السبت، 7 يونيو 2014

كتاب فصل ما بين العداوة والحسد الجاحظ

الرسالة التاسعة
كتاب فصل ما بين العداوة والحسد
بسم الله الرحمن الرحيم
أصحب الله مدّتك السعادة والسلامة، وقرنها بالعافية والسرور، ووصلها بالنعمة التي لا تزول، والكرامة التي لا تحول.
هذا كتابٌ - أطال الله بقاءك - نبيلٌ بارع، فُصل فيه بين الحسد والعداوة، ولم يسبقْني إليه أحد ولا إلى كتاب فضل الوعد الذي تقدَّم هذا الكتاب، ولا إلى كتاب أخلاق الوزراء الذي تقدَّم كتاب فضْل الوعد.
وإنما نُبلتْ هذه الكتبوحسنت وبرعت، وبذَّت غيرها؛ لمشاكلتها شرف الأشراف، بما فيها من الأخبار الأنيقة الغريبة، والآثار الحسنة اللطيفة، والأحاديث الباعثة على الأخلاق المحمودة، والمكارم الباقية المأثورة، مع ما تضمَّنتْه من سير الملوك والخلفاء ووزرائهم وأتباعهم، وما جرت عليه أحوالهم.
فأنا أسألك بساطع كرمك وناصع فضلك، لما امتننت عليَّ بصرف عنايتك إلى قراءتها.
فإنْ لم يمكنك تبحُّرها والتقصِّي لجميعها، للأشغال التي تعروك، فبحسبك أن تقف على حدودها، وتتعرَّف معاني أبوابها بتصفُّح أوائلها؛ فإن معك قلباً به من اليقظة والذكاء، والتوقد والحفظ، ما يكفي معه النظر الخاطف.
إنه لم يخلُ زمنٌ من الأزمان فيما مضى من القرون الذاهبة إلا وفيه علماء محِقُّون، قد قرءوا كتب من تقدمهم، ودارسوا أهلها، ومارسوا الموافقين لهم، وعانوا المخالفين عليهم، فمخضوا الحكمة وعجموا عيدانها، ووقفوا على حدود العلوم، فحفظوا الأمهات والأصول، وعرفوا الشرائع والفروع، ففرقوا ما بين الأشباه والنظائر، وصاقبوا بين الأشكال والأجناس، ووصلوا بين المتجاور والمتوازي، واستنبطوا الغامض الباطن بالظاهر البيِّن، واستظهروا على الخفيِّ المشكل بالمكشوف المعروف، وعُرفوا بالفهم الثاقب والعلم الناصع، وقضت لهم المحنة بالذكاء والفطنة، فوضعوا الكتب في ضروب العلوم وفنون الآداب لأهل زمانهم، والأخلاف من بعدهم. يزدلفون بذلك إلى الممتنّ عليهم بفضل المعرفة التي ركَّبها الله فيهم، وأبانهم من غيرهم، وفضَّلهم عليهم، ويباهون به الأمم المخالفة لهم، ويتبارون بذلك فيما بينهم. ولهم حُسادٌ معارضون من أهل زمانهم في تلك العلوم والكتب، منتحلةٌ يدعون مثل دعاويهم، قد وسموا أنفسهم بسمات الباطل، وتسمَّوْا بأسماء العلم على المجاز من غير حقيقة، ولبسوا لباس الزُّور متزخرفين متشبِّعين بما لا محصول له. يحتذون أمثلة المحقِّين في زيِّهم وهديهم، ويقتفون آثارهم في ألفاظهم وألحاظهم، وحركاتهم وإشاراتهم، لينسبوا إليهم ويُحلُّوا محلهم، فاستمالوا بهذه الحيلة قلوب ضعفاء العامة، وجهلاء الملوك، واتخذهم المعادون للعلماء المحقِّين عُدةً يستظهرون بهم عند العامة.وحمل المدعية للعلم المزور الحسد على بهْت العلماء المحقِّين، وعضْههم والطعن عليهم، وجرّأهم على ذلك ما رأوا من صَغْو ضعفة القلوب وإذلة الناس إليهم، وميل جهلاء الملوك معهم عليهم، وأملوا أن ينالوا بذلك بشاشة العامة، وتستوي لهم الرياسة على طغام الناس ورعاعهم، ويستخولوا رعاتهم وقومهم، فهمروا وهدروا وتوردوا على أهل العلم بغباوتهم، وكشفوا أغطية الجهل عن أنفسهم، وهتكوا ستراً كان مسدلا عليهم بالصمت. فقد قيل: " الصمت زين العالم، وستر الجاهل " ؛ طمعاً في الرياسة وحباً لها. وقد قيل:
حبُّ الرياسة داءٌ لا دواء له ... وقلَّما تجد الراضين بالقسم

ولم يخل زمنٌ من الأزمنة من هذه الطبقة ولا يخلو. وهلاك من هلك من الأمم فيما سلف بحبِّ الرياسة. وكذلك من يهلك إلى انقضاء الدهر فبحبِّ الرياسة.
وقد قيل: هلاك الناس منذ كانوا إلى أن تأتي الساعة بحبِّ الأمر والنَّهي، وحبِّ السَّمع والطاعة.
فأشكل على العامة أمر العالم الحقيقيّ والمدعي المجاري المنتحل للزُّور والباطل؛ ثم ترادف عليهم من هذه العلل التي يعمى لها السبيل الواضح والطريق المنشأ،على الجاهل المستضعف؛ وذي الغباء المسترهف.
ولست آمن - جعلني الله فداك - أن تكون هذه الكتب التي أُعنى بتأليفها، وأتأنق في ترصيفها، يتولى عرضها عليك من قد لبس لباس الزور في انتحال وضع مثلها، ونسب نفسه إلى القوة على نظائرها، والمعرفة بما يقاربها، إن لم يكن أخاها فابن عمِّها، وتشبع بما لم يُطعمْه الله منها.
ولعل بعض من حوله، أو بعض من يهزل به، ويرتع في عقله ويلهو بلبه، ويضعه على طبطابة اللعب، وفي أرجوحة العبث، يوهمه. الحسد له على ما يدَّعي من ذلك، ويتقدم إلى آخرين في إيهامهم إياه ذلك، فيزيده فعلهم ضراوةً بادعاء ما ليس معه وهو منه عارٍ. فإذا رجع إلى الحقائق علم أن مثله كما قد قيل:
ومن يسكن البحرين يعظم طحاله ... ويغبطْ بما في البطن والبطن جائع
وقد قيل: " الذئب يغبط وهو جائع " . فيلتوي في قراءتها، ويقبض لسانه عن بسط ما يحتاج أن ينشره منها، ويقصِّر في تفخيم حروفها ولا يملأ فمه منها.
بل لا آمن أن يتجاوز ذلك إلى الطعن عليها بقولٍ أو إشارة، فيوهم فساد معانيها ويُومي إلى سقوط ألفاظها، من غير أن يُظهر المعاداة لها ، والحسد لمؤلفها، والحمل عليها بقولٍ يكون دليلاً على ما يضمر، وهو أبلغ ما يكون من قلب المستمع وأنجعه فيه، فيقع ذلك بخلده. وقد قيل: " من يسمع يخلْ " .
وليس يقابله أحدٌ بردٍ، ولا يوازيه بنزاع، فيزداد نشاطاً عندما يرى من خلاء الأمر. وقد قيل: " كلُّ مُجْرٍ في الخلاء يُسرُّ " وكلُّ مناظر متفردٍ بالنظر مسرور، وإنما يُعرف جري الخيل عند المسابقة، وبراعة النظر عند المخاصمة.
وقال لي بشرٌ المريسي: عُرض كتابي على المأمون في تحليل النبيذ، وبحضرته محمد بن أبي العباس الطوسي، فانبرى للطعن عليه والمعارضة للحجج التي فيه، وأسهب في ذلك وخطب، وأكثر وأطنب، فقلق المأمون واحتدم، وهاج واضطرم؛ لاستحقار الطُّوسي وخلاء المجلس له، وكان يحب أن يزعه وازعٌ يكفُّه بحجةٍ تسكنه، فلما لم ير أحداً بحضرته يذبُّ عن كتابي قال متمثلاً:
يا لك من قُبّرةٍ بمعمر ... خلا لك الجوُّ فبيضى واصفرى
ونقِّرى ما شئت أن تنقِّري
فما كان إلا ريث فراغه من التمثل بهذه الأبيات حتى استؤذن لي فدخلت عليه، فقال: يا أبا عبد الرحمن، ما تقول في النبيذ؟ فقلت: حلٌّ طلقٌ يا أمير المؤمنين. فقال: فما تقول فيما أسكر كثيره؟ قلت: لعن الله قليله إذا لم يسكر إلا كثيره. ثم قال: إن محمداً يخالفك. فأقبلت على ابن أبي العباس فقلت له: ما تقول فيما قال أمير المؤمنين؟ قال: لا خلاف بيني وبينك. كلاماً يوهم به أهل المجلس، حبّاً للتسلُّم مني والتخلُّص من مناظرتي،لا على حقيقة التحليل له. فاستغنمت ذلك منه وقلت له: فما لي لا أرى أثر قواه في عقلك؟ فضحك المأمون، فلما رأيت ضحكه أطنبت في معاني تحليل النبيذ، وابن أبي العباس ساكتٌ لا ينطق، وكان قبل دخولي ناطقاً لا يسكت. فلما رأى المأمون سكوته عند حضوري مع كثرة كلامه في ثَلْب كتابي وعيبه كان قبل دخولي، قال متمثِّلاً:
ما لك لا تنبح يا كلب الدَّومْ ... قد كنت نباحاً فما لك اليومْ
ثم نظر إليَّ فقال: إنَّ الكتب عقول قومٍ وراءها عندهم حججٌ لها، فما ينبغي أن يُقضى على كتابٍ إلا إذا كان له دافع عنه، وخصمٌ يبين عما فيه؛ فإن أبناء النِّعم وأولاد الأسْد محسودون.
ثم قال: يا أبا عبد الرحمن، بإزاء كل حاسد راهن.
وقد قيل في مثلٍ من الأمثال: " الحسن محسود " . وفي مثل آخر: " لن تعدم الحسناء ذاماً " . وقال الأحنف بن قيس:
ولن تصادف مرعىً ممرعاً أبداً ... إلا وجدت به آثار مأكول
يقول: يُعاث في كل مرعىً حسنٍ ويؤكل منه، فيعيبه ذلك.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " ما أحدث الله بعبدٍ نعمةً إلا وجدت له عليها حاسداً. ولو أن امرأً كان أقوم من القدْح لوجدت له غامزاً " .
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: الحاسد لا يملك إلا عنان حسده؛ لآنه مغلوبٌ على نفسه.
وقال الخطاب بن نُمير السعدي: الحاسد مجنون؛ لأنه يحسد الحسن والقبيح.
وقال المهلب بن أبي صفرة: الحسد شهابٌ لا يبالي من أصاب، وعلى من وقع.
والعداوة لها عقل تسوس به نفسها فينجم قرنها، وتُبدى صفحتها في أوقات الهتْر. وإلا فإنها كامنةٌ تنتهز أزمنة الفرص. والحسد مسلوب المعقول بإزاء الضَّمير في كل حينٍ وزمانٍ ووقت.
ومن لؤم الحسد أنه موكل بالأدنى فالأدنى، والأخصِّ فالأخص. والعداوة وإن كانت تقبَّح الحسن فهي دون الحسد؛ لأن العدو المباين قد يحول وليّاً منافقاً، كما يحول المولى المنافق عدوّاً مبايناً.
والحاسد لا يزول عن طريقته إلا بزوال المحسود عليه عنده. والعداوة تحدث لعلةٍ، فإذا زالت العلة زالت معها. والحسد تركيب لعله يحسد عليه فهو لا يزول إلا بزواله. ومن هذا قال معاوية رحمه الله: يمكنني أن أرضي الناس كلهم إلا حاسد نعمة، فإنه لا يرضيه منها إلا زوالها.
وأعداء النعمة إذا شوركوا فيها ونالوا منها تزحزحوا عن عداوتها، وكانوا من أهلها المحامين عنها، والدافعين عن حماها.
ومن هذا قال المغيرة بن شعبة: النعمة التي يعاش فيها نعمةٌ محروسة ليس عليها ثائر يغتالها، ولا ذو حسد يحتال في غيرها.
وقال قتيبة بن مسلم: خير الخير وأحصنه خيرٌ عيش فيه. وكلُّ خيرٍ كان يرضخ بذلاً كان من المتالف ممنوعاً، ومن الغير آمناً.
وحسَّاد النعمة إن أعطوا منها وتبحبحوا فيها، ازدادوا عليها غيظاً وبها إغراء.
والعداوة تُخلِقُ وتُمَلُّ، والحسد غضٌّ جديد، حرم أو أعطي، لا يبيد. فكلُّ حاسد عدو بحاسد. وإنما حمل اليهود على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم - وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم أنه نبيٌّ صادق ورسول محق، يقرءون بعثه في توراتهم، ويتدارسونه في بيت مدْراسهم - الحسد، وحجز بين علمائهم والإيمان به، ثم نتج لهم الحسد عداوته.
ومن الدليل على أن الحسد آلم وآذى وأوجع وأوضع من العداوة، أنه مُغرىً بفعل الله عزّ وجلّ، والعداوة عارية من ذلك لا تتصل إذا اتصلت إلا بأفعال العباد. ولا يُعادى على فعل الله تباركت أسماؤه. ألا ترى أنك لم تسمع أحداً عادى أحداً لأنه حسن الصورة جميل المحاسن، فصيح اللسان حسن البيان. وقد رأيت حاسد هذه الطبقة وسمعت به، وهم كثير تعرفهم بالخبر والمشاهدة.
فهذا دليلٌ على أن الحسد لا يكون إلا عن فساد الطبع، واعوجاج التركيب، واضطراب السُّوس.
والحسد أخو الكذب، يجريان في مضمار واحد؛ فهما أليفان لا يفترقان، وضجيعان لا يتباينان. والعداوة قد تخلو من الكذب؛ ألا ترى أن أولياء الله قد عادوا أعداء الله إذ لم يستحلُّوا أن يكذبوا عليهم؟! والحسد لا يبرأ من البُهت، وكيف يبرأ منه وهو عموده الذي عليه يعتمد، وأساسه به البناء يُعقد. وأنشد:
كضرائر الحسْناء قُلن لوجهها ... كذباً وزوراً إنه لدميم
والحسد نارٌ وقوده الرُّوح، لا تبوخ أبداً أو يَفْنى الوقود. والحسد لا يبلى المحسود أو الحاسد. والعداوة جمر يُوقده الغضب، ويطفئه الرِّضا، فهو مؤمَّلالرُّجوع مرجو الإنابة. والحسد جوهرٌ والعداوة اكتساب.
وقال بعضهم: الحسد أنثى، لأنه ذليل؛ والعداوة ذكرٌ فحْل، لأنها عزيزة.
والحسد وإن كان موكلا بالأدنى فالأدنى فإنه لم يعر منه الأبعد فالأبعد. فقد رأينا وشاهدنا من كان يسكن العراق وينتحل العلم والأدب، انتهى إليه خبر مشاركٍ له في الصناعة من أهل خراسان وجنْبة بلْخ من اتساق الرياسة في بلده، وجميل حاله ونبيل محلِّه عند أهل مصره، وطاعة العامة له، وترادف الناس عليه، فطار قلبه فرقاً، وأخذتْه الأرْباء، وتنفس الصعداء وانتفض انتفاض المفلس الممطور، فقال لي رجلٌ من إخواني كان عن يميني، حين رأى ما رأى منه: بحقٍّ قال من قال: " لم يُر ظالم أشبه بمظلوم من حاسد نعمة؛ فإن نفسه متّصل، وكربه دائم، وفكرته لا تنام " .
وهو في أهل العلم أكثر، وعليهم أغلب، وبهم أشدُّ لصوقاً منه بغيرهم من الملوك والسُّوقة. وكأن من ناله التقصير في صناعة العلم عن غايته القصوى قد استشعر حسد كل ما يرد عليه من طريف أدبٍ، أو أنيق كلام، أو بديع معنىً. بل قد وقع بخلده لضعفه، وقرَّ في روعه لخساسته، أنه لا ينال أحدٌ منهم رياسةً في صناعة، ولا يتهيأ له سياسة أهلها، إلا بالطَّعن على نواصيهم، والعيب لجِلَّتهم، والتحيُّف لحقوقهم.
قال لي مسلم بن الوليد الأنصاري الشاعر، الذي يُعرف بصريع الغواني: خُيِّل إلى نوكي الشعراء أنهم لا يُقضى لهم بجودة الشعر إلا بهجائي والطعن في شعري، ولسانٍ يُهجى به عرضي، لا أنفكُّ متهما من غير جرم، إلا ما سبق إلى قلوبهم من وساوس الظنون والخواطر التي أوهمتهم أنه لا يسجل لهم بجودة الشعر إلا إذا استعملوا فيَّ ما خُيل إليهم.
وأخبرني أشياخنا من أهل خراسان أن أبا الصَّلت الهرويّ كان عند الفضل بن سهل ذي الرياستين بمرو، فقرأ عليه كتاباً ألفه النَّضضر بن شُميل، فطعن أبو الصلت فيه، وكان الفضل عارفاً بالنضر الشُّميليّ، واثقاً بعلمه، مائلاً إليه،فأقبل على أبي الصلت وقال له: إن يحيى بن خالدٍ قال يوماً: إن كتبي لتُعرض على من يغلظ فهْمه عن معرفتها، ويجسو ذهنه عنها، ولا يبلغ أقصى علمه ما فيها - يُعرِّض بإسماعيل بن صُبيح - فيطعن فيها ولا يدري ما يقرأ عليه منها. إلا أن نار الحسد تُلهبه فيهذي هذيان المريض، ويهمز همزات الغيْري، ثم لا يرضى أن يقف عند أول الطعن ويميل عنه حتى يستقصي على نفسه إظهار جهله عند أهل المعرفة، باستيعابه الطعن على ما لم يبلغ درايته، ولم يُحط به علمه، ثم يُنسيه جهله الطعن الذي تقدم منه فيها، ويحمله نوكُه على استعمال معانيها وألفاظها، في كتبه إلى إخوانه وأعوانه الذين شهدوه في أوان طعنه عليها، وحين ثلْبه لها.
وقد عرفت حقيقة ما قال يحيى بن خالدٍ بالتجربة والابتلاء. وإني ربما ألفت الكتاب المحكم المتقن في الدِّين والفقه، والرسائل والسيرة، والخطب والخراج والأحكام، وسائر فنون الحكمة، وأنسبه إلى نفسي، فيتواطأ على الطعن فيه جماعةٌ من أهل العلم، بالحسد المركب فيهم، وهم يعرفون براعته ونصاعته. وأكثر ما يكون هذا منهم إذا كان الكتاب مؤلفاً لملكٍ معه المقدرة على التقديم والتأخير، والحطِّ والرَّفع، والترغيب والترهيب، فإنهم يهتاجون عند ذلك اهتياج الإبل المغتلمة، فإن أمكنتْهم حيلةٌ في إسقاط ذلك الكتاب عند السيد الذي أُلِّف له فهو الذي قصدوه وأرادوه، وإنْ كان السيد المؤلَّف فيه الكتاب نحريراً نقاباً، ونقريساً بليغاً، وحاذقاً فطناً، وأعجزتْهم الحيلة، سرقوا معاني ذلك الكتاب وألّفوا من أعراضه وحواشيه كتاباً، وأهدوه إلىملك آخر، ومتُّوا إليه به، وهم قد ذمّوه وثلبوه لما رأوه منسوباً إليّ، وموسوماً بي.
وربما ألفت الكتاب الذي هو دونه في معانيه وألفاظه، فأترجمه باسم غيري، وأحيله على من تقدمني عصره مثل ابن المقفع والخليل، وسلْم صاحب بيت الحكمة، ويحيى بن خالد، والعتّابيّ، ومن أشبه هؤلاء من مؤلِّفي الكتب، فيأتيني أولئك القوم بأعيانهم الطاعنون على الكتاب الذي كان أحكم من هذا الكتاب، لاستنساخ هذا الكتاب وقراءته عليّ، ويكتبونه بخطوطهم، ويصيِّرونه إماماً يقتدون به، ويتدارسونه بينهم، ويتأدّبون به، ويستعملون ألفاظه ومعانيه في كتبهم وخطاباتهم، ويروونه عنيِّ لغيرهم من طلاب ذلك الجنس فتثبت لهم به رياسة، ويأتمُّ بهم قومٌ فيه؛ لأنه لم يترجم باسمي، ولم يُنسب إلى تأليفي.
ولربما خرج الكتاب من تحت يدي مُحصفاً كأنه متن حجرٍ أملس، بمعانٍ لطيفةٍ محكمةٍ، وألفاظ شريفة فصيحة، فأخاف عليه طعن الحاسدين إنْ أنا نسبته إلى نفسي، وأحسد عليه من أهمُّ بنسبته إليه لجودة نظامه وحسن كلامه، فأُظهره مُبْهماً غُفلاً في أعراض أصول الكتب التي لا يُعرف وُضّاعها، فينهالون عليه انهيال الرَّمْل، ويستبقون إلى قراءته سباق الخيل يوم الحلْبة إلى غايتها.
وحسد الجاهل أهون شوكةً وأذلُّ محنا، من حسد العارف الفطن؛ لأن الحاسد الجاهل يبتدر إلى الطعن على الكتاب في أوّل وهلة يُقرأ عليه، من قبل استتمام قراءته ورقةً واحدة؛ ثم لا يرضى بأيسر الطعن وأخفه حتى يبلغ منه إلى أشده وأغلظه، من قبل أن يقف على فصوله وحدوده. وليس ثلْبه مفسَّرَّاً مفصَّلا، ولكنه يُجمل ذلك ويقول: هذا خطأ من أوله إلى آخره، وباطل من ابتدائه إلى انقضائه، ويحسب أنه كلما ازداد إغراقاً وطعناً وإطناباً في الحمْل على واضع الكتاب، كان ذلك أقرب إلى القبول منه. وهو لا يعلم أن المستمع إليه إذا ظهر منه على هذه المنزلة استخف به، وبكتّه بالجهل، وعلم أنه قد حكم من غير استبراء، وقضى بغير روية، فسقط عنه وبطل.
والحاسد العارف الذي فيه تقيَّة ومعه مُسكة، وبه طَعْمٌ أو حياة، إذا أراد أن يغتال الكتاب ويحتال في إسقاطه، تصفح أوراقه ووقف على حدوده ومفاصله، وردد فيه بصره وراجع فكره، وأظهر عند السيد الذي هو بحضرته وجلسائه، من التثبُّت والتأني حِبالةً يقتنص بها قلوبهم، وسبباً يسترعي به ألبابهم، وسُلماً يرتقي به إلى مراده منهم، وبساطاً يفرش عليه مصارع الخُدع. فيوهم به القصد إلى الحق والاجتباء له. فربما استرعى بهذه المخاتل والخدع قلب السيد الحازم.
فمن أعظم البلايا وأكبر المصائب على مؤلِّفي الكتب إذا كان العارض لها على السيد الذي منه تُرجى أثمانها، وعنده تنفق بضائع أهلها، على هذه الصِّفة التي وصفتُها من الحسد والحذق بأسبابه، والمعرفة بالوجوه التي تثلم المحسود وتهدُّه، وتضع منه ومن كتبه. لا سيما إنْ كان مع استبطان الحسد واستعمال الدهاء والذكاء جليساً لازماً، وتابعاً لا يفارق، ومحدِّثاً لا يريم، وليست له رعةٌ تحجره عن الباطل، ولا معه حذرٌ يبعثه على الفكر في العواقب؛ فإن هذا ربما وافق فترة السيد ترداد الكلام، وكثرة تكراره عليه، من تأكيد خطائه، ونصرته قوله، وذياده عنه، واحتجاجه فيه، فيؤثر في قلبه، ويضجِّع رأيه. فليس للسيد الذي يحبُّ أن تصير إليه الأمور على حقائقها، وتُصوَّر له الأشياء على هيئاتها، حيلةٌ في ذلك إلا حسم مادة هذا من أهل الحسد، بالإعراض عنهم، والاحتجاز دونهم.
وربما بلغ من الحاسد جهد الحسد إذا لم يُعمل بشهوته، ولم تنفذ سهام لطائفه، أن يقرَّ على نفسه بالخطأ، ويعترف أن الطَّعن الذي كان منه في الكتاب عن سهوٍ وغفلة، وأنه لم يكن بلغ منه في الاستقصاء ما أراد، وكان مشغول الفكر مقسم الذهن، فلما فرغ له ذهنه وانفرد له همُّه راجع ما كان بدر منه، لتُظنَّ به الرِّعة، ويقال إنه لم يرجع عن قوله واعترف بالخطأ إلا من عقل وازع، ودينٍ خالص. وإنما ذلك حيلةٌ منه ودهاءٌ قدَّمه أمام ما يريد أن يوكِّد لنفسه ويوطِّد لها، من قبول القول في سائر ما يرد عليه من الكتب عن غير موافقةٍ على مواضع، ويجعل ما قد تقدم له من الرجوع عن قوله عند ما تبيَّن له خلاف ما قال، أوثق أسباب عدالته، وأحكم عُرى نصفته.
وكان يقال: من لطيف ما يستدعى به الصدق إظهار الشك في الخبر الذي لا يُشكُّ فيه.
وكان يقال: من غامض الرياء أن تُرى بأنك لا ترائي. ومن أبلغ الطَّعن على ما تريد الطَّعن عليه أن تطعن ثم تستغفر الله، ثم تتمهل فترةً، ثم تعود لطعنٍ هو أعظم منه وأطمُّ من الأول؛ ليوثق بك فيه، ويقال: إن هذا لو كان عن حسد ما رجع عن الطعن الأول.
وقد قيل: ذو الغيبة المشهور بها المنسوب إليها يقلُّ ضرره، ويضعف كيده، لما شاع له في الناس وانتشر منه، فكان عندهم ظنيناً متَّهماً، ومطبوعاً عليها، يستمعون منه على قضاء ذمام المجالسة والتلذذ به، من غير قبول ولا اصطفاء.
وإنما البلية في غيبة حُذاق المغتابين الذين يسمعون، فيضحكون ولا يتكلمون. وأحذق منهم الذين يستمعون ويسكتون القائل ويدعون الله بالصلاح للمقول فيه، فهم قد أسكتوا القائل المغتاب ودعوا للمقول فيه، وأوكدوا قول القائل؛ لأنه لو حل عندهم محل البراءة مما قيل لجبِّه القائل وردع عن قوله.
ومظهر التَّوقّي قليله عند العامة كثير. والمتورد المتقحِّم لا تكاد العامة تقبل منه.
وقد قال بعض العلماء: إن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كان من نبلاء المغتابين وحُذَّاقهم حيث يقول:
مُسَّا تُراب الأرض، منه خُلقتُما ... وفيها المعاد والمصير إلى الحشر
ولا تعجبا أن تؤتيا وتعظَّما ... فما حُشى الإنسان شرّاً من الكبر
فلو شئت أدلى فيكما غير واحد ... كلانيةً أو قال ذلك في سرِّ
فإن أنا لم آمر ولم أنه عنكما ... ضحكت له حتى يلجَّ فيستشري
ومن هذا سرق العتابيُّ المعنى حيث يقول:
إنْ كنت لا تحذر شتْمي لما ... تعرف من صفحي عن الجاهل
فاخش سكوتي سامعاً ضاحكاً ... فيك لمشنوعٍ من القائل
مقالة السوء إلى أهلها ... أسرع من منحدرٍ سائل
ومن دعا الناس إلى ذمِّه ... ذمُّوه بالحق وبالباطل
وسئل القاسم بن معن عن ابن أبي ليلى، فقلَّب كفَّيه وقال:
من الناس من يخفي أبوه وجدُّه ... وجدُّ أبي ليلى لكالبدر ظاهر
فلم تثبت عليه به حجةٌ في ذمٍّ له ولا مدح. وقد بلغ ما أراد.
وسئل يوماً عن علمه فقال: أوعوه وطْباً، فإن كان محضاً أو مشوباً أظهره الوطب وما خضوه.
فإنْ قدح - جعلني الله فداك - بالحسد قادحٌ فيما أؤلفه من كتابي لك، وسبق إلى وهمك شكٌّ فيه، أعلمتني النكتة التي قدح فيها، ثم قابله بجوابي، فإني أرجو ألا تحتاج إلى حاكمٍ عند تجاثي القولين بين يديك، لعلو الحقعلى الباطل، ودموغه إياه.
والحسد أذلُّ نفساً من أن يُجاثي أحداً، والعداوة إنما قدِّمت عليه لأنها عزيزةٌ منيعة.
ويقال: الحسد لا يبدو إلا في العين وعلى اللسان المقصور عند أهله المؤتلفين على...والعداوة تبدو وتنجم قرونها وينبسط لسانها عند الموافقين له والمخالفين عليه.
وسئل خالد بن صفوان عن شبيب بن شيبة فقال: ذاك امرؤ سيط بالحسد وجُبِل عليه، فليس له أخٌ في السر ولا عدوٌّ في العلانية.
وسئل العتَّابي عن أهل بغداد فقال: حسادٌ، إخوان العلانية، وأعداء السريرة، يعطونك الكلّ ويمنعونك القُلّ.
ومما يدلُّك على أن الحسد أخسُّ وأغبن من العداوة، أنّ الملل كلها ذمَّتْه وعابته. ولا نعلم أنّ شاذّاً من الشواذِّ، وشارداً من الشُّرَّاد، فضْلاً عن جيل من الأجيال، أمر بالحسد؛ كما قيل: " عاد من عاداك، وقارعْ بالعداوة أهلها " . ثم عظم شأن العداوة عندهم، وجلَّ قدرها لديهم، حتى اختلفوا في وجوه العمل فيها؛ فمنهم من أمر بها على الحزم والعقل.
وقال الشَّعبيُّ لبشر بن مروان: لو وجَّهت إلى عمرو بن محمد بن عقيل مولى آل الزُّبير - وكان شتمه - من يأتيك به سحباً وجرّاً! فقال بشر: إنِّي مستعملٌ في عدوِّي قول القائل:
وعاد إذا عاديت بالحزم والنُّهي ... تنلْ ظفراً ممن تريد وتغلب
فكان بهذا ممن يرى المعاداة بالحزم، ويغتالها بالعقل والتأني.
وكان عروة بن المغيرة يقول: شرُّ العداوة ما سُتر بالمداراة، وأشقاها للأنفس ما قُرع بمثلها بادياً. وكان ينشد:
لا أتّقي حسك الضَّغائن بالرُّقي ... فعل الذليل ولو بقيت وحيدا
لكن أُعدُّ لها ضغائن مثلها ... حتى أداوي بالحقود حقودا
كالخمْر خير دوائها منها بها ... تشفي السَّقيم وتُبرئُ المنجودا
فانتهى قوله إلى ابن شُبرمة فقال: " لله درُّ عُروة، هذه أنفس العرب! " .
فهؤلاء رأوا كشف المعاداة ولم يروا التأنِّي.
ومنهم من رأى المعاداة بعد الفرار منها والإعذار فيها، فإن هي أبت إلا المقارنة قارنوها بمثلها.
قال شبيب بن شيبة: إذا رأيت الشرَّ قد أقبل إليك فتطامنْ له حتى يتخطَّاك، ولا تهجْه ولا تبحثْ عنه؛ فإن أبى إلا أن يبرك عليك فكن من الأرض ناراً ساطعة تتلظَّى. وأنشد:
إذا عاداك محتنكٌ لبيبٌ ... فعاد النَّوم واحترس البياتا
ولا تُثر الرَّبوض وخلِّ عنها ... وإن ثارت فكن شبحاً مواتا
تَجُزْك إلى سواك ونحِّ عنها ... فخير الشرِّ أسرعه فواتا
وإن مالت عليك وخفت منها ... فواجهها مجاهرةً صلاتا
ومنهم من أمر بقبول الإنصاف وترك المحاسبة. قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: إن الملامات والذمّات كلها قبيحة، وأقبح الملامة والمذمَّة ما كانتا في ترك نصفة أو شدّة منافسةٍ في تعداد الذُّنوب. وأنشد:
منافسة العدوِّ أو الصديق ... تجرُّ إلى المذمّة والملامة
إذا أعطاك نصفاً ذو ودادٍ ... وبعض النِّصف فانتهز السلامة
ومنهم من قال: لا ترض من عدوِّك إلا بالظُّلم، ولا إنصافه ونافسه في ذلك. قال العباس بن عبد المطلب:
أبا طالب لا تقبل النِّصف منهم ... ولو أنصفوا حتى تعقَّ وتظلما
ومنهم من أمر بمعونة الدهر على العدو إذا حمل عليه. قال: حدثني إبراهيم بن شُعبة المخزومي قال: سمعت من حكى لي عن مصعب بن الزبير قال: إذا رأيت يد الدهر قد لطمتْ عدوك فبادره برجلك، فإنْ سلم من الدهر لم يسلم منك. وأنشد:
إذا برك الزمان على عدوٍّ ... بنكبته أعنت له الزَّمانا
قال العتابي: قلت لطوق بن مالك: إن من شرط الدهر ومن صناعة الزمان السَّلب، فإذا حملت الأيام على عدوك ثقلاً وأمكنتك منه فزده ثقْلاً إلى ثقله. قال: فقال لي طوْق: من لم ينتهز من عدوه انتهز منه، وحالت الأيام التي كانت بيضاً عليه سوداً. وانشد:
لله درُّك ما ظننت بثائرٍ ... حرّان ليس على التُّراب براقدِ
أحقدته ثم اضطجعت ولم ينم ... أسفاً عليك وكيف نوم الحاقد
إن تُمكن الأيام منك، وعلَّها، ... يوماً نوفِّك بالُّصواع الزائد
ولئن سلمت لأتركنك عارضا ... بعدي لكل مُسالمٍ ومعاند
ومنهم من كان يرى جبر كسر العدو وإقالة عثرته، ونصرته عند وثوب الدهر عليه.
قال: حدثني ابن عبد الحميد قال ابن شبرمة: كانت الحرب يوم صفِّين بين العرب محضةً لا شوب فيها، فكانت محاربتهم كداماً واعتناقاً، وكانوا إذا مرُّوا برجل جريحٍ كانوا يقولون: خذله قومه فانصروه، وألقاه دهره بمضْيعةٍ فردُّوه إلى أهله.
وقال ابن شُبرمة: مازلنا نسمع أن المصيبات تنزع السجيّات.
قال: وأنشدني بعض أهل العلم في هذا المعنى:
فلوْ بي بدأتم قبل من قد دعوتهم ... لفرّجتها وحدي ولو بلغتْ جهدي
إذا المرء ذو القربى وذو الحقد أجحفت ... به سنةٌ سلَّتْ مصيبته حقدي
ومنهم من رأى الإفضال على عدوّه وترك مجازاته. وهذا كثير لا يحتاج فيه إلى استقصاء شواهده.
قال غيْلان بن خرشة الضّبيّ - وقال بعضهم: بل الأحنف بن قيس - لا تزال العرب بخيرٍ ما لبست العمائم وتقلَّدت السيوف وركبت الخيل، ولم تأخذها حميّة الأوغاد. قيل: وما حميّة الأوغاد؟ قال: أن يروا الحِلْم ذُلاًّ، والتواهب ضيما.
وقال الشَّعبيّ لرجل قال له: ألا تنتقم من فلانٍ فقد عاداك ونصب لك؟ فقال:
ليست الأحلام في حال الرِّضا ... إنما الأحلام في حال الغضبْ
وأنشدني بعض العلماء بيتين وقال: إن الزُّنبيري كان كثيراً ما يتمثل بهما:
وإني لأعدائي على المقت والقلى ... بني العم منهم كاشح وحسود
أذُبُّ وأرمي بالحصى من ورائهم ... وأبدأ بالحسنى لهم وأعود
وكان عبد الملك بن مروان إذا أُنشد:
إني وإن كان ابن عمي كاشحاً ... لمُراجمٌ من دونه وورائه
ومُعيرُه نصري وإن كان امرأً ... متزحزحاً في أرضه وسمائه
وإن اكتسى ثوباً نفيساً لم أقل ... يا ليت أنَّ عليَّ حسن ردائه
وإذا تخرَّق في غناه وفرته ... وإذا تصعلك كنت من قرنائه
قال: هذا والله من شعر الأشراف. نفى عن نفسه الحسد واللؤم والانتقام عند الإمكان، والمسألة عند الحاجة.
ومنهم من أمر بالسَّفه في العداوة واستعمال الخُرق فيها.
حدّثني نوح بن احمد عن أبيه عن ابن عبَّاس قال: جاء النابغة الجعديّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هل معك من الشِّعر ما عفا الله عنه؟ قال: نعم. قال: أنشدْني منه. فأنشده:
وإنّا لقومٌ ما نعوِّد خيلنا ... إذا ما التقينا أن تحيدا وتنفرا
وتنكر يوم الرَّوع ألوان خيلنا ... من الطَّعن حتى تحسب الجون أشقرا
وليس بمعروفٍ لنا أن نردَّها ... صحاحاً ولا مستنكراً أن تعقَّرا
بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا ... وإنَّا لنبغي فوق ذلك مظْهرا
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلى أين يا أبا ليلى؟ فقال: إلى الجنّة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إلى الجنّة إن شاء الله " .
ثم رجع في قصيدته فقال:
ولا خير في جهلٍ إذا لم يكن له ... حليمٌ إذا ما أورد الأمر أصدرا
ولا خير في حلمٍ إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدَّرا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا فضَّ الله فاك " . قال: فأتتْ عليه عشرون ومائة سنة، كلما سقطت له سنٌّ اثَّغرت أخرى مكانها؛ لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا أحسن ما رُوي في البادرة التي يُصان بها الحلم.
وقال الشاعر الجاهلي:
صفحنا عن بني ذُهلٍ ... وقلنا: القوم إخوانُ
عسى الأيام أن يرجع ... ن حيّاً كالذي كانوا
فلما صرَّح الشَّرُّ ... وأمسى وهو عُريانُ
مشينا مشية الليث ... بدا واللَّيث غضبانُ
بضربٍ فيه توهين ... وتضجيعٌ وإذعانُ
وطعنٍ كفم الزِّق ... وهي والزِّقُّ ملآنُ
وفي الشر نجاةٌ حي ... ن لا ينجيك إحسانُ
حدثنا أبو مسهر عن أبيه عن خالد بن عمرو الكلبيّ قال: كنا مع أبي برْزة الأسلمشِّ في غزاة، فكان منا رجل يمتار لنا الميرة ويقوم بحوائجنا، فإذا أقبل قلنا: جزاك الله خيرا. فغضب لدعائنا، فشكونا ذلك إلى أبي برزة، فقال أبو برزة: كنا نسمع أن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر، فاقلبوا له. فكنا نقول له إذا أتانا بالحوائج: جزاك الله شرّاً وعرّاً، فيضحك لذلك.
وأنشدني رجلٌ عن بعض الأعراب:
أرى الحلم في بعض المواطن ذلّةً ... وفي بعضها عزّاً يُشرَّف فاعله
إذا أنت لم تدفع بحلمك جاهلاً ... سفيهاً ولم تقرنْ به من يُجاهله
لبست له ثوب المذلّة صاغراً ... فأصبح قد أودى بحقِّك باطله
فأبق على جُهال قومك إنه ... لكلِّ حليمٍ موطنٌ هو جاهله
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " استوصوا بالغوغاء خيراً، فإنهم يطفئون الحريق، ويسُدُّون البثوق " .
وقال أبو سلمى في الجاهلية:
لا بدَّ للسُّودد من رماح ... ومن عديد يُتَّقى بالراح
ومن كلابٍ جمّة النُّباح
وقال مسلم بن الوليد:
حلفتُ لئن لم تلقني سفهاؤها ... خُزاعة والحيَّان عوفٌ وأسلمُ
لأرتجعنَّ الودَّ بيني وبينها ... بقافيةٍ تفري العروق فتحسمُ
من اللاء لا يرجعن إلا شوارداً ... لهنَّ بأفواه الرجال تهمْهمُ
أصابوا حليماً فاستعدُّوا بجاهل ... إذا الحلم لم يمنعك فالجهل أحزمُ
ولم نستقص الأبواب كلها بالمعارضة في هذا الكتاب، ولو استقصينا لطالت بنا الأيام وتراخت الليالي إلى بلوغ الغاية في تمام الكتاب. وإنما ذكرنا من كل باب عرض فيه ما دلّ على معناه الذي إليه قُصد.
ولم نر الحسد أمر به أحدٌ من العرب والعجم في حالٍ من الأحوال، ولا ندب إليه ونبَّه عليه. وقد نُبِّه على العداوة وفُصِّل بين أحوالها بما قد بيَّنَّاه، فظهر فضلها على الحسد بذلك.
وكنت امرأً قليل الحساد حتى اعتصمتُ بعروتك، واستمسكت بحبلك واستذريت في ظلّك، فتراكم على الحساد وازدحموا، ورموني بسهامهم من كل أوبٍ وأفق، وتتايعوا عليَّ تتايع الدَّثْر على مشتار العسل. ولئن كثروا لقد كثر بهبوب ريحك إخواني، وبنضرة أيامك وزهرة دولتك خُلاَّني. وأنا كما قلت:
فأكثرت حُسَّادي وأكثرت خُلَّتي ... وكنت وحُسَّادي قليلٌ وخُلاَّني
فلما بلغت هذا الفصل من تأليف هذا الكتاب دخل عليَّ عشرة نفرٍ من الكتاب قد شملهم معروفك، ورفع مراتبهم جميلُ نظرك، فهم من طاعتك والمحبّة لك على حسب ما أوليتهم من إحسانك وجزيل فوائدك، فأفاضوا في حديثٍ من أحاديث الحسد، فشعَّب لهم ذلك الحديث شعوباً افتنُّوا فيها - والحديث ذو شجون - فما برحوا حتَّى أتتني رقعة أناسيةٍ من الحساد فيها سهام الوعيد، ومقدمات التهديد والتحذير والتخويف، للطَّعن على ما ألَّفت من الكتب إن أنا لم أضمن لهم الشركة فيما يُجرى عليّ، فدفعت رُقعتهم إلى من قرب إليَّ منهم، فقرأها ثم قال: " قاتلهم الله! أبظلمٍ يرمون النيل ويلتمسون الشركة في المعروف! لنزع الرُّوح بالكلاليب أهون من بذل معروفٍ بترهيب " . وأنشأ يقول:
أبقي الحوادث من خلي ... لك مثل جندلة المراجمْ
قد رامني الأعداء قب ... لك فامتنعت من المظالم
ودفعها إلى من قُرب منه فقرأها. وقال الثاني: " صكَّة جُلمود، لكل مُرعدٍ حسود، يمستطر العرف بالتهديد. خلِّ الوعيد، يذهب في البيد " . وأنشأ يقول:
أبرقْ وأرعدْ يا يزي ... د فما وعيدُك لي بضائرْ
ودفعها إلى الثالث فقرأها وقال: " سألوا ظلما، وخوَّفوا هضماً، لقوا حرباً ولقيت سلما " . وأنشأ يقول:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً ... أبشرْ بطول سلامة يا مربعُ
ودفعها إلى الرابع فقرأها وقال: " قول الذَّليل وبوله سيَّان " . وأنشأ يقول:
ماضرَّ تغلب وائلٍ أهجوتها ... أم بُلت حيث تناطح البحران
ودفعها إلى الخامس فقرأها وقال: " نهيق الحمار، ودمُ الأعيار جُبارٌ جُبار " . وأنشأ يقول:
ما أُبالي أنبَّ بالحزن تيسٌ ... أم لحاني بظهر غيبٍ لئيم
ودفعها إلى السادس فقرأها وقال: " إذا عَلِقتك الأمجاد، فليهُنْ عليك الحساد " . وانشأ يقول:
إذا أهل الكرامة أكرموني ... فلا أخشى الهوان من اللئام
ودفعها إلى السابع فقرأها وقال: " كيف يخاف الصُّرعة، من هو في ذي المنعة " . وأنشأ يقول:
كم تنبحون وما يغني نباحكم ... ما يملك الكلب غير النَّبح من ضرر
ودفعها إلى العاشر فقرأها وقال: " نوكى هلكى، لم يعرفوا خبرك، ولا دروْا أمرك " . وأنشأ يقول:
فلو علم الكلاب بنو الكلاب ... بحالك عند سِّيدنا لذلُّوا
وعندي صديقٌ لي من السُّوقة له أدبٌ، فقال لي بعقب فراغهم مُسرّاً: إن هؤلاء الكتاب قد أظهروا الاستخفاف بقول الحُسّاد، وضربوا الأمثال في هوانهم عليك، وعرفوا أنَّك في منعة من عزِّ أبي الحسن أطال الله بقاءه، ومعقلٍ لا يُسامى ولا يُنال. وأنا أقول بالشُّفعة:
توقَّ قوماً من الحُسَّاد قد قصدوا ... لحطِّ قدرك في سرٍّ وفي علنِ
فقلت له: إنّي أقول بيتين هما جوابك وجواب الحُسَّاد:
إنَّ ابن يحيى عبيد الله أمّنني ... من الحوادث بعد الخوف من زمني
فلست أحذر حُسَّادي وإن كثروا ... ما دمت مُمسك حبلٍ من أبي الحسن
فلما رأى صديقي اقتفائي آثار الكتاب، باستهانتي للحساد عند اعتلاقي حبائلك أعزك الله، أنشأ متمثِّلاً بقول نصر بن سيار:
إنِّي نشأت وحُسَّادي ذوو عددٍ ... ياذا المعارج لا تنقض لهم أحداً
إنْ يحسدوني على ما قد بنيت لهم ... فمثل حُسن بلائي جرَّ لي الحسدا
وليس العجب أن يكثروا وأنا أنعق بمحاسنك، وأهتف بشكرك، ولكن العجب كيف لا تتفتَّت أكبادهم كمدا.
وكان بعضهم يقول: اللهم كثِّر حُسَّاد ولدي؛ فإنهم لا يكثرون إلا بكثرة النعمة.
فإنْ كان والدي سبق منه هذا الدعاء، فإنَّ الإجابة كانت مخبوءة إلى زمان عزِّك؛ فقد رأينا تباشيرها، وبدت لنا عند عنايتك غايتها.
وكان بعض الصالحين يقول: اللهم اجعلْ ولدي محسودين، ولا تجعلهم مرحومين؛ فإنّ يوم المحسود يومُ عِزَّة، ويوم الحاسد يومُ ذلَّة.
ويقال: إنه لما مات الحجاج سمعوا جاريةً خلف جنازته وهي تقول:
اليوم يرحمنا من كان يحسدُنا ... واليوم نتْبع من كانوا لنا تبعا
ويقال: إنّ زياد بن أبيه قال لحرقة ابنة النعمان: أخبريني بحالكم. قالت: إن شئت أجملت وإن شئت فسَّرت. فقال لها: أجملي. فقالت: " بتنا نُحسد، وأصبحنا نُرحم " . فخطبها زيادٌ وكانت في ديرٍ لها فكشفتْ عن رأسها، فإذا رأسٌ محلوق، فقالت: أرأس عروس كما ترى يا زياد؟ وأعطاها دنانير فأخذتْها وقالت: جزتْك يدٌ افتقرتْ بعد غنىً، ولا جزتك يدٌ استغنتْ بعد فقر! ولا نعلم الحسد جاء فيه شيء أكثر من حديث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله حفظ القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه في وجوه البرّ آناء الليل وآناء النهار " .
فهذا الحسد إنما هو في طاعة الله عزّ وجلّ، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقال بعض الأشراف:
احسدْ على نيل المكارم والعلى ... إذْ لم تكن في حاله المحسودٍ
حسد الفتى بالمكرمات لغيره ... كرمٌ ولكن ليس بالمعدود
فهذا ما انتهى إلينا من أخبار الحسد، وزادك الله شرفاً وفضلاً، وعلماً ومعرفة، ولا زلت بالمكان الذي يُهدى إليك فيه الكتب، وتتحف بنوادر العلوم وفرائد الآداب، إنَّه قريب مجيب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق