في اليابان نمط من الحكايات طريف يعرف باسم "حكايات الزن"zen"، والزن نمط من أنماط العبادات عن طريق الحكايات. ولرولان بارت الناقد الفرنسي الشهير عبارة يقول فيها: ان حبة فول الصويا كانت كفيلة أن تفرج لمن يتأملّها عن العالم كلّه. ان يقعد رجل الزن وفي مخيلته حكاية يروح يتدبر دلالاتها ويفك رموزها ويقشرها قشرة قشرة ، أو حرفاً حرفاً وصولاً إلى اللبّ ويغوص في أعماقها وصولا إلى حالة من النشوة الصوفية، وبين رجالات الزن واهل التصوف اكثر من وجه شبه روحي! وهل كتاب "منطق الطير" لفريد الدين العطار غير حكايات تدفع بالمرء إلى مطارح قد لا يتخيّل المرء الوصول إليها إلا على جناح حكاية. ومن هذه الحكايات واحدة بعنوان "الرأس والذنب" ، ولا ريب في ان كلمة الذنب هنا تحيل ظاهريا إلى كائن غير بشري، إلا في عالم الخرافات حيث تنبت لبعض الناس أذناب كضرب من العقاب، ولا تخلو حكايات العالم من أناس بأذناب. ومن الطريف في العربية هذه الشبه الصوتي بين الذنْب والذنَب. أن الذنب في الحكاية اليابانية هنا يحيل الى ذنب الحية. الحكاية تحكي عن معركة دارت رحاها بين راس الحية وذنبها. وفي مستعمل العبارات العامية والمألوفة في بلادنا عبارات كثيرة تشير إلى معارك يخوضها المرء ضد نفسه سلباً أو إيجاباً، ومن هذه العبارات" عم يتخانق مع حالو"، أو "مانو ضايق حالو"، وكثيرون يتخاصمون مع أنفسهم، ولعلّ الانتحار هو ذروة الصراع مع الذات. ولكن أن تصل الحال ببعض الناس أن يغاروا من أنفسهم، فهذا شيء مستبعد التصور وان كان ممكن الحصول، ففي طيات العالم حكايات كثيرة من صلب الواقع وإن ظن سامعها أنها لم تنبت إلا من ذهن غارق في السوريالية حتى العظم.
تخيل مثلا ان العين اليسرى تغار من العين اليمنى فتتمنى لها الانطفاء، او ان القدم المحتقرة في التعابير الشائعة، ففلان إن أراد تحقيرغيرة او الاستهانة به وتحقير شأنهيقول :" متل إجري" وليس "متل إيدي" أو عيني" فالعين غالية ومكرمة والقدم رخيصة ومحتقرة،، الخ.ويمكن للقارىء ان يستولد من هذا المثل آلاف الأمثال، وان يقيس عليه ما لا ينفد من إمكانات مثلية، فماذا لو ان القدم تمردت على واقعها المرّ وقررت الانتفاضة في وجه اليد، وطالبت بان تقوم مقامها، وتدير شؤون الحياة اليدوية سعيا إلى استحصال تعبير" الأشغال القدمية" ودفن التعبير الشائع "الاشغال اليدوية"؟
هذا حال الحية، لم يتحمل الذنب أن يكون ذنبا، وقرر ان يتمرد على مصيره الذنبيّ، رفض أن يكون تابعا غير متبوع، فراح يضع العراقيل في وجه الحية،وينغص عيشها، وحين تزحف بجوار جذع شجرة يلتف الذنب بكل ما اوتيه من حقد وغيرة حول الجذع ويرفض أن يساير الحية، تحول الى ما يشبه الرسن الكابح لحرية الحية، لقد سبب نزق الذني للحية وجع رأس لا يطاق، ولم تكن الحية عنيدة، وانما مسالمة وطيبة القلب بخلاف المأثور عن خبث الحيّات .انا لا احتمل هذه العيشة، قال الذنب، نسي ان الحية تموت من رأسها وليس من ذنبها، وبينما كان ملتفا على جذع الشجرة، ومجمدا حركة الرأس أثارت طريدة لمحتها الحية لعابها ، وقررت الانقضاض عليها إلا ان الذنب رفض رفضا قاطعا التنازل عن طلبه، ركب رأسه كما يقال، فضل أن يموت جوعاً ولا يترك لراس الحية فرصة نيل فريستها. لم يعد رأس الحية يحتمل. الجوع كافر ويشلّ التفكير أحيانا، فما كان من الحية الا ان أذعنت لرغبة الذنب وسلمته زمام أمرها. ان الله لم يضع عيني الحية في ذنبها، ولعلّ غيرة الذنب اعمته عن هذه البديهة، وتقدم الذنب مزهوا ومتخايلا، لانتصاره في لحظة ضعف الرأس، ولكنه زحف مترنحا كالسكران. وذهب باتجاه الطريدة وفي نيته أن يلتف حولها لعصر روحها وإظهار مقدرته على القيام بدور القيادة. لم ينتبه الذنب وهو في مسيره صوب الريدة ة الى الثقب العميق على سطح الأرض فسقط إلى القاع، لم يستطع الرأس ان ينقذ نفسه، جره الذنب معه الى اسفل سافلين، ولفظ الرأس أنفاسه من قبل ان يتمكن حتى من القاء اللوم على الذنب الذي قرر ان يكون رأسا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق