة، نكرة ولكنّه نكرة آمنة، مطمئنة. لا يخاف من أحد ولا أحد يخاف منه. نكرة على الحياد. ولكن هناك، حيث يعدّون على المرء أنفاسه وحركاته وتقلّباته في الفراش وعدد ثواني نومه، الأمر مختلف. وماذا لو أخذوا والدي رهينة، وأرغموه على قراءة كلماتي؟ قد يحوّل الرعب لسانه إلى آلة تسجيل تهذي بما يريدون سماعه، قد يعذّب، قد يقرأ تحت التعذيب ما شاؤوا، يقرأ كلماتهم لا كلماتي. كان بعد كلّ كلمة يكتبها يتوقّف ويستعين بالقاموس، ليقرأ كلّ ما قيل عن هذه الكلمة، فبعض الكلمات لها سوابق سوداء. الاحتياط واجب، كان يقول. اكتشف أنّ بعض الكلمات العربيّة مرعبة، بلسانين، تحمل معنيين متناقضين فكان يسرع إلى محْوها، مخافة أنْ تتحوّل إلى مقصلة تطيح برؤوس ذويه في البلاد. استهلك حبراً لمحْو الكلمات أكثر بكثير ممّا استهلك للكتابة، حتى أشهر الكتّاب الذين اشتهروا بتنقيح كتاباتهم لم يستنزفوا الحبر الذي استنزفه في كتابة مشروع رسالة لا تتعدّى الصفحة. رسالة عاديّة، بسيطة، شديدة السذاجة، رسالة تدخل المسرّة إلى قلب أمّ حفر الشوق أخاديد في قلبها. كانت الورقة تتحوّل، شيئاً فشيئاً، إلى اللون الفاحم، ولا تتخلّلها إلاّ بعض الفجوات البيض. ولكنّ الآذان كانت، مع كلّ حركة، تنمو وتلتهم من فضاء القاعة. كان يخاف على أهله من كلماته، وعلى كلماته من أهله أيضاً. يخاف من هفوة فم، من زلّة لسان، من تهجئة خاطئة لحرف تقلب كلمات الرسالة رأساً على عقب كالرسائل التي تقرأ طرْداً وعكْساً. فكلمات كثيرة بريئة في الظاهر، ولكنّ خبثها متوارٍ في القراءة العكسيّة. ونادرة هي الكلمات التي تحافظ على شكلها طَرْداً وعَكْساً مثل كلمة " ليل " حيث إنّ قراءتها من الأوّل إلى الأخير أو العكس لا تغيّر شيئاً من لفظها ومعناها،  بل أنّ لصق كلمة بأخرى مجاورة قد ينجب كلمة تحمل إدانة له. وما يدريني، يقول لنفسه، فقد يحلو لمن يريد إيقاعي في فخّ الكلام أن يلصق كلمتين أو يفصل مقطعَيْ كلمة فيولّد معنى لم يعبُرْ خاطري. لا أحدَ يمكنه أن يكتب نصّاً مقفلاً، مغلقاً على معنى يتيم خصوصاً أنّنا في زمن يُلعب فيه حتّى بالأجنّة والجينات.

كانت الآذان تنمو. كلّ فكرة يهجس بها تكون كالغذاء الذي تقتاته هذه الآذان الإسمنتيّة. تعب من الكتابة، ومن تأويل ما يكتب، ومن الشطْب والمحْو. قرّر، في الأخير، إرسال ورقة بيضاء. هكذا، على الأقلّ، يعرفون أنّه لا يزال على قيد الحياة، ويصلهم شيء من أثره يحمل رائحته وبصمات يده. لكنّه انتبه إلى أنّ البياض ليس بالضرورة أن يكون لون النقاء أو البراءة، فليس هناك أمهر من الكلمات في التملّص من دلالاتها إلاّ الألوان، فالأبيض لون يمام السلام ولكنّه أيضاً لون الأكفان، كما أنّ في البياض معنى فقدان النظر.

وقبل أنْ ينهي رسالته البيْضاء، كانت الآذان قد نمت نموّاً زائداً، فلم يبق له من فضاء غرفته إلاّ المقعد الذي هو عليه، حتّى لم يعد ما في الغرفة من هواء يكفيه للتنفّس فضاق نفَسه إلى أنْ لفظ أنفاسه.

 ولقد أثارت يده اليسرى، حين اكتشفت جثّته الجالسة على الكرسيّ، فضول من رآها إذ كانت أصابعها مضمومة على ورقة صغيرة بيضاء مكتوب عليها، بخطّ عريض مرتجف، كلمتان حروفهما متشابهة تشابهاً قاتلاً ومقطعة الأوصال ولا يفصل بينهما إلاّ سهم: " ق م ع ! ع ق م".

 

بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق