الأربعاء، 7 يوليو 2010

الشاعر والكلاب




ثمّة حكاية طريفة من عصر المماليك بطلها لحّام اسمه أبو الحسين "الجزّار"، وهو من أبناء القرن الثامن للهجرة. ابتلى الله هذا اللحّام بحبّ الشعر ونظمه، فالشعر ديوان العرب. ولكن الوقت الذي كان يقضيه في ملحمته لم يكن يسمح له بتكريس وقته للشعر كما كان يتمنّى ويهوى. والهواية تكون أحياناً قاتلة، ولعلّ دنوّ لفظها من الهاوية له ما يبرّره. وكانت علاقته" بالساطور والوَضَم" - كما يقول الناقد الراحل شوقي ضيف- تتقلّص كلّما اشتدّ عود ملكته الشعرية. اللحّام يبني علاقة طيبة مع أدوات مهنته وزبائنه، كما تبني الكلاب أيضاً معه علاقة تشبع المعدة.
يعرف أبو الحسين الجزّار أنّ الكلاب بحاجة إليه، فهو يعني لها الكثير. ولكنه كان يتبرّم من عمله. شيطان الشعر أغواه، بلبل لبّه وفتن لسانه، فراح بينه وبين نفسه يقول:"أنا شاعر، وعليّ أن أعيش حياتي الشعريّة، الجِزارة لا تليق بكلماتي، السطور ميداني وليس الساطور!". قدم استقالته من المهنة التي ورثها عن أبيه وجدّه والتي منحته اسمه، فهو عرف طوال حياته بأبي الحسين "الجزّار". ولا تزال، إلى اليوم، رائحة اللحم تفوح من اسمه وشعره.
ولكن ماذا يفعل بموهبته؟ من يتكفّل برعايتها؟ لم يكن الشعر في زمانه ينعم بالسيادة والاستقلال. فالشعر ليس مهنة، وقد لا يطعم لحماً! لا بدّ له من حاضن أو أب يتبنّاه. ونحن نعرف علاقة الشاعر القديم بالجغرافيا، فالمدح أدمى لسانه وقدميه! إنه كان أشبه بالبدويّ في الصحراء الذي يفكّ أوتاد خيمته في موسم الجفاف ويرحل بحثاً عن الماء والكلأ.
الشاعر العربيّ القديم لم يكن بعيداً عن أجواء جدّه البدويّ الرحّال (استهلال القصيدة الكلاسيكية بالرحلة كان شائعاً ودالاّ). البعض لم يكن يرى فرقاً بين "بيت الشِّعر" و"بيت الشَّعر". ينتقل الشاعر إلى حيث يجد شخصاً يعيره سمعه لإلقاء قصيدة لقاء حفنة من الدراهم أو الدنانير تهطل عليه كالغيث فتنعش أود أيّامه. فالشاعر بدوي يترحّل من مكان إلى مكان. يمدح ويهجو. يسلّط على البخيل سيف لسانه البتّار. الأمراء والوزراء والكبراء كانوا يقطعون لسان الشاعر بالعطايا، فـ"عداوة الشعراء بِئْسُ المقتنى" على ما قال الشاعر الخبير أبو الطيّب المتنبّي. وكلّ من له إلمام بالشعر العربيّ القديم يعرف أنّ المديح يأتي، في نظر النقّاد، في الطبقة الأولى من الشعر. وهذا ما حدا ببعضهم الى عدم الاعتراف بعمر بن أبي ربيعة أو اعتباره شاعراً ناقصاً ( غير مكتمل "الفحولة" الشعريّة) لأنّه لم يَرد كثيراً مورد المديح. الغزل وحده لا يكمل نصاب الشاعر للحصول على لقب( الشاعر "الفحل")، ولا شعر الحكمة وحده يسمح لكفّ الناظم بالقبض على "الفحولة" الشعريّة.
ترك أبو الحسين الجزّار وراء ظهره مهنة الجزارة وسواطيرها وكلابها. وراح يطرق أبواب الممدوحين المحتملين، لكنّه سرعان ما انتبه إلى أمر لم يكن قد حسب له حسابا، أو دار في خلده، وهو أن الوقوف على أعتاب الممدوحين لا يخلو من ذلّ السؤال، وان الاكتفاء بالشعر كان يفرض على الشاعر شروطاً قد لا تتقبّلها كرامته الشخصيّة أو الشعريّة.
شعر أبو الحسين الجزّار بصدمة نفسيّة وشعريّة قاسية، وبإهانة كاسرة تغرز أنيابها في لحم قصائده. هنا أدرك انه أخطأ في حقّ الجِزارة فندم على عقوقه المهنيّ، فأن يكون قصّاباً يقرض الشعر خير له من أن يكون مدّاحاً يتسوّل العطايا. طوى دواوينه وعاد إلى مهنته بعد أن اكتشف القيمة التي تمنحها له، حتى ولو كانت نظرة العرب القدامى إلى "المهنة" نظرة احتقار لا تزال عالقة بمفردة "المهنة" إلى الآن. إن ممارسة "مهنة" عند البدوي القديم عمل "مهين" ومجلبة للهوان. فـ"المهنة" من سلالة "المهانة" بحسب ما يفصح عن ذلك المعجم العربيّ.
عاد الشاعر الجزّار إلى ملحمته وهجر الآداب بعد أن اشتهى مضغ اللحم على أبواب الممدوحين، ودوّن تجربته المدحيّة في أبيات شعر يقول فيها:

لا تلمني يا سيّدي شرف الدين إذا ما رأيتني قصّابا
كيف لا أشكر الجِزارة ما عشت وأهجر الآدابا
وبها صارت الكلاب ترجّيني وبالشِّعْر كنت أرجو الكلابا

من هو شرف الدين سيّد الشاعر الذي يطلب منه عدم لومه على كونه قصّاباً؟ هل هو شخص من لحم ودم أم أنّه مجرّد اسم شعريّ اختاره أبو الحسين الجزّار لأنّه اسم مركّب من مفردتَي "الشرف" و"الدين"؟ إنّ التحليل السيميائيّ للنصوص لا يؤمن كثيراً باعتباطيّة الاختيار. والله أعلم!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق