الأربعاء، 7 يوليو 2010

كلام الخرسان من مقالات كتاب لعنة بابل


كتبها بلال عبد الهادي

الإنسانُ كائنٌ ناطقٌ، يعيش بالأصوات، يلذّه الكلام ويطرب للسَّماع. ولكنْ ماذا نقول عن الخرسان الذين يأتون إلى الدنيا بلا حاسّة اللذّة أيْ حاسّة السَّمْع، وأيّة صلةٍ للخرسان مع العالم؟ تعبر الأصواتُ آذانَهم وهم غيرُ آبهين. بركة الحواسّ لديهم ليستْ كاملة. ولكنْ هل يمنعهم ذلك من أنْ يعيشوا كأيّ سويّ؟
الإنسان كما حدّده أهل الفكر إنسان يحكي، يستعمل لسانه لغير الأغراض البيولوجية. وارتبط اللسان بخلاف سائر الأعضاء النطقيّة باللغة ارتباطا متينا إلى حد انه أضحى مرادفا دلاليا لمفردة اللغة.
والأخرس لا يملك من اللسان غير شكله اللحميّ دون جوهره الكلاميّ ومع هذا يحكي، يستعين بأشيائه الأخرى لينطق. يستعمل لغة أخرى، لا تفرق عن مألوف اللغات إلاّ من حيث النبرات. اللغة العاديّة مقرّها السَّمْع، ولغة الصمّ _البكم مقرّها النظر. لغة لها معاجمها، نحوها، صرفها، وأسلوبها الإيمائيّ المميّز. تصوغ الشعر، تعرف المجرّد، وتتمتّع بوصف الأشياء، ولها أبجديّتها الخاصة بها. أبجديّة شبيهة بالهيروغليفيّة، (النقش المقدس) قائمة على التصوير والرسم، هي أبجديّة تستغرق الجسد.
كلّ إنسان كائن لغويّ، يعبّر عن الأشياء الخفيّة في نفسه حتّى الأخرس. ترى الواحد منهم يحكي بمهارة، وسلاسة، ضليعاً في لغته، لا يتأتىء ولا يفافىء. ينداح الكلام على أصابعهم اندياح السَّيْل، دفّاقاً، رقراقاً. قد تدخل مقهى من مقاهي باريس أو غيرها من مدن الغرب فترى مجموعة من الخرسان يدردشون، يحكون النوادر والقصص والحكايات ويقهقهون، يتناولون بأصابعهم قضايا الساعة وهموم النفس. يلعبون بالكلام كما الشعراء، ينقلونه من يد إلى أخرى. يعيشون مجازاً رائعاً يهربون به من واقع أَخْرَسَ منهم الألسنةَ، وأصمّ الآذان.
ولنْ تستغربَ عاشقاً أخرسَ يفصح لحبيبته الخرساء في ركن رومانسيّ من مقهى، أو على ضفاف نهر السين في باريس، عن حبّه وأحلامه. الإفصاح بالأصابع وتعابير الوجه, وهمهمات العيون، إنّهم يمارسون ما يمارسه كلّ ناطق. العميان في هذا الزمن يقرأون الكتاب بلمسات الأصابع، والخرسان في هذا الزمن يحكون بأصابعهم، ولكنّهم يعيشون في دنيا غير دنياك. حياتهم هدوء، سكينة، صمت مرهف وجارح كحدّ الشفرة، في وسط عالم ضاجّ وصاخب. هم في قلب الصخب، وفي الوقت نفسه، بمنأى عن آلامه. عالمٌ آخرُ، ليس لهم، وليسوا منه, فاصل صفيق غير مرئيّ يجعلهم يعيشون حياة تبهر المبصرين والناطقين.
تتحسّسُ حواسّك الخمس. تجدها كاملةً غير منقوصة، وافرة الصحة، تسمع، تحكي، تشمّ، ترى، تلمس، تذوق، فتشفق على هؤلاء الغرباء وكأنهم آتون من كوكب آخر أو من زمن البدايات الإنسانيّة، وقد تضحك، فالأخرس إلى زمن غير بعيد بل والى الآن يثير في النفس للأسف عند البعض الضحك. بل انّ معلّم العقل أرسطو زلّ عقله حين اعتبرهم أغبياء هذا العالم. والأخرس لا هو بالأعمى ولا هو بالمجنون. الأعمى يبقى رغم عاهته متواصلاً باللغة مع محيطه. ليس محتاجاً إلى ترجمان يسمّي الأشياء بأسمائها. والمجنون يحميه غموضه والخوف منه. أمّا الأخرس فهو عند الناس مدعاة حيرة. تراه لا يحكي(وإنْ كان يحكي!)فتحمد الله على ما متعك به من نعمة الحكي.ولكن في عمق ذاتك وأنت ترى أصابعهم "تثرثر" بلغة لا تفهمها تشعر انك أخرس أو كالأخرس. "تتلعثم" أصابعك إزاءهم. تحسّ غربتك كثيفة. ترى أنّهم ليسوا من طينتك ولست من طينتهم. ولكنّك تفتن بهم، بطريقة حكيهم، بلغتهم الصامتة. تودّ لو تشاركهن الضحك الناتج عن طرفة خرجت من أطراف الأصابع. تتأكّد أنّ اللسان ليس هو كلّ الإنسان، وأنّ مقرّ اللسان ليس دائماً في فجوة الفم.أهي قدرته أم قدرة الإنسان بشكل عام على تدجين مآسيه والتآلف معها وكسب ودّها، واستثمار نقصه إلى حدّ الإدهاش؟ فهذا الأخرس انتصر على عجز فيه، كسر الصمت الحادّ. أدّى، وهو حبيس اللسان، دور اللسان، وقدر، وهو فاقد للسمع، على استبدال حاسّة بحاسّة فصار يسمع بعينيه. يحكي لغة مرئية، إيمائية، لمسيّة، ليس بينه وبين صديقه الأخرس أيّ تشنّج أو توتّر بالحديث. أصابعُ تحكي بهدوء، وهي تمتاز بخاصيّة غير موجودة دائماً لدى الناطقين هي الحميميّة. يقول العلماء إنّ الخرسان أكثرُ إنسانيّةً من غيرهم لأسباب عضويّة منها فقدان حاسّة السمع بالذات(وربّ ضارّة نافعة!)، فهم في حديثهم يقظون دائماً. العين في العين. الأخرس لا يدير ظهره للأخرس وهو يحكي. لا يغمض عينيه، ممّا يوطّد العلاقة الإنسانيّة. فهو مرهف النظر. والصمت، بين الخرسان، نادر! وهم لا يعرفون(حوار الطرشان) الذي يمارسه الناطقون ويعاني منه السامعون. العين تنصت إنصاتاً مدهشاً لكلّ حرفٍ يطلع من ثنية إصبع أو تجعيدة وجه. فلكلّ حركة معنى. طرفة جفن قد تكون فعلاً أو صفةً أو اسماً. كلّ عقدة إصبع هي مقطع من كلمة. اللغة العاديّة تستعمل الزمان أما لغة الخرسان فتستعمل، في آن، الفضاء والزمان.
يميل أغلب علماء الأعصاب واللسان والنفس إلى اعتبار الأصمّ/ الأبكم يمتاز بقدرات لا تتوفّر دائماً بنفس النسبة عند الإنسان الناطق. وهو، بعكس الشائع، قادر على الإبداع كغيره من الأسوياء. فنحن نلحظ أوّل الأمر أنّه غير قادر على تعلّم اللغة المنطوقة لأنّها تكتسب عن طريق السمع الذي هو، بحسب عبارة ابن خلدون، أبو الملكات اللسانيّة. ومع هذا فهو قادر على الإبداع اللغويّ. كيف؟ الطفل يسمع أمّه، تناغيه، تحاكيه، يحاول في البدء أنْ يقلّد. تكون لغته في البدء وليدة تقليد الأم، محاكاة لما يخرج من فمها. أمّا الطفل الأصمّ، فهو غير قادر على التقليد. أمّه تحكي، كلامها يتبعثر في الفضاء، لا يصل إلى طبلة أذنه. ليس بينه وبينها لغة تواصل. ومع هذا فهو يريد أنْ يوصلَ رغباتِه، يعبّرَ عن مكامن نفسه، ويتوسّل جسده لتحقيق مآربه، يحقّقها رغم قسوة المحيط، وقسوة العزلة التي يحياها، ورغم القمع المفروض عليه. محاولة الأهل اليائسة في إخراج أبنائهم من الصمم والبكم محاولة عكس التيار. الطفل يقدر أنْ يكتسبَ لغة الإشارات، يتقنها كما يتقن أيّ مخلوق الكلام المنطوق، ومعاهدُ كثيرةٌ تعمل على استكشاف البنية اللغويّة لكلام الخرسان.ولعلّ القرن العشرين الذي يعدّ قرناً ألسنيّاً بامتياز قادر على تفهّم كلام الخرسان وحقّهم المشروع في استخدام أصابعهم بعد فترات قهر كبيرة وفترات "غيتو" مريرة.
وثمّة معاهدُ كثيرةٌ الآنَ لتدريس هذه اللغة كمعهد "جوناسْ سالْكْ "الموجود في كاليفورنيا.إنّه يعمد على فهم حركات "النحو المرئيّ" الذي يعتمد على النظر. ويقول "جان غريميون " وهو نصير الصمّ البكم ومؤسّس مسرح خاصّ بهم:" إنّ الجسد كلّه كتاب لغويّ بآلاف الصفحات". وثمّة ما هو أدعى، ربّما، للاستغراب في حياة الخرسان. فحاليّاً بعد نيلهم جزءاً بسيطاً من حقّهم المستباح دخلوا عالم المسرح يمثّلون أدواراً لشخصيّات أبدعها كبارٌ من أمثال شكسبير أشرفوا على إنتاجها وإخراجها. فالذي يذهب إلى مسرح الصمّ/ البكم في فنسان(ضاحية من ضواحي باريس)ويشهد المسرحيّة المثيرة التي عرضت على خشبة المسرح المرئيّ الدوليّ يناله العجب، والمسرحيّة بعنوان مؤلم(حين أحكي سوف تفهمني).ويحكي إيف لوموريه (وهو أخرس )عن معاناة الإنسان الأخرس، خاصّة فيما يتعلّق بمحاولة تعليمه اللغة المنطوقة. كيف للأخرس أنْ يحكي اللغة الفرنسيّة (وهو فرنسيّ) في حين أنّ الناطق ذاته يصل إلى عامِه السادسَ عشرَ وهو عاجزٌ إلى حدّ ما عن ممارسة اللغة دون أخطاء فكيف بنا نحن واللغة الفرنسيّة المنطوقة ليست لغتنا الأمّ. لغتنا الأمّ هي اللغة المرئية اليدوية؟
ثمّة قصص كثيرة تروى حول فرض تعليم لغة الناطقين على الصمّ منذ نطق الإنسان. تبدأ في منعهم من ممارسة أصابعهم وأذرعهم بل يضربون على أطراف أصابعهم، وكأنّك تقطع ألسنتهم.الناطق بكل الوسائل يكمّم أصابع الأخرس. في المدارس يعلّمونه فقطْ لغة الشفاه فيعيشون بشكلٍ غير طبيعيّ، بينما لغتهم الطبيعية هي التي استنبطها في القرن الثامن عشر القس شارل ميشال دي ليبيه وهي مستخرجة من تلويحات الخرسان، ومن عباراتهم الفطريّة ويقول" دي ليبيه":" إنّ هذه اللغة هي اللغة العالميّة التي يحلم بها الإنسان". وهو إلى حدّ ما مصيب حيث لا تزال أسطورةُ بابل صاخبةً في الذهن البشريّ، فبرج بابل بلبل الألسنة ولكنّه لم يبلبل الأصابع ولا تعابيرَ الوجه.
فإلى متى يظلّ الأخرس في منفاه؟ والى متى يُنْظَرُ إليه على أنّه دون الإنسان المتمتع بكل حواسه؟ وترفض ممثلة خرساء ان يعامل الأخرس، كما تقول، معاملة الكلاب. يُمَدَّدُ على سرير التشريح ويحاولون زرع أذن اصطناعية له وهي عمليّة ليست دائماً في مصلحة الأصمّ، لأنّها تنقله من عالم إلى آخر. جوّ غريب يخرجه من صمته الأبديّ ليزجّ به في قلب الصخب، ليضعه في جحيم صوتيّ لا يطاق، يؤدّي به، في الأحيان، إلى الجنون والانتحار كما حدث لسيّدة أعادوا لها حاسّة السَّمْع بعد تأقلم طويل مع السكينة فلم تستطعْ أنْ تعيش، قالت:"كلام الناس صراخ، المياه، وهي تنزل من الحنفية، أشبهُ بأصوات شلاّل".
والناطق يدفع الأخرس إلى الأميّة حين يدفعه إلى كسب لغة غير لغة الإيماء. ولهذا يعود السبب في خروج الخرسان من عالم الناطقين إلى عالم غفل مجهول بل انه في عام 1880 خلال مؤتمر عقد في ميلان في إيطاليا تمّ تبنّي نظريّات كثيرة تقضي على الأصمّ/الأبكم. منها أنّ اللغة الإشاريّة، ليستْ لغة بكلّ معنى الكلمة وأنّها غير قادرة على توصيل التعاليم الدينيّة ممّا يعني أنّ الأخرس يعيش حسب معتقدهم، خاوي الروح، مقطوع الصلة مع كلّ ما هو إنسانيّ أو روحانيّ صرف علماً أنّ الحجّة واهية جدّاً لا سيّما أنّ أحد الرهبان كتب كتاباً دينيّاً قبل خمسَ عشرةَ سنةً من عقد المؤتمر بلغة الإشارة التي ابتدعها" دي ليبيه". ومنعوا الأخرس من كل مهنة ذهنيّة وزجّوا بهم في سجن نفسيّ رهيب، فتحوا أمامهم باباً واحداً ضيّقاً كالثقب هو العمل في الزراعة والخياطة والأشغال علماً أنّ القرنَ الثامنَ عشرَ شهد نبوغ خرسانٍ في ميادينَ مختلفةٍ: الكتابة، الهندسة، الفلسفة، كما يقول طبيب الأعصاب الشهير" أوليفيه ساكْسْ".
إنّهم أسوياءُ يتكلّمون لغةً خاصّةً بهم ولكنّها لغة منظّمة ويقول "جاك سانكلا" في محاضرة ألقاها بأصابعه في "أكاديميّة اللغة الفرنسيّة والإيماء" القريبة من السوربون "إنّ الأصمّ الأبكم يختلف عن الآخر ولكنّه ليس دون الآخر وهو سويّ إذْ هل يمكننا القول عن إنسان ناطق إنّه غير طبيعيّ حين يلتقي بإنسان آخرَ يحكي لغة أخرى ولا يفهمها؟
ويندهش "أوليفيه ساكْسْ" من قدرة الصمّ البكم البصريّة الخارقة قائلاً إنّه لم يتصوّرْ أبداً أنْ يبلغ الذهن البشريّ هذه الدرجة من الدقة. فالأصم الأبكم قادر على أنّ يرى ويستوعب، في لحظة واحدة، جملة من ثمانية عشر مقطعاً إشارياً بكلّ مضامينها التركيبية، وأنْ ينطق، إشاريّاً، في ثانية واحدة بعلامة أو علامتين لغويتين أيْ أنّه يملك سرعة اللسان نفسِه.
ولقد حقّقت الاختراعات الحديثة البصريّة، من فيديو وأجهزة كمبيوتر أحلاماً كانت تدور، في أذهان الصمّ/ البكم. فلمْ يعودوا مقطوعين عن العالم بنفس الحدّة. ولقد أظهروا قدرة على استخدام هذه الأجهزة تفوق قدرة السامعين.
وقد يأتي يومٌ ينكسر فيه جدارُ الصمت الشفّاف والعازل الذي يفصل الخرسان عن الآخرين وذلك باستثمار طاقات الوجه واليد في التعبير بدلاً من أنْ يظلّ الأخرس منتمياً إلى عالمٍ مبعثرٍ في المعمورة وكأنّه أمّةٌ ممزّقةٌ حدودُها أناسٌ ينطقون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق