الثلاثاء، 17 يونيو 2014

القلم الذكيّ والكتاب الممزّق


 
عاش القلم طويلاً كأداة من أدوات الكتابة ثمّ جاء التطوّر الرقميّ ليقلّص من نفوذه ويقضم من مجاله الحيويّ. القلم لن يخسر المعركة، ولكنه سيغير طبيعته، القلم استراتيجيّ محنّك، سيتحول الى قلم ذكيّ لا يفارق الجيوب! وسيرة حياة القلم تستحقّ التأريخ، أو قل سيرة أدوات الكتابة وتحوّلاتها عبر السنين، من تاريخ بدء الكتابة بالقصبة بل بما قبل القصبة إلى ما بعد القلم المعهود، أي الى زمن القلم الرقميّ الذي نعيش اليوم بداياته الطريفة. وتاريخ الكتابة قسمان: قسم نكتب به، وقسم آخر نكتب عليه، أي بتعبير آخر: تاريخ القلم وتاريخ الورقة. وتاريخ القسمين يتغيّر على مرأى من أعيننا!

تغيّر مصير القلم مع مجيء الألواح الرقمية، والحواسيب والهواتف الذكيّة. كان القلم جزءا من حياة الكاتب، لم يعد القلم، اليوم، رفيق أصابع الكاتب. ولكن هل سيرضى القلم عن هذا المصير المنتظر؟ هل سيقبل القلم بهزيمة نكراء؟ أظنّ، أتخيّل ان القلم لن يقبل بالهزيمة، وسيعود من الشبّاك بعد طرده من الباب. ماذا سيكون رأيك عن قلم يكتب بخطّ يدك من غير أن تمسكه أصابعك. ثمّة، اليوم، نوع من الأقلام كعصا الضرير البيضاء، يقرأ لك، يتفوّه لسان القلم بالكلمات بمجرّد مروره عليها، بل ويترجمها لك. ولكن تخيّل قلماً يكتب عنك بخطّك! أنت تحكي وهو يكتب. يتحوّل صوتك إلى ما يشبه الأصابع القابضة على القل! من يستغني ساعتئذ عن قلم علاقته لا تعود مع اصابعك فقط وانما، أيضاً، مع شفتيك؟ تخيّل مثلا كاتباً بترت – لا سمح الله- يده، ولكنّ قلمه الذكي يظلّ يكتب بخطّ يده المبتورة؟ يد لا وجود لها تكتب لأن القلم فائق الذكاء حفظ كلّ عادات اليد  المبتورة وطقوسها في الكتابة؟

للقلم أن يبدع حضوره الجديد ليستعيد دوراً لم يسبق له ان لعبه من قبل. قد يقول قائل: انت حالم! أقول له : ثقتي بذكاء الإنسان تجعل ما تظنّه مستحيلاً لعبة أولاد صغار. الغد يحتضن كلّ المستحيلات بحنوّ.  وللغد الانسانيّ قدرة تكنولوجيّة على ترويض المستحيلات .

وبدايات القلم الذكيّ تطلّ برأسها، ولا أحد يدري متى ترفع الستارة ليطلّ بكل قامته الممشوقة. فمك هو يدك المجازية التي تكتب. قلمك الذكي يكتب وكأنه يرقص على الورق وانت تتأمل رشاقة جسده وهو يكرج كرج الماء على الورق.

الكارثة إذا سرق أحدهم قلمك الذكيّ لتبدأ مشكلة قرصنة الأقلام، قالت لي إحدى من نقلت لها خبر القلم الذكيّ، فقلت لها: القلم يتمتّع بالذكاء ولن ينفّذ إلاّ رغبات صوتك. قلم أذكى من أن يضحك عليه صوت، قلم يتمتّع بوفاء كلب! ولا ننسى أيضاً ان الانسان الآليّ " Robot" لا يزال في عصره الحجريّ ، وقد يأتي يوم يكون فيه الانسان الآلي بحجم قلم فائق الذكاء!

هل سيموت القلم؟ هذا سؤال. ولكن ألا يعارضه سؤال آخر أكثر حنكة يقول: هل بدأت حياة القلم فعلا؟

 

الكتاب الممزّق

كيف يعيش كتاب؟ وكيف يموت؟ حياته ليست واحدة، ومماته ليس واحداً. حياة الكتاب كما حياة الانسان وكما مماته. تخيّل الكتاب انساناً من لحم ودم وستعرف كيف يعيش الكتاب؟ لا نهاية واحدة لكتاب ولا حياة واحدة لكتاب. الانسان يهاجر، والكتب ايضا تهاجر. قد يموت الانسان ولكن يبقى شيء منه على قيد الحياة. قد يظن المرء ان المسألة خيالية او سوريالية. وقد يموت شيء من الإنسان ويبقى هو حيّاً؟ ماذا تقول عن انسان بترت يده او ساقه في حياته؟ هذا على نسق ما قال ابو نواس " اموت عضوا فعضوا" ، تموت أعضاؤه بالتقسيط. السوريالية جزء من حياة الناس اليومية، وجزء من الواقعية غير الافتراضية. الحدود بين الافتراضيّ وغير الافتراضيّ حدود رجراجة. كيف يموت انسان ولكن يبقى جزء منه، يبكي له او يرثيه لحظة توديعه. المستشفيات مختبر سوريالي، وكذلك حياة الكتاب. الامثلة كثيرة عن تحوّلات مصير الكتب ومصير الأجساد. بعض الكتب تؤمن على الطريقة الهنديّة بتقمّص الأرواح، ولها قدرة جسم عروة بن الورد.

اعود الى ان النص الواحد هو جسد. والجسد حين ينتهي أجله لا ينتهي أجله كلّه، قد ينتهي أجل بعضه. بعد كلامي، هنا، سيتضّح مبرّر وجود جسد عروة بن الورد الجاهليّ. نسمع بتبرّع الأعضاء. ماذا يعني، عمليّاً، التبرّع بالأعضاء؟ يعني ، بكلّ بساطة، أنّ الميت ليس ميتاً! شخص مات، تحوّل جسده إلى جثمان، ولكن عين الجثّة تستعين بحياة أخرى لتسمرّ على قيد الحياة، لا تنزل مع صاحبها الى القبر، ينزل هو الى الحفرة، اما عينه  فتسكن في محجر عين جديدة، وتتابع حياتها منفصلة عن مسكنها الأوّل.

وهب الاعضاء هو نوع من المكافأة لها، هو تأجيل موتها، هو انفصال عن جسدها. في تاريخ الكتب نرى وهب أعضاء، او شيئاً يشبه وهب الأعضاء. وسأعطي مثالاً واحداً هو كتاب "المزهر" للإمام جلال الدين السيوطي، يتضمّن هذا الكتاب نصوصاً وشذرات وفقرات كثيرة من كتب اختفى أثرها، ضاعت، حرقت، دفنت، كتب ، إلى اليوم ، مجهولة المصير. دفن الكتب ليس امرا خارقا للمألوف، وهناك تعبير في العربية جارح  " وأد الكتب" اي دفنها حيّة! على غرار وأد الفتيات في الجاهليّة.  ولكن النصوص المقتبسة والمدرجة في كتاب السيوطي ابقاها حية لم تتحول الى شواهد قبور! مثلاً هناك شعراء فقدت دواوينهم الشعرية ومع هذا تجد لهم في المكتبات دواوين! كيف تمّ ذلك؟ قام احد الكتاب المولعين بالصيد بصيد أبياتهم من الكتب، ولملمتها من بطون الكتب، ثمّ ضمّها ولمّ شملها، وهي ليست الديوان كلّه! فتافيت دواوين فتافيت أعضاء من جسد الديوان المجهول. ولكنها فتافيت حيّة، طيّبة، لا تشكو من علّة.

 مصائر الكتب حلوة وغنية. مثلا كتاب اختفت نسخته الأصلية. وليس هناك أي نسخة له، ولكن شاء قدره الجميل ان يترجم في وقت ما، ولم تبق منه إلاّ نسخته المترجمة، وهكذا يكون الكتاب موجودا وغير موجود، روحه ترفرف في جسد ثان، جسد لغوي غريب. الترجمة لعبة لغوية، ووسيلة من وسائل مخاتلة الموت.

ذكرت في مكان ما من هذا النصّ جسد عروة بن الورد، وشبهت بعض الكتب بجسد عروة بن الورد ، وسبب ذلك هو بيت من الشعر يوزّع فيه الشاعر جسده في أجساد كثيرة، يتقاسم جسمه كما نتقاسم رغيف الخبز، يقول:

أُقَسِّمُ جسمي في جسوم كثيرة، وأحسو قراح الماء والماء باردُ

ألا يوزّع النصّ جسمه في نصوص كثيرة، ولغات كثيرة من طريق الشواهد والترجمات؟

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق