الأربعاء، 7 يوليو 2010

مكتبة الفردوس
















كتاب طريف, سهل الهضم, قريب إلى القلب, يحمل عنوان" متعة القراءة"(صادر عن وزارة الثقافة في دمشق). وهو يتكلم عن فعل القراءة, وممارسة اللذة مع الكلمات التي تفوت أناسا كثيرين, لأنهم أخطأوا في التواصل مع الكلمة المكتوبة, فيعيشون حياة فيها فراغ تشبه حياة غير المتزوجين. فالدنيا كتب, والكون مكتبة كما يقول بورخيس الذي كان ولوعا بتقليب صفحات الكون, ومقاله "مكتبة بابل" في الكتاب، يدور كله على المماهاة الكلية بين تفاصيل الكون وتفاصيل المكتبة.
يتضمّن الكتاب احد عشر نصا, لمجموعة من كبار الكتّاب قدامى ومحدثين, عرب وأجانب, من مشرق الأرض ومغربها, تقرأه وكأنك تقرأ رواية شيقة, أو مجموعة قصص مترابطة, متوالد بعضها من بعض. وفوق ذلك, تمنحك النصوص الثقة بأن خيارك الحياتي في القراءة-إن كنت قارئاً- خيار صائب. لأنّ القارىء في بلادنا تظلمه نظرات الناس وردود فعلهم على مسلكه القرائي. فليس من شخص بيننا إلا وسمع قصة ما عن عذاب الكتب, وتشردها, والتعامل معها بنوع من الاحتقار وكأنها عبء في البيت, أو ضيف ثقيل الدم والظلّ, من هنا يلصق بها البعض تسمية" الكراكيب" أي ما لا لزوم له, والبعض يضجر منها, يتعب من وجودها الدائم في خلقته فيضعها في أكياس ثمّ يرميها للغبار والرطوبة في مستودع أو تتخيتة, وكأنّ مرآها وهي مهملة تنديد به, لاذع.
ان فولتير- حسب ما جاء في الكتاب- حين سئل عمن سيقود الجنس البشري، أجاب بـ"أنهم الذين يعرفون كيف يقرأون ويكتبون". ولا ريب ان القراءة تعاني اليوم مأزقا رهيبا في البلاد العربية, أزمة هي وليدة هجمة أدوات الاتصال الحديثة قبل تمكن الدول العربية من تثبيت فعل القراءة في نفوس الأجيال الجديدة فاختطفها التلفزيون الذي يعيد الناس إلى العصر الشفاهي, مع ما يحمله عصر الشفاهة من طبيعة الزائل أو المحرّف بحكم طبيعة الذاكرة القائمة على الخيانة.

وكان طه حسين قد اعتبر" ان الحثّ على القراءة خير ما يوجه إلى الأفراد والجماعات, في جميع الأمم والشعوب, وفي الشعوب العربية بوجه خاص", بعد مضي وقت طويل على مقولته لا تزال نسبة الأمية فضيحة من فضائح القرن الواحد والعشرين في عالمنا العربي حيث عدد الأميين في بلادنا الطويلة العريضة يفوق السبعين مليونا وهو رقم اشد وطأة من أمواج "تسونامي" على الأفكار والمستقبل. ولا شيء يبرّر إخفاقنا في معالجة هذا المرض القاتل, إذ دائما في اليد ألف حيلة لاستئصال هذا السرطان الروحي والفكري من حياتنا, فالإنسان بنظر طه حسين "حيوان قارىء", ويتوقف طه حسين في مقاله "زاد الشعب" عند كلمة "اقرأ" هذا الأمر الإلهي الذي لا يأبه له اغلب العرب, ثم يقول " إذا أمر الله الإنسان بان يقرأ, فإنما يأمره بان يطمح إلى الكمال". كما يتناول مسألة القراءة ويربطها بالعملية الاقتصادية, فالفقر عارم في اغلب الدول العربية, بل انه يقول ان الدول الغربية عمدت إلى إنشاء" السلاسل الرخيصة" التي لا يشقّ شراؤها على فقراء الناس حتى يصير بإمكان أيّ كان اقتناء الكتاب.
ويحكي الكاتب إبراهيم المازني بأسلوبه الساخر والمميز عن القراءة وكيف انه سرق مرة كتابا لا يملك ثمنه, حين كان في العشرين من عمره, ويقول انه لم يرد من القراءة" قتل الوقت وتزجية الفراغ وإنما كان همي ان أستقطر الكتب واستخلص منها كل ما يمكن ان تجود به" ويتكلم كيف كان يمتحن نفسه في مكتبته ليعرف ما بقي في رأسه من الكتب التي قرأها.

محمد كامل الخطيب تحت عنوان" مديح الكتب" يكتب عن مصائر أناس بدلت الكتب حياتهم, غيرتهم, جعلتهم يغامرون, يتركون حياتهم الأولى وراء ظهرهم منهم دون كيشوت بطل رواية "سرفانتس"، المؤسسة للفن الروائي في الغرب, وكيف ان بعض الناس يعرفون ان الكتب كارثة في حياتهم لأنها تمنعهم من تحقيق نزواتهم، فيتكلم عن هتلر الذي " أقام حريقه الكبير للكتب عندما استولى على السلطة" قبل ان يحرق أوروبا, إلا ان هتلر لا يزال موجودا بصور مختلفة. وهل منع الكتب أو حرقها هو من ماضي التاريخ الإنساني؟ ويستشهد محمد كامل الخطيب، بعبارة وردت في رسالة كتبها دوستويفسكي إلى أخيه طالبا ان يرسل له " القرآن" وكتاب كانط "نقد العقل المحض" ثم يضيف" أرسل هذه الكتب... أرسلها, أسرع, فعلى هذه الكتب يتوقف مصير حياتي" ثم يلتفت الخطيب إلى التغيرات التي يواجهها الإنسان في زمن وسائل الاتصال الحديثة حيث يسهل التحكم به عملا بمقولة المارشال مكلوهان ان الوسائل ليست مجرد وسائل، وإنما هي أيضا رسائل, ولعلّ محمد الخطيب وهو يدافع عن الكتاب انزلق إلى تهمة الوسيلة الجديدة في صيغة تساؤل " هل يكون ذلك احد دلائل ابتعاد عهد الحرية, ومجيء عهود القمع والعبودية وتكوين مجتمع متحكم فيه ومقولب في طرائق عيشه وتفكيره؟ ويعتبر الخطيب ان شدة احتفاء الحكام العرب بهذا الجهاز العجيب " أي التلفزيون" الذي يستخدمونه كمرآة فيها يرون نفوسهم وبالمقابل شدة احتقارهم للثقافة المكتوبة وبالتالي تهميشهم دور مثقفي الكتب والفكر." وكلام محمد الخطيب هنا ليس بالضرورة ان يكون صوابا وان كان عدد لا بأس به من المثقفين يتبنون موقفه المتشائم هذا, ربما كان من الأفضل هنا وضع التساؤل بصيغة أخرى والتوجه بالسؤال إلى المثقفين أنفسهم لأخذ مبادرة نقد الذات, أليس على المثقف نفسه ان يتحرر من سجن النخبة والبرج العاجي, ويتكيف مع الحياة كما تكيّف الكتاب نفسه, طباعة وورقا وألوانا وصورا, مع شروط الحياة.
وفي "متعة القراءة" نص مأخوذ من كتاب الخطيب البغدادي " تقييد العلم", وهو من لطائف الكتب, تحت عنوان "فضل الكتب وبيان منافعها", ولهذه الالتفاتة أهمية من حيث إلقاء نظرة على تعامل الأجداد مع الكتب، وهو تعامل كان بالتأكيد أفضل من تعاملنا نحن اليوم مع الكتب, والمتصفح لكثير من كتب التراث تتبين له فتنة الأجداد بالقراءة، ولعل أبرزهم الجاحظ الذي كان ينام في محلات الكتب ليظل قريبا منها, يتنفس أصداء كلماتها, وله كلمات فاتنة عن الكتب, في كتابه "الحيوان". متصفّح بعض الكتب القديمة يجد فصولا لامعة عن الكتب وحياة الناس معها, وأهمية التدوين فرارا من خبث الذاكرة. فالشاعر ذو الرمة قال لعيسى ابن عمر "اكتب شعري, فالكتاب أعجب إليّ من الحفظ, ان الإعرابي ينسى الكلمة قد سهرت في طلبها ليلة, فيضع في موضعها كلمة في وزنها, ثم ينشده الناس, والكتاب لا ينسى, ولا يبدل كلاما بكلام". كما يُذكر الخطيب ان المأمون كان ينام والدفاتر حول فراشه, ينظر فيها متى انتبه من نومه وقبل ان ينام.

أما فيلسوف التشاؤم آرثر شوبنهاور فتحت عنوان "عن التأليف" يكتب مقالا هو صورة عن تشاؤمه ونظرته إلى الحياة فهو لا يريد من الكاتب إلا ان يكتب دون ان يفكر بحفظ حقوق النشر. انها نظرة رومانسية للكتابة, نظرة لا يزال بعض المثقفين يعيشون تحت وطأتها يكتبون ويلعنون الفقر, ويقول:"ان الشرف والمال لا يجتمعان في محفظة واحدة", كما ان له نظرة عجيبة بالنسبة للترجمة وللمترجمين, فهو يندد بالمترجمين" الذين لا يكتفون بنقل الكتب من لغة إلى أخرى بل يأخذون على عواتقهم مراجعتها وتصحيحها, وهو ما يبدو لي ضربا من القحة الممجوجة, لا أجد عليه ردا إلا ان أرجو أولئك السادة ان يحاولوا هم ان يكتبوا شيئا جديرا بان يترجم, وان يتركوا أعمال الآخرين بسلام". وما يثير الضحك لديه انصراف الكتاب أحيانا عن العمل الفني إلى استقصاء الأحداث التي مرت بالشاعر ومتابعة ظروف حياته. وهكذا فان الناس بدلا من ان يمتعوا النفس بقراءة أشعار جوته مثلا يفضلون ان يقرأوا ما كتب عن جوته.
أما إسحاق دزرائيلي فانه يتكلم عن رجل الكتاب الواحد وقد اخذ الكاتب عنوان مقاله من مثل لاتيني يقول " خذ حذرك من رجل الكتاب الواحد" ويقول ان كل كاتب كبير يبدو منحازا لمؤلف يفضله عن غيره, وهذه الوجهة في النظر شبيهة بما كان يعتقده العقاد بان قراءة كتاب جيد مرتين أفضل من قراءة كتابين, فنابليون بونابرت كان دائما يحمل مؤلفات مكيافيللي. والسير وليم جونز كان من عادته ان يتم قراءة كل كتب شيشرون مرة في كل عام.
أما الكاتب لين يوتانغ الآتي بزوّادة كبيرة من الحكمة الصينية، فانه يكتب تحت عنوان "فن القراءة و فن الكتابة " نصا جميلا لاننا نكتشف طريقة الصينيين في القراءة, فهو يرى ان القراءة تحرر الإنسان من سجنه البدني, وتمنحه الترحال الجميل. ولعل اللغة العربية لاحظت هذه العلاقة الجميلة بين الترحال والكتاب من خلال التشابه اللفظي بين السِفر أي الكتاب والسَفَر, كما لاحظتها أيضا في الصلة الحميمة بين المطالعة من حيث هي طلوع وإشراف على البعيد, ويستشهد لين يوتانغ بقول عن القراءة لشاعر صيني عاش في عهد أسرة سونج جاء فيه: " يحس المفكر الذي تمضى عليه ثلاثة أيام دون ان يقرأ شيئا, ان حديثه قد فقد نكهته, كما يرى ان وجهه أصبح كريها إذا ما نظر في المرآة." كما يطلب ان يتعامل القارىء مع الكتب كما يتعامل النهر مع مجراه, ويشفق من القارىء" الذي لا يجد كاتبا يؤثره على غيره، ويعتبر هذا القارىء ضائعا, فهو يظل كالبيضة غير الصالحة للفقس, أو الأرض غير المسمّدة. فالكاتب الأثير لدى النفس هو اللقاح للروح. وهناك كاتب أثير لكل إنسان في العالم, ولكن على هذا الإنسان ان يجشّم نفسه عناء اكتشاف هذا الكاتب." وحين يتحدث عن الكتابة يتكلم بصور استعارية عن ممارسة الكتابة التي تتدبر أمر تجويد نفسها وترقية مستواها "تزداد حدّة القلم بالمراس والتجربة تماما كمخرز الاسكافي الذي يتحول بصورة متدرجة إلى إبرة للتطريز", ولفرجيينا وولف مقالة تحت عنوان " كيف يجب ان يقرأ المرء كتابا ؟" مقالها هذا تلخصه عبارة واحدة شديدة الفطنة" على القارىء ان يتبع غريزته فقط, وان يستعمل عقله هو ". فالإلزام في القراءة هو من ألعن الوسائل, لأنه يجعلك تمقت الكتاب المقروء والكتاب الممقوت مهما كان جميلا ورائعا يستحيل إلى كومة قشّ في الذاكرة.
ينتهبك سؤال لحوح وأنت تنهي قراءة هذا الكتاب الودود, متى تصير القراءة "فرض عين" على كل عين عربية؟
خصوصاً أنّ المكتبة من منظور الكاتبة البريطانية "فرجينا وولف" ليست أكثر من فردوس زاخر بما لذّ وطاب من الكتب.


تجد المقال ايضا في جريدة الشرق الأوسط على هذا الرابط:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق