الخميس، 8 يوليو 2010

أعمى بس لئيم


لم يكن طه حسين أعمى في نظر الشاعر نزار قباني، هذا ما يعلنه في قصيدة تكريم للناثر الجميل صاحب كتاب "الأيام" إذ يخاطبه قائلاً:

إرْمِ نظّارتيْكَ ما أنت أعمى إنّما نحن جوقةُ العُميانِ

ولكن طه حسين لم يستعمل عينيه إذ اكتفى باستخدام عيني زوجته الفرنسيّة سوزان، هذا ما يقوله من باب الشكر والامتنان لها في إهداء نبيل افتتح به أحد كتبه: " إلى المرأة التي نظرت بعينيها".
أخبار العميان كثيرة، وصلاح الدين الصفديّ أحد الذين اهتموا بأخبارهم في كتابه الطريف "نَكْتُ الهِمْيان في نُكَتِ العُميان"، حيث جمع في طيّاته متفرّقات طرائفهم بدءاً من العصر الجاهليّ وانتهاء بعصره، ولكنّي لم أسمع طرفة تشبه هذه الحكاية الحقيقية التي قرأتها في إحدى الصحف العربية عن رجل أعمى.
نعرف أنّ الطبّ تطوّر وصار بإمكان بعض العميان استرداد نظرهم. ومن يرغب في أن يتعمّق حول هذا الموضوع يمكنه مراجعة كتاب قيّم ونفيس للـعالم الانتروبولوجيّ دافيد لو بريتون بعنوان: " مذاق العالم، أنتروبولوجيا الحواسّ".
القصّة التي سأخبرها الآن تروي قصّة أعمى، والعمى لا يمنع من الزواج وإلا ما كان لطه حسين أن يتزوّج ولا لعميان كثيرين، ونحن نعرف أن هناك أولادَ عُميانٍ في هذا العالم.
تزوّج هذا الأعمى، وأن تتزوج امرأة رجلاً أعمى فهي، لا شكّ، تقدم على خطوة تنمّ عن إنسانية عارمة. فالإنسان ليس فقط بعينيه. والزواج ليس حقّا للمبصرين فقط، كما أنه ليس حقّا حصريّاً للأذكياء أو الأغنياء، إن الزواج كالموت! لا يؤمن بالطبقات. اهتمّت المرأة بزوجها الأعمى، وكرّست حياتها له، صارت عينيه ويديه وخطاه، وكانت بحكم وضع زوجها تهتم بأخبار العميان والتطوّرات العلميّة ذات الصلة بطبّ العيون. علمت الزوجة أنّه صار بالإمكان زرع قرنيّات للعميان ليستردّوا أبصارهم، وكثيرون جربّوا إعادة الضوء إلى ظلام أيّامهم. لمْ لا يكون زوجها واحداً من هؤلاء؟ فالمرأة تريد ممن تحبّ أن يراها ويتملاّها. فالحبّ نظرة، ولغة العيون معطّلة في حالة الزوجة، فلِمْ لا تعيد إلى محجري زوجها لغة الضوء وأبجديّة النظر؟
ولعلّ من أغلى ما يملكه الإنسان هو العيون. إنسان غال جدّا على قلوبنا نقول له " يا عيوني" أو "يا نور عيني" حتى وإن كنا نقولها أحيانا بحكم مألوف الكلام من غير تقصّد لمحتواها المضيء. ولكنّ المرأة تحبّ زوجها، وتريد أن يقضي ما تبقّى له من عمر وهو يرى الحياة بالألوان ولو بعين واحدة، فالعور أفضل من العمى. ليس سهلا أن يتبرّع إنسان بعد موته بعين من عينيه أو أن يتقبّل أهل فقيد قلع عين ميتهم العزيز لتصير قطعة غيار(حتى ولو كان في ذلك إنقاذها من عذاب القبر). المشاعر، لا تحتمل ذلك، وكذلك الأديان أحيانا. لم تجد من يتبرع له بعين فما كان منها إلا أن اقترحت التبرع له بعين من عينيها. أليس هو شريك حياتها؟ فلم لا تقاسمه النظر؟ وبالفعل أقنعته بأن يأخذ عيناً من عينيها. وكلمة طه حسين المجازية لم تعد مجازاً في حياة الزوج الأعمى إذ صار يرى العالم فعلاً بعين زوجته، وصار يرى زوجته بعينها لا بعينه. ولكن الزوج فيما يبدو لم يرضَ، بعد أن استعاد نصف النظر، عن حال امرأته. لم تعجبه طلّتها العوراء فضربت "عينه" على امرأة أخرى، وتزوجها، مغمضاً عينه عن أحزان الأولى التي لم "ير" فيها ما يغري، لم "يرَ" الأعمى سابقاً ما قدّمته زوجته له من تضحيات عينيّة. وهكذا كانت عين المرأة عدوّتها التي حرمتها من زوجها ومن عينها.
مؤلم حقّاً أنْ يحبّ رجل على امرأته، في الأوقات العاديّة، فما بالك حين يحبّ أعمى بعين استعارها من امرأته واحدة أخرى؟ بعض من سمع الحكاية فتح عينيه على الأخير، وبعد هنيهة من الشرود، قال: "العمى بعينو شو لئيم!"، والبعض قال إنّه أعمى حتى ولو امتلك عيني زرقاء اليمامة، ومنهم من لعن الزوجة الثانية التي رضيت أنْ تتزوّجه وهي تعلم قصّة عينه المبصرة. لعلّ البعض يدرج هذه الحكاية في باب " طرائف العُميان" من غير أن ينسى مثلاً تردّده النساء على مسامع النساء من باب الحيطة وأخذ الحذر، قبل فوات النظر، وهو" يا مْأَمْني للرجّال... متل الميّ بالغربال".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق