الأحد، 16 يونيو 2013

جماليات فن التشويق اللغوي/ قراءة في كتاب" لعنة بابل" مراجعة: ضحى عبد الرؤوف المل*



ترتعب
الحواس حين تنظر الى  كلمة لعنة،  فتخاف حتى تحريك الشفاه لتقرأها، لكنك مؤكد ستفضل الصمت أو عبورها بسرعة.  ربما! لأنها موجودة في التوراة والانجيل والقرآن، وقد ارتبطت ذهنيا بقصة طرد ابليس من الجنة، وربما لأننا نعي انها تقال عند الغضب،  لكن"  بلال عبدالهادي" ترك " لعنة بابل"  تتصدر عنوان كتابه الأول برمزية لها غناها الفكري والمعرفي.  لأن حقول اللغة مليئة بالاختلاف والائتلاف،  لكنه حدد اللغة بالعربية،  لينطق مع ضادها بتضاد ساق منه كل معنى مأخوذ من ابنة الصحراء الشرعية- اللغة العربية،  فهل" لعنة بابل" نعمة لغوية لألسن في تشابه  وبلبلة ما هي إلا تغريدات ألسن تنطق بمختلف الثقافات المتنوعة ؟.
بدأ " بلال عبدالهادي" كتابه بمقدمة حملت من بنات أفكاره ما تمنى أن يضعه بين ضفتي كتاب،  ملوحا بما يجول في خاطره عن مصائر الكتب، " فلا أحد  يمكنه أن يتنبأ بالمسار الذي تبيته له الأقدار"، إلا انه اضاء بآية من سورة الروم،  ثم استكمل بإضاءة ثانية من سفر التكوين،  وكيف أن الارض كلها كانت لغة واحدة قبل أن تقع اللعنة على مدينة بابل،  ونبدأ بالماء إن حكى في تتبع سردي اتقن فيه حسن  اختيار المعاني، ليغوص القارىء معه في بحث عن أول معجم عربي مرتبط على نحو ما بالماء ، وهو كتاب العين للعبقري المتعدد المواهب خليل بن احمد الفراهيدي، وهنا يتساءل " بلال عبدالهادي" مع القارىء،  وكأنه يشاركه حديث النفس فيقول:" قد يقال ما علاقة كتاب الخليل بالماء،  فهو لا يقصد إلا حرف العين لأنه بدأ به معجمه هذا صحيح، ولكن الخليل أكبر من أن يحصر نفسه في حرف،  فالعين في اللغة العربية لها دلالات كثيرة منها عين الإنسان وعين الأرض.
"ليضعنا بعد ذلك أمام الصراعات المستقبلية متمنيا أن نستيقط لغويا قبل أن تتحول مياهنا العذبة آبارا جافة أو ماء أجاجا لا يستساغ شرابه؟
موضوعية فرضها بحبكة لا تخلو من فكاهة على مقالات كتابه الستين، وأسلوبية ذكية أمسكت بكل كلمة تخاف قولها بينك وبين نفسك، كي لا يسمعها" بلال عبدالهادي"، ويأخذك مع خط سياسي إلى منامات ومقامات،  وعناوين منحها من لسانه رطب لغة دأب على الارتقاء فيها،  ليحلق مع استعاراتها بسيميائية تجعل القارىء يستمتع بعذوبة فن تسويق لغوي، يؤدي إلى مفهوم تحليلي،  يدفعنا إلى تأملات نستفيق منها على الفصل بين التاء والطاء،  وبين الدال والضاد،  ولا تعرف أين تنتهي حدود القاف،  وأين تبدأ حدود الكاف،  لنضحك مع واقع نعيشه في وطن استعارت الألسن فيه لهجة ممزوجة،  أو مضافا عليها بعض التوابل والبهارات.  لو اردنا الدخول بعدها الى مطبخ ابن الرومي من خلال"  عمل حضاري جاد لا يجوز الاستخفاف به "وفي هذه المقالة عودة الى ابن الرومي،  والتنويعات الصوتية، والغزارة الشعرية التي جعلت، " بلال عبدالهادي"، يتصفح ديوانه ليعرف نسبة الأبيات الغذائية الدسمة، وهنا استوقفتني سلاسة الاحصاء  للمآكل والأسماء،  وأدوات الطبخ المسببة لأوجاع في معدة هي بيت الداء.
 بل اوصلت صاحبها الى القبر، كما وصل مسرور ومقرور من قبل، وهنا أحسست ببلبلة في فكري فقد اختلط علي الأمر، بعد ان امتلأ رأسي بمفردات ومعان اطربتني من كائن يحب الحكي بمهارة طباخ وضع نقطة على الحاء، وجعلنا نُطرب للكلام.
 هنا اسمحوا لي ان اقول عذرا لأن الذهن ارتجف من لغة هي كالماء تجعل كل شيء حيا،  فالمقالات الستون تنبع من عين قواميسها لا تجف،  وشهرزادها  تنصت وتصمت،  فلا تتكلم إلا بسرد عفوي ابتعد عنه " بلال عبدالهادي" مع سبق الإصرار والترصد،  ليملأ حواس القارىء  بقاموس" لا يجرؤ أي مثقف فيما أظن على القول :"أنا لا احتاج الى قاموس" فالقاموس زميل جميل يرافق الانسان من اول ما تتفتح عينه ووعيه على الحرف" فهل لعنة بابل هي قاموس سيميائي لألسن تتبع اصطلاحات وعناوين تجعلك تشعر بالمتعة،  كحارس مملكة المعنى، وفي هذا المقال تشويق وترغيب،  وإمساك بالقارىء والانتباه له كي لا يقع في مرمى اللغة العميق .
تجوال في سوق المفردات والتعابير،  والاستعارات بل سياحة فكرية تقرأها، وتستمتع بالمسائل اللغوية التي يطرحها بفن بارع،  وديناميكية لا تخلو من حنكة ودهاء . أدرك ان المؤلف حين يقرأ مقالتي هذه سيضع بعض التعابير والاستعارات تحت مجهر لعنة تركتني كمولود يصرخ صرخته الاولى،  لأدخل في متاهة لم استطع الخروج منها الا بعد ان انهيت المقال الاخير بعنوان كلام الخرسان،  وقلت الحمد لله انني سأصمت الآن قبل ان"  يأتي يوم ينكسر فيه جدار الصمت الشفاف والعازل الذي يفصل الخرسان عن الآخرين، وذلك باستثمار طاقات الوجه واليد في التعبير بدلا من ان يظل الاخرس منتميا الى عالم مبعثر في المعمورة،  وكانه امة ممزقة حدودها اناس ينطقون." فهل ستصاب لغة الضاد بلعنة تجعلها تندمج مع لغات اخرى؟.أم ان رتق الذاكرة وفحولة اللسان هي مقالة يستحق كاتبها نيل الحسنات من لغة لا تخلو من حياكة،  وحبك،  وتطريز، ونسيج نال الاستحسان،  فإن قرأت كتاب " لعنة بابل"  تأكد أن الكتاب ينطق بلسان لم يتبلبل بل حافظ على ولعه بـــالواو العــاطفة والواصلــة بين عالمين.
كتاب" لعنة بابل"  للمؤلف بلال عبدالهادي الصادر عن " مركز محمود الادهمي الثقافي" للنشر  طرابلس -لبنان
*كاتبة من لبنان

http://www.alsabaah.iq/ArticleShow.aspx?ID=48424

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق