الثلاثاء، 6 يوليو 2010

الرجل الذي ظنّ نفسه دجاجة


 
 


يقرأ المرء في كتب التحليل النفسي عن حالات إنسانية يظنّها القارىء، لفرط غرابتها، وليدة خيال سورياليّ جامح أو أنّها خارجة من رحم حكايات خرافيّة، ولكنّها في الحقيقة قصص واقعية من هذا العالم عاشها الناس بلحمهم وشحمهم. من هذه القصص الطريفة التي قرأتها حكاية شخص ظنّ نفسه دجاجة، ولا اعرف لماذا تخيل نفسه دجاجة وليس ديكا مثلاً. وهذا يعني، في أيّ حال، انّ القصة تحمل تحوّلا مزدوجاً في حياة الرجل على مستوى الجنس والنوع.
يمكن للمرء ان يرى نفسه أي شيء في المنام، فهو عالم مفتوح على غرائب المشاعر والتخيّلات. والفت نظر من يحبّ ان يغوص في مياه الأحلام الصاخبة إلى كتاب "أحلام الخليفة" الصادر عن "منشورات الجمل" للمستشرقة الألمانية "أنّا ماري شيمل".
ولكن الحديث هنا ليس عن منام وإنما عن واقع شخص أصيب بحالة نفسية قاتلة، وهي اعتقاده انه دجاجة، كان يمكن ان يعيش هذا الرجل /الدجاجة في أمان لو لم تكن حالته النفسية مقرونة بعقدة الخوف من الكلاب، فكان كلما رأى كلبا يظن انه سوف يهجم عليه ليلتهمه فيرفرف هارباً بريشه ومتخبطاً كمن أصابه مسّ. تفاقمت أزمته فكان يرى يديه جناحي دجاجة، وفمه منقاراً، ولم يعد يميز بين ملابسه وريش الدجاجة. ظل محتفظا بصوته البشري، لا على انه من بقايا حياته الآدمية، ولكن باعتباره دجاجة ناطقة، وكان يفتخر أحيانا انه دجاجة مميزة، تشبه ما ورد في كتاب "مذكرات دجاجة" للأديب إسحاق موسى الحسيني. كانت طريقته في النظر لا تختلف عن طريقة الدجاجة، أي انه كان يتعامل مع عينيه كما لو أنهما على جانبي وجهه. ولك ان تتصور شكل رأسه وهو يتمايل يمنة ويسرة للتحديق في الأشياء!
الأزمات النفسية لا تضاهيها أعتى الأمراض الجسدية، ومع هذا، فثمة حكماء مهرة قادرون على فكّ العقد النفسية المستعصية وترميم الأرواح المتداعية. فما كان من أهل الرجل إلا الاستعانة بأحد الحكماء النفسيين، ولا أحد يعرف كيف اقتنع في زيارة الحكيم. توالت الزيارات والجلسات، وكان الحكيم في كل زيارة يزيل طبقة رقيقة جدا من طبقات هذا الاعتقاد الكثيف. كان الحكيم مسرورا جدا لإشرافه على هذه الحالة فهي تجربة نادرة قد لا تتوفر في كل حين فراح يقضي أغلب وقته في متابعة الرجل الدجاجة ويرى التحسّنات التي تطرأ على حالته، إلى ان تكللت المعالجة بعد جلسات شاقة وممتعة بالنجاح. كانت فرحة الحكيم تفوق فرحة الرجل/ الدجاجة الذي لم يعد دجاجة، فودّع الحكيم وودّع أجنحته ومنقاره وهو فرح بحياته الجديدة أو باستعادته لحياته الطبيعية التي كان قد نسيها.
نزل من عند الحكيم وهو يقفز من الفرح، ولكن ما ان خرج من باب المدخل، حتى اعترضه كلب! أيّ قدر خبيث رمى الكلب في وجهه في لحظة استرداده إنسانيته؟ لم يتابع طريقه، تذكر انه خرج للتوّ من ثوبه الدجاجيّ وتذكّر ان خوفه من الكلاب كان ساحقاً ماحقاً، فلم يجرؤ على الخروج ولا على مواجهة الكلب، رغم يقينه من انه ليس دجاجة، وان اعتقاده السابق كان مجرّد عطب نفسي، وهو عطب لم يعد، بفضل الحكيم، موجوداً.
عاد مسرعاً، لاهثاً إلى الحكيم الذي تفاجأ لرؤيته. كان الرجل مرتبكاً، والكلمات تخرج من فمه مقطعة الأوصال كالأشلاء. ما بك؟ سأله الحكيم مستغرباً. اعرف أيها الحكيم، اعرف تماماً أنني لست دجاجة، لا أحد يمكن أن يعيدني إلى الحياة الدجاجيّة، ولكن قل لي يا حكيم، فثمّة سؤال لا يزال يحيّرني، وينخر عقلي، اعرف أنني لست دجاجة، ولكن الكلاب، الكلاب يا حكيم! هل تعرف أنني لم أعد دجاجة؟ وكيف أعرف أنها تعرف أنني أعرف أنني لست دجاجة؟
كاد الحكيم هنا، من فرط غيظه، ان ينبح في وجه الرجل، إذ كيف بإمكانه ان يشفي كلباً من مرض لا يشكو منه لأنّه بكل بساطة غير موجود إلاّ في مخيّلة الرجل الذي لم يعد دجاجة؟

هناك تعليق واحد:

  1. مقال ممتع ومتميّز بفرادة وغرابة الموضوع بإنتظار المزيد :)

    ردحذف