الاثنين، 5 يوليو 2010

كتاب الاعتدال لحكيم الصين كونفوشيوس


孔夫子
تحكي حوليات التاريخ الصيني بأن قرارا أصدره القصر الملكي الحاكم ، في حقبة من عصر أسرة يوان الملكية ( 1271 1368م) يقضي بأن تكون الكتب الأربعة: (محاورات كونفوشيوس الاعتدال المعرفة الكبري منشيوس) ضمن الموضوعات التي يمتحن فيها المتقدمون للعمل في المناصب الوزارية العليا لدي البلاط الحاكم ، وظل هذا التقليد ساريا حتي أواخر عصر أسرة تشينغ ( 1644 1911م) .
وتتفق مراجع التراث الصيني علي أن كتاب الاعتدال هو أحد أبواب كتاب الطقوس ، ويري بعض المؤرخين القدماء ( .. منهم صماتشيان أبو التاريخ الصيني القديم ) وكثيرمن الدارسين الكلاسيكيين (... الكونفوشيين ، يعني) من جيل الرواد مثل جوشي ، جنغ شيوان أن الكتاب من وضع زيس ( 483 402 ق.م ) ولقبه الاصلي كونجي ، وهو حفيد كونفوشيوس وتلميذه ، وأحد أشهر أعلام المذهب الكلاسيكي من بعده ، بل من أشهر الفلاسفة الذين ظهروا في الفترة التاريخية المعروفة باسم عصر الدول المتحاربة ( 475 221 ق.م )
وكثيرا ماتردد في المدونات التاريخية أن الفيلسوف الكونفوشي الكبير منشيوس قد تلقي العلم وأصول الفلسفة علي يد أحد تلاميذ زيس وأنه بآرائه الشهيرة في مؤلفاته لم يكن يضيف جديدا ، بل كان يطور أفكار زيس بالاساس ، وينقٌحها ، حتي أجطلق علي مدرسته اسم ، ( مذهب منشيوس وزيس ) وقد تم تجميع افكار وأقوال زيس في ثلاثة وعشرين فصلا ، بين دفتي كتاب بعنوان أقوال زيس إلا أنه ، للأسف الشديد ، ضاع من جملة ماضاع من كتب التراث أما النسخة الحالية من كتاب الاعتدال ، فهي واحدة من بين النسخ التي تمت تحقيقها وضبطها علي يد الكلايسيكيين في زمن أسرة تشين ، وبعد توحيد الصين بزمن غير طويل( 221 207ق.م) حيث ضبطت وجمعت أجزاؤها لتصدرفي كتاب مستقل.
والكتاب كما هو واضح من التسمية يتناول أفكار التوسط والاعتدال حسبما وردت في إطار تصورات الفلسفة الكونفوشية ( قل ، الكلاسيكية الصينية ) التي رأت أن الحالة النفسية والذهنية التي يكون عليها المرء دون مغالاة في الفرح او الحزن وبغير شطط في الغضب أو الرضا : فتلك هي الحالة الوسطي بين حدود متطرفة : أما الاعتدال فهو المحاولة التي يبذلها المرء للتوازن بين أقصي أطراف التقديرات ، بحيث يبقي في حال من التوافق مع الدورة الدائمة لمسار التطور دون تبدٌل أو زيادة أو نقصان ، ويشير الكتاب الي أن الوسطية ، أو الاعتدال هو المعيار والمبدأ الذي ينبغي علي المرء أن يلزم نفسه بالسير علي منهاجه .
كانت الظروف التي أحاطت بصياغة أفكار ذلك السجل القديم تشهد ظهور طبقة جديدة من ملاك الاراضي : وربما كانت الفرصة وقتئذ تساعد علي رواج تصورات مناهضة للتطرف أو التأرجح بين أقصي حدود التناقضات ، ولكل زمان تناقضاته التي تتجاذب وتتصارع ثم لاتلبث ان تنحل لصالح دورة جديدة من التناقضات ، وهكذا دواليك!
وقد تطرق الكتاب الي ملاحظة تراكم التناقض ويطرح تصوراته لحلها ، وذلك هو الجانب الذي يستحق الاشادة ، برغم أنه بالغ في تقدير الادوار التي تقوم بها عمليات حل المتناقضات ، دون الاعتداد الكافي بعملية الصراع الحادث بينها ، وهو مايسطٌح الجانب المعرفي ، ويبرزفي الجانب الاجتماعي ضعف ورجعية طبقة ملاك الاراضي البازغة حديثا في ذلك الزمان .
وفكرة الاعتدال ذات جذور ضاربة في ماضي الحضارة الصينية : حيث ارتبطت أنشطة الصيد في المجتمع البدائي بالرماح والسهام المستخدمة في القنص ، ومن ثم نشأت فكرة التصويب في المنتصف ، عند الصيد بالسهم ، وفي الصين القديمة ارتبطت دلالة منتصف الشيء بالاستقامة : فأوسط الاشياء غالبا يقوم دليلا علي الخير ، لأن الاصابة تقع في منتصف الهدف ، ومن هنا يتولٌد معني الجزاء الطيب والصيد الثمين ، والحق... والخير... والجمال أيضا ... دلالة المنتصف في الوسطية تجكتب في اللغة الصينية برسم مستطيل صغير ينصٌفه خط رأسي أطول قليلا من ضلعيه المتوازيين ! .
ويعود الفضل الي كونفوشيوس في الربط بين الوسطية والاعتدال : حيث استطاع تطوير مفهوم الوسطية علي أساس من أفكار الاعتدال مما شكٌل الفكرة الجامعة لمذهب الوسط الاعتدالي ... ولنلاحظ أن عطاء كونفوشيوس اقتصر علي تأصيل مبدأ الاعتدال فقط ، لكنه لم يخترعه من عدم لا ، ولاكان كونفوشيوس مخترعا أو مبدعا لشيء مما يعرف الآن بالكونفوشية : فليس هناك في الواقع شيء بهذا الاسم ، بل مجرد مذهب كلاسيكي يسبق كونفوشيوس نفسه بزمان طويل جدا كما أوضحنا في مقدمة كتاب المعرفة الكبري ولم يكن لذلك المعلم الاكبر دور سوي التأصيل والتطوير، وإحياء التقاليد وإيقاظ الذاكرة القومية.. لاأكثر!
وقد تحول الاعتدال عبر جهد واهتمام المدرسة الكلاسيكية إلي فلسفة رسمية في أوائل عصر الدول المتحاربة ( 475 221ق.م) إذ وضعت بين دفتي مدونة كلاسيكية اشتهرت باسم كتاب المراسم لكنها لم تثر أدني قدر من الاهتمام في ذلك الوقت ، بل لم تكد تلقي القبول الواعد الا في زمن أسرتي سونغ 960 1279م ومينغ ( 1368 1466م) حيث شهدت ازدهار بلغت به مراتب القداسة السماوية الغريب، أنه ، وفي وقت معاصر لزمن ظهور كتاب الاعتدال في الصين ظهرت أيضا فكرة الاعتدال في الفلسفة اليونانية ، مما يبرز تماثلا في الظروف التي أنضجت مطلبا انسانيا عاما ينشد العدل والاستقامة . لكن ..
من المهم في هذا السياق ، التأكيد علي الفارق الكبير بين مفهوم الاعتدال في كل من الحضارة الصينية والاوروبية بل بين الفلسفة الصينية والغربية عموما !
فقد اقتصر اهتمام الفلسفة الصينية علي الشأن الانساني : إذ إن مركز ثقلها الكبير هو المجتمع وليس الكون ، فالفكر الصيني لم يتطرق أبدا إلي موضوعات الطبيعة ولا حاول استكناه ماوراء الطبيعة وإنما ركٌز اهتمامه علي الإنسان (والانسان وحده ! ) .
نص الكتاب
1
ما حازت الطبيعة اسما إلا بما أفاضت عليها السماء من أسماء، وما صار الطريق طريقا ، إلا لأنه حذا حذو الطبيعة .
وليس طلب العلم إلا السعي علي هدي الطريق، واستقصاء أسراره.
ليس للسائر أن يزل عن جادة الطريق طرفة عين : فمن حاد به الدرب ، وزاغت منه الخطوات ، فلا طريقا مشي ، ولامشي به الطريق :فمن ثم وجب علي العاقل أن يلزم الحذر ،حتي لو تواري عن عين الرقباء . وليتجنب الهفوات (يعصم لسانه من الزلل ) ، حتي إذا تناءي عنه السامع ، وصمت دونه الآذان .
لا تتسلط الأضواء إلا علي أحلك المكامن ، ولايتعري تحت شعاع النور إلا أشد البقاع ظلاما .
ليس أظهر للعين من كمين منصوب في الخفاء ، ولايتجلي لنظر الرقيب سوي ماتواري بدهاء في الزوايا والأركان . ولذلك : فينبغي للعاقل ذي الكياسة أن يتبصر الأمور ، ويلزم جانب الحذر حتي وهو في كنف العزلة ، منفردا بنفسه عن الدنيا كلها من حوله .
عندما تتواري ، طي الجوانح بهجة الفرح ، وسورة الغضب ، ومرارة الألم ، ولذة السرور ، فذاك هو حال الاعتدال : وإذا تبدت أمارات تلك الأحوال علي نحو ملائم ومعقول . فذلك هو ما يطلق عليه المواءمة : فالاعتدال هو أصل كل الموجودات(.. التي تحت السماء) والمواءمة هي المبدأ النافذ في أنحاء الكون كله، وحينما تبلغ الأمور جميعا حد الاعتدال والاتفاق ، وينبسط بساط الأرض وتسمو أقطار السماء ،(..تلزم الأرض موضعها والسماء قباءها ) ويفيض الوجود علي الكائنات حياة ونماء وفيرا .
(ذلك هو الباب الأول ، وقد ذكر فيه زيس أحد رواد الكونفوشية بعض أقوال وآراء كونفوشيوس ، علي سبيل الاستدلال بالحجة والبرهان ، زاعما أن للطريق صفات سماوية ، أولية لاتتبدل ، وأن جوهرمعناه قائم في نفوس الناس مرتبط بها أشد الارتباط ،ثم يتطرق من هذه النقطة إلي مسألة تهذيب النفس وترويض الذات وصولا إلي تبيان حدود الرياضة الذاتية المقدسة التي تهدف إلي محاسبة الذات بغرض التعرف علي اتجاهات الطريق الصحيحة والكامنة في دفائن النفس ، وكشفا وتمكينا لما هو فطري وأصيل من التحقق والتبدي ونبذا لكل مكتسب أو زائف أو مشحون بالغواية والتضليل . فهذا الباب علي حد تعبير السيد يانغ هو المبدأ الأساسي الذي يلخص الأفكار الأساسية التي ستدور حولها الأبواب العشرة التالية ، والتي تمثل ، في الحقيقة استطرادا من المؤلف زيس في التعليق والشرح والتوضيح .
2
قال جوني(كونفوشيوس) : العاقل يلزم حد الاعتدال وذو الجهالة يتناءي عنه، فالعاقل يهتدي بما قد تحقق (في طبعه المعهود ) من طلب أوسط المسالك وأنسب الغايات ، وما كان الجاهل ليصد عن الاعتدال إلا بما اقترف من البطش والتغافل وقلة الاحتراز .
3
قال كونفوشيوس : قد بلغ الاعتدال من البهاء مبلغا،عزت به جنباته ،وارتفعت به فوق سامق المجد عروشه ، حتي صارالنفر القليل من الناس هم فقط الذين يخلصون لمبادئه ويثابرون علي الاسترشاد بمنهاجه .
4
قال كونفوشيوس: لئن شق المسير علي طريق الاعتدال ، فلأن الأذكياء النابهين يتجاوزون فيه المدي ، في حين ينكص الحمقي عند بلوغ غاية الشوط . ولئن تحول عنه جل السائرين ، فلأن الحكماء قد سبقوا به كل الخطي ، ولما يزل الجهلاء في بدء الارتحال إليه . ليس في البشر إلا من قد طعم الطعام ، وشرب الشراب ، لكن قليلين جدا أولئك الذين ساغت لهم النكهة وطاب لهم المذاق .
5
قال كونفوشيوس : لاأجد لمذهب الاعتدال بين الناس أتباعا ، ولاأتوقع أن يجد هذا المذهب نصيبا من الذيوع والانتشار .
6
قال كونفوشيوس : ألم يكن الإمبرطور الأعظم شون فطنا ذكيا ؟ .. بلي قد كان ، وبرغم هذا فقد اشتهر بأنه كثيرا ما ) كان مولعا بالاستفهام والسؤال عما كان يعٌن له من أشياء ، ولم يكتف بأن يتلقي الإجابات بل كان يمحص ويدقق ويستوثق ،حتي في أبسط ما يتفوه به عثرة المخطئ أو يثني به علي مروءة الماجد . وعندما اجتمع في قبضته أقصي طرفي الخير والشر ، نبذهما كلاهما ، واختار الحد الأوسط ، والمأخذ الأوفق وسيلة لتحقيق النفع للناس والنهوض بما فيه مصلحتهم : فمن ثم كان جديرا بما حفظه له التاريخ من مجد باق علي طول الزمان
7
قال كونفوشيوس : الجميع يزعمون بأنهم نابهون أذكياء ، ومع ذلك تجد من يقودهم (بأيديهم !) للوقوع في شراك ماكرة، لايستطيعون تفاديها، ولا التبصر بمكامن أغوارها ، الكل يرددون أنهم فاهمون ونجباء ، وبرغم ذلك فإنهم لايكادون يثابرون علي المضي قدما في طريق الاعتدال شهرا واحدا ،حتي بعد أن تتبين أمامهم ملامح الطريق ويشاهدون بأعينهم أوضح معالمه .
8
قال كونفوشيوس : كان يا تهوي أحد الأتباع من ذلك الصنف من الناس الذي إذا رسخت خطاه علي طريق الاعتدال ، وثق قلبه بعهد المسير وتوطدت في نفسه مشاهد اليقين ، فحفظ الإيمان به مثل خصلة كريمة أو طبع راسخ في جوهر الصفات لايضيع ولايتبدل .
9
قال كونفوشيوس : قد تنصاع الممالك للحكم العادل ، ويعم النظام ربوع الدويلات والأقاليم ، وقد تعف النفوس النبيلة عن قبول المنح والأوسمة والترقيات ويتواضع الأكفاء ويشيح الفضلاء بأنظارهم عما يبسط لهم من موائد التكريم ، وربما يقتحم الشجعان أبواب الردي ويطأ البواسل أسنة الرماح في مشاهد من الشجاعة النادرة ، لكن هيهات أن تقوم شواهد الاعتدال .
10
أقبل زيلو علي كونفوشيوس ، وسأله عن معني القوة ، فأجابه : أي قوة تقصد ومن أية ناحية : أهي القوة الجنوبية أم الشمالية .
أو القوة التي تضبط بها نفسك وتزكي بها إرادتك ؟ (علي أية حال فاعلم أن..) رجاحة العقل والحلم ، والهداية بالحسني ، والصبر علي من أساء إليك :كل ذلك من سمات القوة الجنوبية : فالعاقل من وطن نفسه علي الأخذ بمفهوم تلك القوة ، فإذا اخترت لنفسك أن ترقد علي فراش من درع وسيف ووسائد من رماح ونصال مشرعة ، فتبيت بعتاد المقاتل وتموت ، إذا مت غير آسف ولانادم علي شيء : فتلك هي القوة الشمالية ، وهي ما يبتغيه كل قوي جريء غير هياب ، فمن ثم كان الماجد الفاضل ،لين الجانب في غير ضعف ، متسامحا دون خوف .
وما أنبل القوة حين يكون التوسط بغير ميل،والاعتدال دون شطط ،وما أكرمه من عزم حين يكون هذا العزم سندا للحق والأحوال رخاء ، ما أبقاها من صلابة عندما تثبت إرادتك وتصمد في وجه الموت نفسه ، حينما تعم الفوضي وتضل الأهواء ، وتختلط الجهات ويفقد الطريق الاتجاه ، فتتفرق السبل في كل طريق .
11
قال كونفوشيوس : إن التفقه في الأمور الباطنية (.. السحر ، التنجيم ، ..) والإتيان بالغرائب والخوارق صنع العجائب ، يمكن أن يلقي الانبهار والإعجاب في قادم الأيام ،عند أجيال المستقبل لكنني لن أشغل نفسي بشيء من ذلك .
إن العاقل من سار علي هدي الطريق ، والتزام جادة الصواب (..وسأضع هذا الأمر نصب عيني) فلن ألتفت إلي من يتوقفون أو يتراجعون في منتصف الرحلة ، ولن أتوقف ،بل سأكمل وأواصل المسير .
إن الفاضل من راض نفسه علي نهج الاعتدال فقبع في بيته ، اعتزل الدنيا فلم يصب مغنما ولاجاها ، وهذه درجة لايبلغها إلا القديسون .
12
طريق العاقل واضح المسالك ،واصل إلي المنتهي ،لكنه وبرغم ما اكتنف جنباته من أسرار ، لاتخفي أدق دروبه عن كل السائرين من رجال ونساء (من العامة ) إلا موضعا ، شريف الخطي ، لايهتدي إليه سوي القديسين الحكماء .
يستطيع كل الناس الاهتداء إلي طريق العارفين الحكماء ، دون أن يكون لهم نصيب من الحكمة ، أما المرتقي الأشرف من الطريق ،فتدق أسراره وتخفي منعرجاته حتي عن أفطن العلماء والقديسين .
قد اتسعت أقطار السماء ورحبت مواطئ الأرض ، ومازال بين الناس الطامع والمنهوم (ومن ثم ..) فإذا وصف الفاضل الحكيم شيئا ما بأنه عظيم ،فلابد أن يكون قد بلغ درجة لاتحدها حدود ، في الأرض أو في السماء ، وكذلك إذا قال عن شئ بأنه ضئيل فربما كان الشئ قد تناهي ضآلة فما عاد له منظر مرئي ،أو حيز معلوم . وقد جاء في كتاب الشعر القديم ، ما نصه :
(تأبي النسور إلا أن تحلق عليا،
والفضاء مشهد معراج سماوي أعلي ،
(بينما تتسابق الأسماك)،
إلي أعماق سحيقة ،
والبحر عالم مديد الأرجاء ..
.. بغير قاع ..)
والمعني هنا يشير ، بالرمز ، إلي ما يتسم به طريق الحكيم العاقل من جلال ووضوح مع رحابة وبساطة ، بما يشبه شموخ البزاة ، وهي ترتقي أجواز الفضاء علي مرأي من كل عين ناظرة : فكأن طريق الحكماء يبدأ ، في أولي خطواته ، سهلا بسيطا يدركه السائر عند موطئ قدميه ، ثم يتدرج في معارج الرقي حتي يبلغ عنان السماء .
(هذا هو الباب الثاني عشر ، هو من وضع زيس أحد رواد الكونفوشية .. وفي هذا الباب ، فهو يحاول أن يوضح معني ما ورد في الباب الأول بخصوص الالتزام بأسس المنهج الأصلي ، خاصة ما يتعلق فيه بوجوب التقيد بالمبادئ الصحيحة ، حيث ينصح السائر بضرورة اتباع جادة الصواب ، مستندا ، في ذلك ، إلي شواهد وبراهين مما قال كونفوشيوس بنفسه في هذا المضار) .
13
قال كونفوشيوس : إن طريق الاعتدال لايقصي أحدا عن مساره ، فإذا أضل الطريق طالب المنهاج القويم ، حاد به الدرب ، فلم يكن ذاك هو الطريق ، وقد ورد في كتاب الشعر القديم ،ما نصه :
(اقطع الأعواد الجافة
وانحت من الحطب مقابض للفؤوس ،
ضع في كل مقبض فأسا صغيرة ،
وتأمل الطريقة ،
فليس هناك سوي طريقة واحدة ،
لعمل آلاف المعاول .)
لكن ،جرب أن تأخذ فأسا ، لتقطع أعواد الحطب ، التي تصنع منها مقابض للفؤوس ،وانظر بعين فاحصة ، تجد الطرائق شتي ، والفروق بغير حصر (.. ولنتدبر مليا ، وبالمنطق نفسه ، مهمة الحكيم ورسالته التي تنحصر في ..) تطبيق المبادئ الإنسانية التي تنطوي عليها مفاهيم طريق الاعتدال في تدبر شئون الناس وإصلاح أحوالهم : حتي إذا ما اعتدل ميلهم ، تمت مهمته واختتمت كلمته . مع مراعاة أن الإخلاص والتسامح يندرجان في قائمة المبادئ وثيقة الصلة برسالة الاعتدال : ومن ثم،فلا ينبغي أن نفرض قسرا علي الآخرين ، مالانحب أن يجبرونا عليه ( .. وفي هذا الصدد ..) فإن هناك أربع علامات علي طريق الاعتدال ينبغي للعاقل أن يتدبرها ،ويواظب علي التخلق بها ، ولاأزعم أني استطعت تحقيق هذا المبدأ علي الوجه الأكمل الذي يتطلب : أن يعامل المرء أباه بمثل ما يود أن يعامله به ولده ، وأن يعامل رجل الدولة المتنفذ جلالة الحاكم بمثل مايريد أن يعامله به الوزراء والمساعدون ، وأن يعامل الرجل أخاه الأكبر بمثل ما يتمني أن يعامله به أخوه الأصغر وأن يعامل المرء أصدقاءه بمثل ما يرجو أن يعاملوه به.
إن المبادئ الطيبة،مهما كانت عادية وبسيطة،فيجب أن تكون موضع تطبيق،
أما الكلمات،فمهما كانت مألوفة فينبغي أن تخضع للتأمل والمراجعة(..ومع ذلك..) فإنني لم أستطع أن أفي هذه المبادئ حقها :فلذلك أسعي جاهدا لتعويض ما فاتني منها . وحتي إذا كان في مقدوري أن أرأب الصٌدع وأسد الثغرات ،فلا أظنني أستطيع تبيان دلالة تلك الكلمات وصولا إلي غاية القصد وتمام المعني .
( وهكذا ..) فالكلمات مرهونة بالأعمال ، مثلما إن العمل مشروط بما يبين من معاني الكلمات ، فكيف للعاقل (.. والأمر علي هذا النحو ..) أن يحيد عن الصدق والإخلاص !
14
إن العاقل الحكيم يقوم بأعباء مسئولياته في نطاق الوقت والمكانة والمناخ المتاح له ، وعليه أن يرد نفسه عن الانشغال بما يقع خارج ذلك المجال ، فإن كان غنيا ذا ثروة وجاه أو أي مطمح آخر ، فليفعل ما ينبغي للغني أن يفعله ، وإن كان معدما ذا فقر وفاقة ، فليتصرف حسب ما ينبغي للفقير ، في هذا النطاق . وإن كان مقيما في حيز وقته وظروفه وإمكاناته وسط قبائل همجية ، فليعمل ما ينبغي علي المقيم وسط أولئك أن يعمله ، فإذا أحدقت به المتاعب ومنغصات العيش ، فلينظر فيما يتوجب علي من أحدقت به البلايا أن يفعله .
وأيا ما كان الحال التي يمر بها الماجد الكريم ، فلا ينبغي أن يكون هناك ما يعوقه عن أن يتصرف في هدوء وبساطة دون تكلف : فإذا كان وجيها فلا يحتقرن من هم دونه ، وإن كان وضيعا فلا يتمسحن بأذيال القدرالشريف،وليصلح المرء من شأن نفسه دون إلقاء التبعة علي الآخرين:وحينئذ،تنمحي من النفوس أسباب الاستنكار والشكوي . ولايعود ثمة مرموقون يشتكون أقدار السماء ، ولا مغمورون ينددون بظلم البشر .
فمن ثم ينعم العاقل بوقته هانئا يتأمل صفحة أقداره ، بينما يخوض الأحمق في مسارب الغفلة والخطر، ويمني النفس ( .. برغم ذلك ) بكل السعادة والخير والحظ الطيب . قال كونفوشيوس : إن أخلاق السادة المهذبين أشبه ما تكون بآداب الرماية : ذلك إنه ما طاش السهم عن قلب المرمي ، وعاد الرامي يراجع نفسه ويصحح وجهته ليصوب من جديد .
15
السالك في طريق الاعتدال ، كالمسافر في رحلة بعيدة ، حيث لاينبغي له أن يبدأ الترحال إلا عند أقرب نقطة من الطريق (.. وإن السائر في طريق الاعتدال ) كالمتسلق جبلا عاليا، فلا ينبغي له أن يشرع في الصعود،إلا عند أسفل موطئ قدم،
وقد جاء في كتاب الشعر القديم ، ما نصه :
(ترفرف السعادة فوق أفراد عائلة متحابة ،
كصوت أوتار متآلفة ،
أو رنة عيدان متناغمة،ماأسعد إخوة متآزرين ،
قلوبهم عامرة
وأرواحهم صافية ،
ما أجمل أن تكون لك أسرة هانئة .
وشمل عائلة موصولة بالسعادة .)
قال كونفوشيوس : (مستطردا) بهذا ، يتحقق رجاء كل أب وأم .
16
قال كونفوشيوس:ما أعظم عالم الروح، وما أدق طلاسمه واحتجاب أسراره:فلا هو شكل يبصره البصر،ولاصوت تدركه الأسماع (فهو عالم الروح الذي ) خلق المخلوقات كافة،وأنشأ كل حي ،فلم يغفل عن أحد ولاأهمل شيئا، قد أوجب علي البشر طهارة القلب من الإثم بالموعظة ، وإمساك الفم عن الطعام بالصوم ، وارتداء أجمل الثياب لأداء الشعائر وإقامة أزكي وأبهي الطقوس والمراسم ( .. حتي شملت الروح دنيا البشر من كل صوب ، فكانت ..) تحيط بهم من فوقهم وعن شمالهم ويمينهم . وقد ورد في كتاب الشعر القديم مانصه :
(ما من أحد يحيط علما بموطئ الروح ،
ûومع ذلك فهل هناك حقا ..
من يملك أن يتجاهل قدرها ؟ )
وهكذا ، فلا يمكن إسدال حجاب الغفلة فوق معدن الإخلاص . بعد إذ خرجت مادة وجوده من خفاء الغيب إلي ساطع المشهد المبين .
17
قال كونفوشيوس : ما أكرم أخلاق الملك الحكيم شون وما أعظم سجاياه : فلا غرو أن يضرب به المثل في الوفاء والإخلاص ، قد كان ملكا وقديسا : ففاز ببهاء الملك وأنوار الحكمة، ملأت خزائن أمواله ما بين البحور الأربعة (.. من أقصي الأرض إلي أقصاها ) وغمرت قرابينه كل المعابد ، وصار ذلك دأبه ، حتي جاء أولاده وأحفاده علي شاكلته : فأكملوا مسيرته وحافظوا علي أمجاده ، فخلد ذكره علي مر السنين : فمن ثم كان لزاما أن يتبوأ الماجد الأكرم مكانة رفيعة ، وأن تكون له العزة والجاه والمال الوفير ، وكان حتما أن يصيب شهرة ذائعة ، باقية علي مر الأجيال .
ولذلك ، كانت السماء عندما أنبتت الأشجار والأوراق والزهور قد حفظت للأشياء طبائعها وعلمتها أسرار العناية والبقاء ، فنبت من الغرس ما شب ونما : وسقط من ذابل الأوراق ما جف ونثرته الرياح ، ونجد شيئا من ذلك المعني في كتاب الشعر القديم ، وحيث ترد هذه الأبيات :
(ما أنبل السيد الماجد ،
وما أكرم سجاياه :
إذ بسط فوق الجميع رداء الوئام والسعادة ،
فورث ميراث العزة ،
وحفظته السماء ،
ومدت فوقه أياديها ،
وجعلت له المكانة العالية ، تبجيلا له وتقديرا ،
وبصرته بأقدار ، موعظة ونذيرا .)
فلذلك ،كان محتما أن تؤازر السماء كل كريم ذي خلق عظيم .
18
قال كونفوشيوس : لم يكن في الدنيا كلها رجل سلِم قلبه من الهموم سوي جلالة الملكأون وهو واحد من أشهر الملوك جميعا :فأبوه هوالملك وانغ جي ،وولده هو الملكاو: والمعروف عنه أنه سليل أسرة ملكية ذات مآثر عظيمة، شهدت الكثيرمن مجدها أيام الملك الأب،ودامت أيام عزها إلي مابعد الملك الابن: ذلك إن جلالته لما ورث المجد الملكي عن آبائه : الملك الأكبر، الملك وانغ جي، الملك أون : فقد آل علي نفسه أن يحفظ في سجل الزمان صفحات سجلها أجداده بالفخار ،ثم أضاف إليها بحروف ساطعة بالنور أمجاد حملاته العسكرية التي أحرز فيها نصرا مؤزرا علي أعدائه ،فاتسعت أطرافه مملكته، ودانت له كل ممالك الأرض بالخضوع،فذاعت شهرته وطار صيته في الآفاق ، واستحق عن جداره لقب ملك الملوك ابن السماء وصار له المال والجاه العظيم فيما بين البحور الأربعة (من أقصي الأرض إلي أقصاها ) وأقيمت له المعابد وهياكل القرابين المقدسة، وظل أبناؤه وأحفاد أحفاده يعظمون ذكراه ،ويقيمون في ضريحه المزارالمقدس والقرابين جيلا وراء جيل بغير انقطاع .
وقد تولي الملك اوالحكم ، في عمر يناهز سن الشيخوخة. وقام الوالي تشو بإكمال الأفضال الجليلة لكل من الملكيناو،أونوأوصي لكل من جي، تاي بجداره استحقاقا للقب الامبراطوري الأفخم ،وقدم القرابين للملوك الأقدمين طبقا للمراسيم الامبراطورية ،بل قام بتعميم تلك المراسيم الجنائزية لتشمل النبلاء وكبار الموظفين والوجهاء والعامة أيضا ،وكانت تقضي بأنه إذا كان الوالد من كبار الموظفين والابن من الوجهاء (.. الطبقة الوسطي ) فإن طقوس دفن الوالد المتوفي تجري وفق المراسيم الجنائزية لكبار الموظفين:أما شعائر تقديم القرابين ،فتقام حسب المراسيم الخاصة بالوجهاء : أما إذا كان الأب من الوجهاء والابن من طبقة كبار الموظفين ، فإن طقوس دفن الأب المتوفي تقام حسب المراسيم الجنائزية لطبقة الوجهاء ، بينما تتم شعائر تقديم القرابين حسبما يتوجب علي كبار الموظفين إقامته في مثل هذه الظروف وقد نصت علي وجوب حراسة جثمان المتوفي مدة عام كامل هذا فيما يتعلق بطبقة كبارالموظفين ومدة ثلاث سنوات للملوك والأباطرة ، وبالنسبة لما يختص بطقوس حراسة جثمان المتوفي من الآباء والأمهات فقد نصت اللوائح علي إلزام جميع الأبناء علي نحو متكافئ بوجوب القيام بها ، دون أدني فرق بين غني وفقير أو شريف ووضيع .
19
قال كونفوشيوس : إن أعظم من أدرك معني البر والوفاء للأسلاف ، هما الملك أو ووالي دولة تشو :ذلك أنهما واصلا مسيرة آمال أجدادهم واستكملا ما تأسس قبلهما من قواعد المجد،وقاما بإمداد المعابد بما يلزم في الأوقات المخصصة للعبادة،وارتديا الملابس الدينية وأطعما الطعام الشعائري المقدس، وقربا القرابين ورتبا صفوف المتعبدين وأقرا مبدأ تقسيم المصلين في أداء العبادات حسب الدرجة الاجتماعية ، ليعرف الوجيه من الوضيع ، وكذلك أخذا بالتقسيم حسب الدرجة الوظيفية ، ليتميز الماجد عن السفيه،ويلزم كل مكانه ومكانته : حيث يرفع الشباب للشيوخ كؤوس الشراب ، ويحظي الشبيبة بشرف الحضور في مجلس قام فيه الملوك علي قدم . وكذلك كان الجلوس علي المآدب حسب السن : لأنه لايستوي الصغير والكبير (.. ومن دلائل البر عند الملك والوالي أنهما ..) قاما حيث كان يجب عليهما القيام ، وقدما من القرابين ما كان يلزم من التقدمة ،وعزفا من الألحان ما جرت به الطقوس، قدسا من الأسلاف ما قدس أجدادهما الملوك الأولون وترفقا بما أوصي به آباؤهم أن يترفق به من الرعية :فكان العمل لأجل الحي في قداسة العمل بوصية الميت ، وكذلك كانت مراعاة حق الراحل الغائب واجبة وجوب مراعاة حقوق الباقين علي قيد الحياة ، فذلك هوأسمي معني للبر وأرفع ركن من أركانه .
إن إقامة شعائر الأرض والسماء إجلال لقداسة السماء ، مثلما إن تقديم القرابين في ساحات المعابد تبجيل لروح الأسلاف الأقدمين ، فمن أدرك دلالة طقوس تقديم القرابين ، وتمجيد الأرض والسماء عرف كيف ينظر في شئون الممالك وأحوال البلاد بيسر وسهولة (.. كأنه ينظر في راحة يده )
20
ذهب آيكون والي دولة لو إلي كونفوشيوس ، وسأله عن الطريقة المثلي لإدارة الأمور السياسية ،فأجابه: كان الحكيمان العظيمان أو و ون يأمران بتدوين القرارات الرسمية في السجلات الحكومية (ومع ذلك ، فلم تكن تلك السجلات تغني عن الرجال المسئولين عن القيام بأعباء الحكم ..ففي ..) وجود الحكماء ضمان للعمل بمقتضي اللوائح والقيام بالمسئولية التنفيذية ، فإذا لم يوجد هؤلاء الرجال ، اندثرت كل المدونات التي بذل فيها الملوك العظماء غاية الجهد والدأب .
إذا استقام شرع البشر ، صلحت أمور السياسة ، وإذا سلمت طبيعة الأرض ، أينع الزرع والشجر ( .. ولقد كانت السياسة التي طبقها ذلك الطرز من الحكام ،مثل ون ،او تؤتي ثمارها وتطول فروعها ويتناثر ظلها في كل مكان ) فلا صلاح للسياسة إلا بالحكماء ، ولاسبيل إلي ذوي الحكمة إلا بتهذيب النفس ، ولامجال لتهذيب النفس إلا باتباع نهج الطريق ، ثم لا مسير إلي الطريق إلا بالفضائل الإنسانية . والإنسانية معني مشتق من لفظ الإنسان ، إن المودة بين ذوي القربي لهي أعظم درجات الإنسانية .
إن الحق قرين اليسر (النزعة الطبيعية للتشكل حسب مقتضي كل ما هو إيجابي ) واحترام الحكماء هو أكبر دلالة علي انتهاج الحق.
** منشور بجريدة "أخبار الأدب" المصرية بتاريخ 16 ديسمبر 2007
ومن كلمات هذا الحكيم التي قرأتها في كتابه المحاورات "لون يو" المترجم الى العربي ايضا عبارة تقول:" أهم من أن يعرفك الناس هو أن تعرف الناس".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق