الجمعة، 9 يوليو 2010

ايها المثقّف لا تخف من الانترنت


لم تكتمل فصول الثورة الرقميّة والمعلوماتية بعد. وكلّ ما نراه من إنجازات ليس أكثر من خطوات أولى في دروب تكنولوجيّة لا أحد يمكن له ان يتنبأ بنهاياتها.وهذه الثورة تركت صدمة فكريّة وروحيّة لدى الإنسان العاديّ، إلا أنّها ولّدت أزمة وصدمة أيضا لدى المثقّف العربيّ والغربيّ على السواء، أو لدى بعض المثقّفين الذين ينظرون بريبة وخشية إلى أفاعيل التكنولوجيا في مصائر الناس.
وكتاب الدكتور أحمد صالح "صدمة الانترنت وأزمة المثقفين" الصادر عن سلسلة كتاب الهلال، من الكتب التي تجمع بين المنجزات الرقميّة وآثارها الاجتماعيّة والنفسيّة والإتنولوجيّة بأسلوب طريف، يجعلك تتابع الكتاب بشغف رغم ما يتخلّل الكتاب من أخطاء مطبعيّة ولغويّة تترك أكثر من علامة استفهام حول قضيّة الطباعة واستهتار الناشرين في أغلب الدول العربيّة.
والكاتب يدخل إلى عالم التكنولوجيا من أبواب عديدة، منها باب الثقافة الرقميّة والاتنولوجيا الالكترونيّة، وهي كلّها علوم مركّبة، كما أنّه يدرس ما يسمّيه "التكنوفوبيا" أيْ الرعب من التكنولوجيا. وثمّة إلى اليوم كتّاب لم يبلغوا من العمر بعد عتيّا، ومع هذا لا يزالون يتجنّبون تغيير عاداتهم الكتابية. فعلاقتهم مع الورق والكتاب منعتهم من أن يقيموا أيّ نوع من الاتّصال الحميم مع الحاسوب والانترنت. لوحة المفاتيح تلتهم كلماتهم، تبعثر أفكارهم، علاقتهم مع القلم المحضون لا تضاهيها لوحة المفاتيح التي تشتّت الحروف والكلمات على الطاولة. إنّ علاقتهم الطقسيّة مع الورق تردعهم من ان يمارسوا أو يغيّروا عاداتهم الكتابيّة. يربطون بين الفكرة وطقوس إنزال الفكرة. ولا ريب في أنّ هذه المسألة تسبّب هدراً لطاقات كثير من المثقفّين، في زمنٍ باتت الثواني فيه تحسب بالساعات. ومن الطريف جدّا تتبّع لحظة التحوّلات هذه التي تحيل الورقة المنبسطة إلى شاشة منصوبة أمام العين. ممّا يعني أنّ العلاقة المكانيّة مع الكلمات لم تعدْ هي نفسها. وتتناثر الأمور الطريفة، والعلميّة بالتأكيد، على امتداد الفصول، وهي لم تنحصر فقط في فضاء الانترنت بل تعدّتها أيضا إلى الهاتف المحمول، الذي غيّر من مفاهيم كثيرة في العلاقات الاجتماعيّة والشعوريّة منها على سبيل المثال مسألة الحنين والغياب، والشوق وهي كلّها مشاعر بدأت تتآكل بحكم الاتصال الصوتيّ الدائم لا الوجاهيّ إلا انه اتصال يمتصّ جزءا كبيرا من الحنين نفسه. ويتكلّم أيضا على علاقة الفرد الحميمة مع المحمول والفوارق في الاستعمال بين الطبقات والأجناس فيلحظ أنّ المثقفين يستخدمونه بشكل أخفّ لما يعرفونه عن أضرار إشعاعاته. ويتكلّم على الوظيفة الإنسانيّة بل والأخلاقية للثرثرة عن طريق المحمول. لكأنّ من طبع الإنسان الثرثرة بل أنّ الثرثرة خاصيّة بشرية بامتياز. البعض لا ينظر إلاّ إلى الناحية السلبية من وظيفة الثرثرة إلاّ أنّ الكاتب أراد ان يعيد للثرثرة اعتبارها الاجتماعيّ من حيث قدرتها على شدّ الأواصر بل يستشهد بأحد الفلاسفة الذي يرى في أنّ الثرثرة تحسّن فهمنا للطبيعة البشريّة، وتشدّ أيضا من أزر التواصل بين الناس بل هي تؤدّي أيضا وظيفة علاجيّة، وليس أبسط من تقدير مكانة الثرثرة في حياة الفرد من الصيام عن الكلام لفترة من الوقت.كما يشير إلى التفنّن في استعمال المحمول من خلال الرسائل النصيّة والرنّات والنغمات وكيف أنها كلّها تتحوّل إلى بدائل كلاميّة ورمزيّة تحمل دلالات تحمي الحميميّة أيّاً كان المكان.
ويدرس الكاتب الأثر الذي يتركه عالم الانترنت على الأديان في العالم، سواء العربيّ أو الغربيّ، في فصل خصب، ودالّ على التعديلات على ممارسة الطقوس الدينيّة نفسها حيث تحوّل الحاسوب في بعض الأحيان إلى معبد روحيّ صغير تقام فيه الصلاة وترسل منه الأدعية. ويتمنى الكاتب لو تستطيع شاشة الحاسوب أن تمتصّ الحروب الأرضيّة وتحولها إلى حروب افتراضية أي أن تتحوّل الشاشات إلى ساحات للمعارك وتتحوّل المواقع الانترنتيّة إلى مواقع عسكريّة تشنّ منها الحروب بدلا من ان تشنّ على الأرض، بل يقول إنّ المعارك الدينيّة على الحاسوب تغلي بالنشاط، ومن المؤشرات الدالّة أنّ 75% منها هي مواقع أصوليّة، وهذا يعبر إلى أيّ حدّ استطاع الانترنت أن يتحوّل إلى أداة دينيّة في العالم العربي. ويلحظ الكاتب أنّ 25% من استعمال الانترنت في الولايات الأمريكية نفسها يذهب إلى أمور دينية. كما يلفت الكاتب النظر إلى الدور الذي يلعبه الانترنت في ولادة أديان جديدة ما كان لها ان تولد لولا الانترنت وهي ما يسميها بالأديان الهجينة. وهذا أمر كان فيما مضى محصوراً في الأماكن الجغرافية التي تكتظّ بالأجناس وتمتاز باختلاط الملل والنحل والأعراق. أمّا اليوم فلم يعد المرء مربوطاً بالمكان ليتبنى مذهباً جديداً، بفضْل انفتاح المواقع على بعضها البعض. كما يقول الكاتب ان مفهوم الغربة تغيّر أيضا إلى حدّ كبير، فالهجرة إلى أيّ مكان ،مهما كان غريبا عن انتماء الشخص، لا يمنع هذا الأخير من أن يكون على اتصال وتواصل يومي بمن ينتمي إلى الملّة نفسها. ولقد انتبهت المؤسسات الإسلاميّة الرسميّة إلى خطورة الدور الذي يمكن ان تلعبه المواقع الإسلاميّة الخاصّة المتطرّفة فعمدت إلى بناء مواقع رسميّة لمقارعة التطرّف بالحجّة الالكترونيّة، منها موقع الأزهر. ولا ريب في ان فصله عن "الأديان والتديّن على الانترنت" هو من الفصول التي تسترعي النظر لغناه على صعيد المعلومة والتحليل.
وللذين يرعبهم التفكير باحتمال غياب الكتاب الورقيّ يشير المؤلف في فصله"مستقبل القراءة والكتابة في عصر الانترنت" إلى أنّ نسبة استهلاك الأوراق زادت زيادة عالية عما كانت عليه قبل ميلاد الحاسوب والكتاب الالكتروني. ويستشهد بكلام دان سبيربر "Dan Sperber" الذي يعلن بثقة فجّة انتهاء عصر القراءة والكتابة قريباً. فهو يرى ان الإنسان كلما تقدم في التكنولوجيا يدنو أكثر وأكثر إلى الطبيعة الأصلية للغة أي اللغة المنطوقة التي لم تكن الكتابة إلا وسيلة هشّة ومؤقتة للحفاظ عليها، أي أنّ عصر الشفاهيّة سوف ينبثق من جديد من الأعصاب الالكترونيّة. فيقول دان سبيربر ان الحواسيب الناطقة سوف تحلّ محلّ الحواسيب الكاتبة، كما أن لوحة المفاتيح سوف تنقرض بدورها مع وجود لوحة مفاتيح أخرى تعتمد السمع. طبعا البرامج التي تحوّل الكلمات المنطوقة نصوصاً نزلت إلى الأسواق إلا أنها لا تزال في طور التأتأة. ويقول الكاتب بأسلوب لا يخلو من سخرية وماذا يكتب الحاسوب وسط الضجيج وكيف يميّز ما يراد تسجيله ممّا يراد ترحيله. ربّما لا يمكن للمنطوق ان يحلّ بالمطلق مكان المكتوب ولكن سوف تكون له استخدامات ضرورية.كما يتكلم الكاتب عن إمكانية تحويل النص المكتوب إلى نصّ منطوق. ويشير الكاتب إلى ان الصوت البشريّ الآلي لا يمكن له ان يحمل حرارة النبرة ولا عفوية اللهجة... الخ ممّا يجعل من النص المنطوق نصّاً بارداً. في أيّ حال ثمّة تجارب أظهرت ضحالتها وهي تحويل خطوط بعض الأدباء إلى خطوط الكترونيّة إلاّ أنها أنجبت كتابات شوهاء، باردة أشبه بالخطّ المحنّط منها على سبيل المثال خطّ الكاتب الفرنسيّ مارسيل بروست وذلك لأنّ أيّ كاتب لا يملك شكلا واحدا جامدا لكلّ حرف بل ان تنوّعات الخطّ الشخصيّ ربّما تفوق الحصر، ممّا يجعل إحياء خطّ من رحلوا بحذافيره وحيويتّه، إلى الآن، أمنية عصيّة.وما ينطبق على المكتوب ينطبق حكماً على المنطوق بحسب رأي علماء الأصوات.كما ان الأفكار المنطوقة لن تكون هي نفسها فبين المنطوق والمكتوب فوارق كثيرة منها انه يمكن العودة إلى المكتوب لتجويد الأسلوب أو تحسين المعنى وهي إمكانيّات لا تتوفّر للنصّ المنطوق. ويشير الكاتب إلى عجز الذاكرة عن ملاحقة المنطوق. لأنّ النصّ المكتوب يتحكّم به القارىء ذهاباً وإياباً لتثبيت فكرة أو معلومة بخلاف المنطوق.
وينهي الكاتب فصله هذا بطرائف عن المكائن الناطقة التي نزلت إلى أسواق بعض الدول المتطورة كبريطانيا. فيتكلّم عن المضايقات والمعاكسات التي تقوم بها بعض الآلات ضدّ بعض الناس، منها ماكينات المشروبات المبرمجة للاتصال بمركز الصيانة لدى حصول خلل أو نفاد ما فيها، فبدلا من ان تتصّل بالشركة تتصل هذه الماكينات أو حتى المراحيض العمومية لخلل في البرمجة بأرقام هواتف منزلية. والطريف انه لا يمكن لمن يتلقّى هذا الإزعاج برد فعل لاّنّ الناطق آلة. فما عليه إلا أن يبلع نقمته. فلا تستغرب أنْ تتّصل بك آلة في الرابعة فجراً كما حدث لسيّدة في بريطانيا من مرحاض يعلمها فيه بنفاد الصابون منه.
ويكرّس الكاتب الفصل الأخير للمنتظر العلميّ وهو لفرط غرابته يظنّه القارىء فصلا عن الخيال العلمي المحض. فيتكلم عن المكائن فائقة الذكاء التي قد تنقلب على مخترعيها، كما يتكلّم عن الفوارق الباهتة بين الإنسان البشريّ والإنسان الآليّ( أو الإنساليّ). ويشير إلى الاختراعات التي لا تزال في طور التكوين منها "الفأرة اللمسيّة"، التي تتحسّس، وأنت تحركّها على صورة ما، بشرة الصورة وملمسها. وكأنّك تلمس فعلاً ما تراه أمامك على شاشة الحاسوب.
ولا ريب في أنّ قراءة هذا الكتاب الممتع ترسم صورة واضحة عن الثورة التكنولوجيّة اليوم، أمّا بالنسبة لما هو آتٍ فإنّ الكاتب يكتفي برسم ملامح وقسمات عالم لا تزال تحيط به علامات تعجّب عملاقة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق