الأربعاء، 7 يوليو 2010

مآكل عاطفيّة



كتبها بلال عبد الهادي

يعتبر كتاب بوريس سيرولنيك " الأغذية العاطفية", الصادر بالفرنسية عن دار "اوديل جاكوب" بمثابة دعوة إلى ولوج عالم الإنسان من البوابة العاطفية. فالكاتب يشير إلى ان كثيرا من الأمراض والعيوب التي تخترق حياة الانسان إنما يكون مصدرها, في الأصل, وليد علاقة سيئة مع عواطفنا, أو نتيجة عدم فهم لها أو بسبب حسبانها من الأمور الفطرية, الطبيعية, التي نتركها تنمو على فطريتها المزعومة أو طبيعتها المتخيلة. علما ان كثيرا من العواطف هي تكوين ثقافي، مع ما يعني ذلك من إدراج مفهوم النسبية في دراستها, لأن اعتبارها مسألة بيولوجية يحدث أحيانا تعقيدات وتفسيرات خاطئة وأزمات بين الحضارات.
يمتاز مؤلف الكتاب بتعدد المواهب والتخصصات, وهذا ما أدّى به إلى فتح قنوات اتصال بين مجموعة من العلوم الإنسانية والعلوم المحض كالانتروبولوجيا وعلم الأعصاب والبيولوجيا والتحليل النفسي وعلم الكائنات الحيّة. وهي قنوات تثري معالجته للقضايا المبثوثة في كتابه. فهو لا يحصر دراساته في الانسان وحده إذ انه من المهمومين بالكائنات الحية على شتى أشكالها, لما لها من تفاعلات فيما بينها, وإسقاط هذه التفاعلات من الحسبان خسارة يدفع ثمنها الإنسان. إلا انه يعترف ان إدخال الكائنات الحيّة في صلب دراسته انّما هو محاولة لفهم أعمق للإنسان. فكثيرون يفصلون فصلا حادّا بين الانسان والحيوان باعتبار ان الانسان كائن , مختلف, لا مثيل له. إلا ان الكاتب يظهر ان تجليات العواطف عند الانسان وعند الحيوان على السواء تتلاقى في أماكن كثيرة, وتساعد على تبيان الفطري من الطبيعيّ.
ومن الطريف ان يفتتح كتابه العلمي بامتياز عن دراسة مقارنة بين الكلب البرّي والأليف. فهو يلحظ ان هذا الأخير, يختلف في سلوكه عن البرّي من حيث العواء، ويقول ان الثقافة الغربية اثرت وغيّرت من نفسيّة الكلب. فالكلب الأليف اشدّ عواء من الكلب البرّي، لأنّ الثاني يعتمد في حياته على الصيد, أي على الصمت, فالصيادون يمارسون الصمت. ويقول الكاتب ان الكلاب لا تظهر إمكانياتها البيولوجية بنفس الطريقة، إذ انها تعدل من هذه الإمكانيات بحسب المكان الذي تنشأ فيه.
قد يطوي قارىء كتاب بوريس سيرولنيك الكتاب حين تقفز أمام عينيه من السطور الأولى هذه الكلمات عن الكلاب, إلا ان سيرة الكاتب العلمية, وغناه المعرفي في ميادين مختلفة وشهرته العالمية تردع القارىء فيما أظن عن القيام بطيّ الكتاب لما في ذلك من خسارة وفقدان للذائذ معرفية كثيرة منثورة على امتداد صفحاته.
يتوقف الكاتب طويلا عند الدور المناط بالملاحظة، والتي تولد متعة فيزيائية كما يقول, ثم يشير إلى مسار الملاحظة في الغرب. فيلفت النظر إلى ان بعض الناس سجنوا في القرن السابع عشر لأنهم مارسوا متعة الملاحظة. وذلك بسبب طبيعتها وقدرتها على زعزعة الإيمان بالموروث وبعض اليقينيات والتصوّرات. ويقول سيرولنيك ان عدم استخدام الملاحظة يدفع بالإنسان إلى إنتاج الأساطير, القائمة على تفاسير مغلوطة أو مغايرة كما حدث ويحدث في بعض الأحيان من إحالة بعض الأمراض إلى أسباب غيبية أو وهمية. إلا ان للملاحظة أسسا ومنطلقات لا بدّ من الاعتماد عليها. إذ لا يكفي ان ترى لتلحظ. ويتوقف الكاتب عند دلالة الملاحظة, لان الإنسان يقع أحيانا في فخها فلا يستخدم منها إلا ما يثيره أو يفتنه, أي ليس اخطر على الملاحظة من ان تكون مغلولة بذاتيات أو أفكار مسبقة. بمعنى ان ثمة ملاحظة موضوعية وأخرى بنت الرغبات، فتلك القائمة على الرغبات تغيّب أحيانا ما لا تريد أن تراه. لان الحواسّ, كلّها, خدّاعة. وما أكثر الأوقات التي يقع فيها الإنسان ضحية لحواسّه. ويتوقف الكاتب عند كليرانبو وهو أستاذ عالم النفس الشهير لاكان, ليظهر إلى أي حدّ يمكن للملاحظة ان تكون سجنا لمن يمارسها, إذا كانت منطلقاته ذاتية. يقول الكاتب ان كليرانبو كان من أمهر المتخصصين بما يعرف بـ"الفيتيشية" وهي ذلك الهوس المرضي الذي يدفع الإنسان إلى التعلق بجزء من الجسد, أو يرتبط بعلاقة مرضية بشيء من الأشياء. أنهى هذا العالم الكبير حياته بالانتحار، وتبين بعد موته, ان المرض الذي كرّس حياته كلها لدراسته إنما هو المرض الذي كان يعاني منه اشقّ المعاناة, إذ كان بيته مليئا, بكل أنواع القماش. كان مفتونا بالقماش, وكان بيته بالإضافة إلى القماش مملوءا بصنوف الصور ذات الصلة بالمنسوجات.أي أن اهتمام "كليرانبو" وملاحظاته لم تكن إلا وليد حالة نفسية معينة قضى عمره في دراستها ولكنها قضت عليه, بشكل من الأشكال, بسبب فرط سطوتها عليه. انه اختنق بما كان يمثل شاغل عمره على المستوى الحياتي والعلميّ.ان الإنسان لا يرى الأمور إلا من منظور خاصّ به أحيانا, أي ان ما يراه ليس بالضرورة ان يكون ممتّعا بالدقة أو الصواب, إذ قد يكون وليد مشكلة ما. حتى الزمن أيضا,ليس هو واحدا عند كل الناس ولا في كلّ الحضارات. فثمة بعض الأشخاص الذين يصاب طرف القسم الجبهي من دماغهم بعطب ما, فتنتج عن ذلك علاقة فريدة من نوعها مع الزمن. يتحول الزمن في حياتهم إلى زمن بلا آفاق, وبلا مطلّ على المستقبل. يتحول الزمن عندهم إلى سلسلة متعاقبة من الحاضر, مما يفقدهم القدرة على استباق الزمن, ويفقدهم في الوقت نفسه الإحساس بالخطر أو القلق. أي ان هذا العطب يمنح المصاب به أمانا حتى في عزّ الخطر مع ما ينجم عن ذلك من احتمالات السقوط في أي لحظة.
ويقول الكاتب بخصوص الملاحظة ان نمط الحياة هو الذي يحدد كيفية علاقته مع الملاحظة، ويشير إلى ان المضطهدين هم اقدر من غيرهم على الملاحظة, من هنا, فانّ الأطفال والنساء والعبيد والغرباء يمتازون من غيرهم بهذه القدرة.
ويعترف الكاتب ان مفردة الشعور هي من المفردات التي تعيش على هامش اهتمامات أصحاب القرار, لأنها ليست من الكلمات صاحبة المردود العالي في زمن التكنولوجيا. إلا انه يعتبر ان الإهمال لهذا الجانب الحيوي من الإنسان بمثابة خطيئة نعيش تحت وطأتها دون ان نحسّ.
ويتوقف الكاتب عند حادثة معبرة وطريفة وهي قراءة قصيدة من قصائد بودلير لكلبه. ثم ملاحظة رد فعل كلبه. ويقول ان الكلب كان ينظر بمحبة ووداعة نحوه وهو يتلو له القصيدة. و كان يهز ذيله فرحا. ثم استبدل القصيدة بنصّ من كتاب عن علم النفس لـ"لاكان", فلاحظ الكاتب ان الكلب أبدى ردّ الفعل نفسه الذي أبداه تجاه قصيدة بودلير, ويعلق الكاتب على هذه الحادثة بالقول ان الكلب لا يهمه ما يسمع, فالكلمات, إلى أي حقل لغوي انتمت هي, بالنسبة لأذنيه, واحدة. ان ما يثيره وما يحفزه على الاستماع هو اهتمام صاحبه به. ان الكلمات ليست أكثر من وسيلة هنا, لتمتين علاقة شعورية, بين الكلب وصاحبه.
ثم يستعرض سيرولنيك دور الحواس, ولا سيما حاسّة الشمّ, في تشكيل العالم الشعوري للإنسان. ويتوقف عند كلام سيّدة فقدت زوجها إلا ان حضوره ظل ثابتا, وطاغيا من خلال ملابسه المحتفظة برائحة عرقه أي رائحة حضوره. ان الرائحة تعزز الذكريات, وكم من إنسان احتفظ ببقايا لباس فقيد غال, ليكون شمّها بمثابة استرجاع للغائب, واستحضار لشخصه.
وفي فصل طريف عن الأجنة والأطفال في أيامهم الأولى. يقول الكاتب ان حاسة الشم هي الاقوي عند الرضّع. ومن خلال التجربة والملاحظة نرى ان رضيعا غارقا في البكاء قد يتوقف عن البكاء بمجرد إحضار قطعة من ملابس أمه وتقريبها من أنفه, فتكون رائحتها بمثابة حضور فعلي لها. بل ان الجنين نفسه يتأثر بالروائح أيضا, ويقيم علاقة معها لا تخلو من طرافة. ويقول الكاتب ان للأجنة ردود أفعال سلوكية, من خلال حركات الأيدي والأقدام, وهم في الأرحام. فثمة روائح تشمها الأم تكون مريحة للطفل, ويتبدى ذلك من حركات الجنين, حيث أصبح بمقدور التطور العلمي والأجهزة المتطورة ان تصور لنا حركات الجنين ودقات قلبه. ويقول الكاتب ان جزءا من تغير سلوك الجنين في المستشفى هو انه يخرج إلى عالم آخر, عالم لا يربطه به رابط, ان المستشفى عالم غريب بالنسبة للجنين, عالم بلا روائح, بخلاف المنزل الذي اعتاد إلى روائحه من خلال أنف أمّه. ويقول الكاتب ان الجنين لا يعيش معزولا عن البيئة التي يعيش فيها, أي جوّ البيت بأصواته وروائحه.
وفي فصل عن انتماء الطفل يتوقف الكاتب عند الحقول الدلالية التي تخصّ العائلة أو مفهوم القرابة. فيقول المؤلف, اعتمادا على دراسات انتروبولوجية, ان الانتماء العائلي مسألة ثقافية لا بيولوجية. ويقول الكاتب ان رحلة بالطائرة لا تستغرق إلا بضع ساعات كفيلة بزعزعة مفهوم الانسان للعائلة. ففي بعض الأماكن لا ينسب الولد إلى أبيه وإنما إلى خاله.كما عند الهنود الحمر من قبيلة "الهايدا" في أميركا الشمالية. أو في غانا أو في ساحل العاج. وفي ثقافات أخرى ينسب الولد لأبيه وليس لأمّه. من هنا , تختلف التسميات من حضارة إلى أخرى, بناء على منطلقات مفهوم القرابة. ويلحظ المؤلف ان بعض الحضارات تقسم انتماء الطفل, بشكل لا يخلو من غرابة, نتيجة اعتقادات معينة, وأساطير تؤسس عليها مفاهيم الصلة مع الأطفال ففي نيجيريا عند قبيلة"ياكو" ينتمي عظم الطفل إلى الأب في حين ان لحم الطفل ينتمي إلى الأم. ويشير الكاتب إلى الخلافات الجوهرية من حيث البيئة, فثمة بيئة غنية وأخرى فقيرة, من حيث المشاعر. حيث يعتبر الكاتب ان الطفل في قبيلة "موسي" الإفريقية شديدة الغنى, حيث علاقة الطفل لا تنحصر في أب واحد وإنما في حوالي خمسين أبا. في حين ان البيئة الغربية تعتبر فقيرة, بل شديدة الفقر بحكم نمط الحياة ولا سيما في بعض العواصم الغربية كباريس مثلا, حيث يعيش أطفال كثيرون ببيئة لا تؤمن إلا حاضنا واحدا.
وفي الثقافات تتغير علاقات الناس مع بعضهم البعض.ففي قبيلة"بيغمي" تقع على عاتق الأب وليس الأم مهمة تنويم الأطفال. فتجد الأب وحوله أبناؤه الصبيان يتحلقون حوله ليتعلموا هذه المهمة.
كما يتوقف الكاتب عند الاهتمام بالأسماء. والعلاقة العاطفية التي تنشأ بين الإنسان واسمه.فالاسم ليس مجرد ألفاظ. انه نسب صوتي مشحون بالتاريخ.
من خلال دراسة أجراها سيرولنيك، حول أطفال يعيشون في عائلات ليست هي عائلاتهم البيولوجية, تبين ان هؤلاء يعانون صعوبات في فهمهم للزمن, فهو في نظرهم, مشوّش، والطفل الذي يعاني من ذلك لا يستطيع ان يبني سرديا حياته بشكل متسلسل. وأصعب ما يواجه الأطفال الذين لا يعرفون أهلهم هو إحساسهم بفقدان مرجع فيزيائي ونفسي، فهويتهم غير مكتملة, وأشكالهم غير نهائية. أسئلة حادّة ومربكة ترافقهم على امتداد العمر, أسئلة تقض كيانهم قضّا, من نشبه؟ هل يشبه أنفي انف أمي أم انف أبي؟ ممن أخذت لون بشرتي؟ ممن استمد طولي؟...الخ. كلّها أشكال بلا مراجع. من هنا يقول الكاتب قد يكون من المستحيل أحيانا إيجاد أجوبة حاسمة للقطاء, إلا انه يجب ان تتوفر هذه الأجوبة للذين يعيشون حالة يتم عن طريق إبراز صور من فقدوا. لأنهم بهذا الأمر يرممون بعض ما تهدم من نفسياتهم جّراء هذا الفقد. ويحيلون أجسادهم ووجوههم إلى مرجع محدد حتى لا يقعوا في التصور الضبابي حول انتمائهم الجسدي, وهو تصور شديد الأذية على مسلكهم الحياتي.
ويشير الكاتب إلى القصص التي يكتبها الأطفال والى الدور الذي تلعبه في التعبير عن هواجسهم. وكيف أنها تكشف عما يعتمل في نفوسهم من رؤى وتخيلات. فالأولاد حين يكتبون القصص وهم أسوياء يروون قصصا عن اليتامى الذين يكافحون بمفردهم في حين ان الأطفال اللقطاء يكتبون في قصصهم حكايات تدور بأغلبها حول الكنز المفقود, وعن أمور لا تخلو من عالم السحر وكانهم بهذا يتوسلون الحصول على جذورهم الخفية.
ويظهر الكاتب القدرة التدميرية للعواطف الخاطئة, التي ينطبق عليها المثل العربي الشائع " ومن الحبّ ما قتل", أي عن العلاقات العاطفية غير السوية بين الأم وطفلها, أو بين الأب وابنته, ضمن فصل عن "إتيان المحارم", والشذوذ المدمّر في العلاقات العاطفية, والأسباب التي تدفع إلى ولادته.
ومن المواضيع التي يتناولها الكاتب بالتحليل, مقدرة العاطفة على تأجيل الموت. فهو بناء لدراسات إحصائية عن وفيات كبار السنّ, يلحظ تقلص نسبة الموت في فترات الأعياد ويحيل السبب إلى الدفء العائلي والعاطفي الذي يمدّ الأجساد المترهلة بقدرة على مقاومة الموت إلى حين انتهاء المناسبات السعيدة, كما يشير إلى ان نسبة الانتحار في الجزائر تخفّ كثيرا في شهر رمضان, لما يتضمنه هذا الشهر من طقوس عائلية حميمة, تشدّ من أزر الفرد, وتقضي على إحساسه بالعزلة أو اللانتماء, وعلى رغبته في وضع حدّ لحياته بسبب وهن عاطفيّ أو حاجة إلى لمسة حنان.
ان الكتاب غني بالتفاصيل الصغيرة العلمية الطريفة, وهو أشبه بسيرة ذاتية, بيولوجية, وانتروبولوجية, وايتولوجية, وثقافية لهذا " الغذاء العاطفي" الذي بدونه يظلّ المرء حبيس إحساس بالجوع النفسيّ الفتّاك.
والمقال منشور في جريدة الشرق الأوسك على هذا الرابط:




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق