ليس من السهل أنْ يعدّ المرء عدد الشعرات التي دخلت التاريخ، ولا يمكن له أن يضع بداية لأوّل شعرة فازت بدور ما في تغيير مصائر بشرية. شعرة معاوية التي تحوّلت استراتيجية سياسية وحنكة براغماتية في التعامل مع الأخصام والأصحاب على السواء ليست بالتأكيد فاتحة الشعرات. ولنا في تاريخ الشرق حكاية ممتعة وردت في التوراة عن شمشون الجبّار الذي كانت نقطة ضعفه أو مقرّ قوته، لا فرق، في شعر رأسه الكثّ والطويل. كانت قوّته في شعره بمعنى أنّ قوّته كانت قابلة لأن تقصّ في أية لحظة، وهذا ما قامت بفعله دليلةُ بحسب الحكاية التوراتية، بعد أن كشف لها شمشون سرّ قوته قائلاً: " إنْ حُلق رأسي فارقتني قوّتي وضعفتُ وصرتُ كواحد من الناس" (سفر القضاة 16: 17).
علاقة الشعر بالقوّة ليست بنت تاريخ منطقة جغرافية واحدة، بل هي ارتقت إلى مثابة رمز دوليّ لدى شعوب كثيرة قديمة، ومن الطريف قراءة ما كتب في الخرافات والأساطير حول الشعر منها ارتباط الشّعر بالنسيان ( والنسيان ضعف) بحسب إحدى الخرافات الروسية التي تقول إنّ الطالبات الروسيّات لا يسرّحن شعرهن عشية الامتحانات لئلاّ يتعرّضن لنسيان كلّ ما تعلّمْنه. واعتبار الشعر تذكاراً نراه لدى بعض الأمهات اللواتي يحتفظن بخصلة من أول قصة لأبنائهنّ، (وهو ما كان يسمّى في الجاهلية بالـ"عَقيقة")، وفي بعض صالونات الحلاقة للأطفال، لا يكتفي الحلاّق بقصّ الشعر، وإنما يقوم بطبع إطارات مزخرفة يكتب عليها تاريخ القصة الأولى ويضع الخصلة/ التذكار في غلاف من النايلون، ويقدمها للأهل. وفي فيتنام، مثلاً، لا ترمى الشعرات التي تتساقط من الرأس وقت التمشيط، وإنما تخبأ أو تدفن في مكان سرّي مخافة أن تقع في يد عدوّ، فيقوم عن طريق شعائر السحر بامتلاك صاحب الشعر. وكان جزّ الشعر أو النواصي من العقوبات التي تقع على رؤوس الآبقين أو المتمردين، كما كان حلق الشعر في الصين القديمة يعتبر بمثابة خصاء مجازي، فما دام الشعر رمز القوة والفحولة كان جزّه شبيهاً بالإخصاء.
وليس شعر الإنسان هو الذي دخل وحده التاريخ فثمة شعر حيواني أيضاً، واكتفي بذكر مقطع من مثل عاميّ شائع في الأقوال الطرابلسيّة ولا علاقة له بالقوّة، وهو:" شعرة من(...) الخنزير بركة"، كما أدرجت عبارة "على شعرة" في أقاويل كثيرة، ومن الأمثال العاميّة الطريفة واحد عن شعر اللحية المشكوك في نسبها:" شعرة من هون وشعرة من هون بيعملوا دقن!".
ولكن هنا سأتوقف عند شعرة واحدة من شعرات رأس العميل السرّي جيمس بوند الذي أدّى شخصيته الممّثل البارع شين كونري، تسلّط عدسة الكاميرا على شعرة من رأس جيمس بوند، وهي شعرة تلعب دور البطولة في لحظة معينة من الفيلم. وهي، أي الشعرة، في المشهد أشبه ما تكون بشفرة حادّة يقطع بها جيمس بوند الشكّ المربك باليقين المبين. أعجبني في الفيلم دور الشعرة التي لا حول لها ولا قوة في تغيير سلوك جيمس بوند نفسه، وفي تغيير مسار الفيلم وأحداثه أيضاً. كان لدى جيمس بوند شعور بأنه ملاحق ومطارد يتهدّده القتل، ولكن لم يكن يملك أيّ دليل قطعيّ على إحساسه المبهم هذا، وكان يقيم في فندق، شكّ في أن يكون أحد الأشخاص يدخل إلى غرفته أثناء غيابه لتصوير المعلومات ( وتصوير المعلومة أكثر مكراً من سرقتها لأنها لا تترك وراءها حضوراً ماديّاً أو اختفاء ماديّاً)، ولكن المتجسس كان شديد المهارة بحيث انه يفعل ما يريد ثم ينسحب "كالشعرة من العجين"، وهذا من أصول فنّ التجسس الذي يتماهى مع الحرباء بحيث إنّه من الممكن جدّاً أن يكون المتجسّس في متناول النظر وهو متوار تماماً عن النظر. ما الحلّ الذي سيعتمده جيمس بوند لإزاحة بلباله وإراحة باله؟
لم يجد جيمس بوند الضليع في إيجاد الحلول المبتكرة خيراً من شعرة تسعفه في تأكيد حدسه أو دحضه، شعرة واحدة كانت كفيلة بمحو ضباب الظنّ، إذ نزع شعرة من رأسه وألصقها بين دُرْجين من أدراج المنضدة الملاصقة لسريره لاستدراج الجواب إلى عقر غرفته، وغادر المكان، اعتمد على الشعرة في تسجيل شكوكه، إنّ هشاشتها وخفاءها كفيلان بحمايتها من عين الداخل الحذرة إلى الغرفة، وحين عاد جيمس بوند إلى الفندق، كان أوّل عمل يقوم به هو الدنوّ من الدُرْجين والبحث عن الشعرة لإخباره بأحداث غيابه، لم يجد الشعرة في موضعها، لم يلحظ المتجسّس أنّ الشعرة كانت تتجسّس عليه وترصد حركات أصابعه، حضورها الخفيّ جدّاً عن الأنظار كان فخّاً سقط فيه المتجسّس، كما أنّ غيابها أيضاً كان برهاناً على أنّ أدراج الطاولة قد فتحت في غيابه.
أحياناً كثيرة تكون مصائر ناس معلقّة "على شعرة" واحدة، ولكنّهم لا ينتبهون إلى أن هذه الشعرة يمكن لها أنْ تكون سلاحاً أمضى وأدهى من شعرة معاوية التي تبرع في فنّ الكرّ والفرّ.
علاقة الشعر بالقوّة ليست بنت تاريخ منطقة جغرافية واحدة، بل هي ارتقت إلى مثابة رمز دوليّ لدى شعوب كثيرة قديمة، ومن الطريف قراءة ما كتب في الخرافات والأساطير حول الشعر منها ارتباط الشّعر بالنسيان ( والنسيان ضعف) بحسب إحدى الخرافات الروسية التي تقول إنّ الطالبات الروسيّات لا يسرّحن شعرهن عشية الامتحانات لئلاّ يتعرّضن لنسيان كلّ ما تعلّمْنه. واعتبار الشعر تذكاراً نراه لدى بعض الأمهات اللواتي يحتفظن بخصلة من أول قصة لأبنائهنّ، (وهو ما كان يسمّى في الجاهلية بالـ"عَقيقة")، وفي بعض صالونات الحلاقة للأطفال، لا يكتفي الحلاّق بقصّ الشعر، وإنما يقوم بطبع إطارات مزخرفة يكتب عليها تاريخ القصة الأولى ويضع الخصلة/ التذكار في غلاف من النايلون، ويقدمها للأهل. وفي فيتنام، مثلاً، لا ترمى الشعرات التي تتساقط من الرأس وقت التمشيط، وإنما تخبأ أو تدفن في مكان سرّي مخافة أن تقع في يد عدوّ، فيقوم عن طريق شعائر السحر بامتلاك صاحب الشعر. وكان جزّ الشعر أو النواصي من العقوبات التي تقع على رؤوس الآبقين أو المتمردين، كما كان حلق الشعر في الصين القديمة يعتبر بمثابة خصاء مجازي، فما دام الشعر رمز القوة والفحولة كان جزّه شبيهاً بالإخصاء.
وليس شعر الإنسان هو الذي دخل وحده التاريخ فثمة شعر حيواني أيضاً، واكتفي بذكر مقطع من مثل عاميّ شائع في الأقوال الطرابلسيّة ولا علاقة له بالقوّة، وهو:" شعرة من(...) الخنزير بركة"، كما أدرجت عبارة "على شعرة" في أقاويل كثيرة، ومن الأمثال العاميّة الطريفة واحد عن شعر اللحية المشكوك في نسبها:" شعرة من هون وشعرة من هون بيعملوا دقن!".
ولكن هنا سأتوقف عند شعرة واحدة من شعرات رأس العميل السرّي جيمس بوند الذي أدّى شخصيته الممّثل البارع شين كونري، تسلّط عدسة الكاميرا على شعرة من رأس جيمس بوند، وهي شعرة تلعب دور البطولة في لحظة معينة من الفيلم. وهي، أي الشعرة، في المشهد أشبه ما تكون بشفرة حادّة يقطع بها جيمس بوند الشكّ المربك باليقين المبين. أعجبني في الفيلم دور الشعرة التي لا حول لها ولا قوة في تغيير سلوك جيمس بوند نفسه، وفي تغيير مسار الفيلم وأحداثه أيضاً. كان لدى جيمس بوند شعور بأنه ملاحق ومطارد يتهدّده القتل، ولكن لم يكن يملك أيّ دليل قطعيّ على إحساسه المبهم هذا، وكان يقيم في فندق، شكّ في أن يكون أحد الأشخاص يدخل إلى غرفته أثناء غيابه لتصوير المعلومات ( وتصوير المعلومة أكثر مكراً من سرقتها لأنها لا تترك وراءها حضوراً ماديّاً أو اختفاء ماديّاً)، ولكن المتجسس كان شديد المهارة بحيث انه يفعل ما يريد ثم ينسحب "كالشعرة من العجين"، وهذا من أصول فنّ التجسس الذي يتماهى مع الحرباء بحيث إنّه من الممكن جدّاً أن يكون المتجسّس في متناول النظر وهو متوار تماماً عن النظر. ما الحلّ الذي سيعتمده جيمس بوند لإزاحة بلباله وإراحة باله؟
لم يجد جيمس بوند الضليع في إيجاد الحلول المبتكرة خيراً من شعرة تسعفه في تأكيد حدسه أو دحضه، شعرة واحدة كانت كفيلة بمحو ضباب الظنّ، إذ نزع شعرة من رأسه وألصقها بين دُرْجين من أدراج المنضدة الملاصقة لسريره لاستدراج الجواب إلى عقر غرفته، وغادر المكان، اعتمد على الشعرة في تسجيل شكوكه، إنّ هشاشتها وخفاءها كفيلان بحمايتها من عين الداخل الحذرة إلى الغرفة، وحين عاد جيمس بوند إلى الفندق، كان أوّل عمل يقوم به هو الدنوّ من الدُرْجين والبحث عن الشعرة لإخباره بأحداث غيابه، لم يجد الشعرة في موضعها، لم يلحظ المتجسّس أنّ الشعرة كانت تتجسّس عليه وترصد حركات أصابعه، حضورها الخفيّ جدّاً عن الأنظار كان فخّاً سقط فيه المتجسّس، كما أنّ غيابها أيضاً كان برهاناً على أنّ أدراج الطاولة قد فتحت في غيابه.
أحياناً كثيرة تكون مصائر ناس معلقّة "على شعرة" واحدة، ولكنّهم لا ينتبهون إلى أن هذه الشعرة يمكن لها أنْ تكون سلاحاً أمضى وأدهى من شعرة معاوية التي تبرع في فنّ الكرّ والفرّ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق