الكلام المأثور لا يخلو من طرافة أو حكمة، وعلاقة الكلام
هنا بـ"الأثر" واضحة، أي يفترض بالكلام المأثور أن يؤثر، أن يترك أثراً
ما في الذهن أو أنْ يحفر فكرة ما في سلوك الناس. وكلّ أثر علامة. ومن العلامات
المرميّة في صفحات الدنيا أو في صفحات الورق يتعلّم الإنسان إذا أحسن التقليب
الفطن واليقظ في الصفحات. والعلامات مرئيّة أو محكيّة أو ملموسة. وما أكثر
العلامات في حياة الناس! وكم لوّنت علامة من حياة كانت ناصلة الألوان أو كانت بالأبيض والأسود!
وثمّة قول مأثور
يقول:" من لا يتعلّم من كيس غيره يتعلّم من كيسه "، وعلاقة الناس به مختلفة، فبعض الناس يعتمدون
استراتيجية بسيطة ، واضحة، هي أن يتعلّموا من كيسهم ومن كيس غيرهم على السواء
ليتضاعف علمهم ويتجنبوا فخاخ العمر وهفواته، ويحيّدوا مكر الدهر ونزواته.
من الأشياء
الطريفة أن يتعلّم الإنسان ليس من كيس غيره وإنّما من درّاجة غيره، رغم أنّ درّاجته لا تختلف عن درّاجة غيره. والدرّاجة
أو (البيسيكلة في التعبير الدارج) يمكن لها ان تتحوّل إلى معلّم محنّك. وإذا كانت
الدنيا دولاباً، كما في القول الشائع، فلا ريب في أنّ بين الدرّاجة والدنيا صلة رحم
دوّارة!
سأحكي، هنا، عن شخص علّمته دراجة صديقه وليس دراجته
درساً في التفكير، وفي توليد الأفكار، وهو إنسان لبنانيّ من طراز نادر، إنّه
صحافيّ من ألمع الصحافيين في لبنان، وشغل منصب رئيس تحرير صحيفة النهار لزمن طويل،
وأقصد الراحل لويس الحاج، والد الشاعر أنسي الحاج. فهو يروي حادثة حصلت له ، حين
كان في مطلع العمر، مدارها درّاجة. واستوقفني كلامه عن الدرّاجة التي غيّرت اتجاه
حياته ومجرى تفكيره. ولا ريْب في أنّ روايته لهذه الحادثة وتذكّره إياها يعني أنها
من القصص الدامغة التي لا يمحى أثرها، ومعروف في الحياة أنّ الإنسان لا ينسى من
أساتذته إلاّ من لم يترك فيه أيّ اثر- وليس بالضرورة أن يكون الأستاذ من لحم ودم -
والذاكرة غربال يمارس النقد على طريقة "غربال" الأديب اللبنانيّ الراحل ميخائيل
نعيمة.
في أيّ حال، من
تعلَّم القصص أمن الغصص. والافتراص اقتناص كما يقول مثل عربيّ قديم.
يروي لويس الحاج قصته مع درّاجته كالتالي: "خطر لي
البحث عن عمل ليليّ، وأنا بعد تلميذ، فتقدّمت إلى بقّالينَ أعرفهم، وعرضت على كلّ
منهم خدماتي دون أن أعيّن هذه الخدمات، فصرفوني بلطف، وكان الجواب واحداً: لسنا
بحاجة إلى مستخدمين. وبعد أيام بلغني أنّ أحد البقّالين الثلاثة استخدم فتى من سنّي
فاستجمعت شجاعتي ومضيت إلى الرجل أسأله: ما معنى هذا التناقض؟ فربت على كتفي
وقال:عندما جئتني أنت تطلب عملاً لم يكن لديّ عمل أعهد به إليك، أما المستخدم
الجديد فقد عرض عليّ فكرة أعجبتني.وما هي هذه الفكرة؟ قال لويس الحاج مستفهماً.
فأجابه البقّال: اقترح عليّ ذلك الفتى أن أوكل إليه مهمة سؤال الزبائن عن حاجاتهم
صباح كلّ يوم، على أن يحمل إلى المنازل هذه الحاجات، وقال إنّه يملك درّاجة، وهذا
يسهّل عليه مهمّته، وقد استهوتني - يقول البقّال- الفكرة. كنت أنا أملك درّاجة –
يقول لويس الحاج- ولكن كان لدى الفتى الآخر شيء لم يكن لديّ، كان لديه فكرة".
إنّ لويس الحاج يعترف اعتراف الكبار أنه كان لا يملك
فكرة، وأنّ السرّ في الفكرة. ليس عيباً أن لا يملك الإنسان، في مطلع عمره، فكرة!
ولكن من المعيب أن لا يسعى الإنسان لامتلاك الأفكار. اكتشف لويس الحاج أنّ الفكرة
هي الأساس في تحسين حياة الناس إذ لا يكفي أن تكون عندك الرغبة العارمة ولكن العارية
من الأفكار. وراح، منذ ذلك الوقت المبكر، يغوص في أسرار رأسه وتلافيف دماغه بحثاً
عن أفكار ليقيم أود أحلامه وأيامه، واكتشف أنّ في كلّ رأس أكثر من فكرة. لا يخلو
رأس من أفكار، وقد لا ينتبه الانسان إلى وجود هذه الأفكار في رأسه لأنّه لا يريد أن
"يوجع رأسه" بحسب التعبير الشائع في اللهجة اللبنانية، وهو تعبير موجع
ولافت للنظر، ودائما ما أتوقف عند هذا التعبير الفجّ والغريب الذي يرى في التفكير
"وجعة رأس" لا "نجدة رأس". يعتبر لويس الحاج أنّ عجلتَيْ درّاجة
صديقه كانتا منعطفاً غيّر اتجاه حياته، وصار صيّاد أفكار ممتاز، وإلاّ فمن أين له أن
يكتب بشكل شبه يوميّ أفكاراً جعلته واحداً من كبار رجالات الصحافة في لبنان. قد
يقول قائل: ومن أين أجيء بالأفكار؟ الأفكار متناثرة في العالم، ولكنّ رؤيتها تغيب
عن بعض الناس، ليس بسبب أنّ الأفكار ولوع باعتمار طاقية الإخفاء، ولكن بسبب أن
الوصول إلى الأفكار يحتاج إلى استراتيجيّات معينة، استراتيجيات تتقن فنّ الإغراء
والإغواء إن صحّ التعبير من جهة، وتكون، من جهة أخرى، سيّالة وسلسة كالماء.
والانسان غير مستطيع بنفسه، كما قال أبو العلاء المعرّي عن نفسه، يحتاج لمساعدات
ولكن لمساعدات قبل كلّ شيء من معين حواسّه
نفسها. استثمار طاقات الحواسّ لا بدّ ان يؤدّي في الختام إلى العثور على فكرة
هاجعة في مكان ما في تلافيف الدماغ. من يتأمّل كلام لويس الحاج يلحظ أنه سعى،
بداية، سعياً ساذجاً، ولكنه استعمل حاسّة النظر أيضاً. فهو"رأى"،
"لاحظ"، "انتبه" إلى أنّ البقّال استخدم غيره. وهذه الملاحظة ولّدت
عنده ردّة فعل هي الذهاب الى البقّال مجدّدا لمعرفة السرّ في سلوك البقّال الذي فضّل
استخدام صديقه بدلاً منه. لقد اعتبر ما حدث معه نصّاً يستحقّ الشرح والمراجعة
والتدبر لتبيان فجواته.
سؤال " من
أين أجيء بالأفكار" جوابه في الكتب وأفكار الآخرين، وفي تجوال النظر وجملة
الحواسّ. وهو أيضاً في الأيادي المعروقة لبعض الفلاّحين الذين يستلّون من الأراضي غير
الصالحة للزراعة جنائن ملونة بالأخضر. ففي رحم كلّ شيء تكمن، حكماً، فكرة ما كمون
الشرر في الحجر، وكمون السنبلة في حبّة قمح. وما دام الانسان يعترف بالفطرة أو
العادة أنّ وجود الأشياء لا يخلو من حكمة كامنة فإنّه لا مفرّ له من نفض الغبار عن
الأفكار المتوارية عن الأنظار، والنفض ليس أمراً بسيطاً!
وختاماً، لا أظنّ من قال:" إنّ
الفكر كالتثاؤب يعدي " كان بعيداً عن الصواب.
بلال عبد
الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق