هل من سبيل لمنع تحويل الاختلافات بين الرجل والمرأة إلى خلافات؟ وهل من الممكن استثمار هذه الاختلافات في بناء علاقات رائعة بين المرأة والرجل بدلاً من أن تكون عائقاً أو جداراً عازلاً بين الاثنين؟ هذا ما يطرحه كتاب "سابرا بروك وجوزيف دولي" الموسوم "لماذا الرجال ينظرون إلى الشمال والنساء يلتفتن إلى اليمين؟" الصادر حديثاً عن دار "سيتي إديسيون" في فرنسا.
يقوم الكاتبان في قراءة ظاهرة الاختلاف على امتداد
300 صفحة، معتمدَيْن في ذلك على دراسات تاريخيّة وبيولوجيّة ودماغيّة، فضلاً عن
دراسات ميدانيّة، وكلّ ذلك بغرض واحد ومُعْلن وهو أنّ من الغباء تحويل الخلافات إلى
جحيم أو سوء فهم أو طلاق أو توتّر بدلاً من استثمارها في ما يغذّي الحياة
الإنسانيّة نفسها.
العصر الحالي مليء بالتغيّرات، ولعلّ التغيّر هو
العنصر الوحيد الثابت، تغيّرات بسرعة الضوء على صعيد العلوم والطبّ والتكنولوجيا،
تغيّرات تفرض على الإنسان أن يتبنّى قواعد جديدة، وأساليب نظر مبتكرة.وهنا يشير
الكاتبان إلى ضرورة إلقاء نظرة جديدة على إدارة الاختلافات بين الذكر والأنثى.
فالاختلافات اليوم يعود بعضها إلى أسباب تاريخيّة، أي أنّ بعضها مكتسب لا علاقة
للبيولوجيا بشأنه، حيث الرجل كان صيّاداً، مما منحه، مع تقادم الوقت، القدرة على
الفعل السريع، لأنّ على الصيد كانت تتوقّف مسألة الحياة والموت، أمّا المرأة، في
ذلك الزمن، فكانت تبقى في المنزل، ترعى النار بعناية شديدة لأنّ انطفاءها كان،
ربّما، أشدّ ضرراً من انقطاع الكهرباء في العصر الراهن، كما كان عليها الاهتمام
بشؤون الأسرة ورعاية الأطفال. أمّا اليوم، ومع دخول التكنولوجيا بقضّها وقضيضها في
تفاصيل الحياة اليوميّة، لم يعد مفهوم الاستقرار هو نفسه ولا مفهوم توزيع الأدوار.
كلّ شيء، اليوم، متحرّك كالهاتف الجوّال، الثبات آخذٌ في التزعزع، بل أنّ العمل
نفسه اليوم شديد الهشاشة، مقارنة مع منتصف القرن الماضي، حيث كان إحساس الإنسان
أكثر ثباتاً، فأغلب العاملين كانوا راضين بعملهم الثابت في مؤسّسة ما، وهذا أمر لم
يعد قائماً، التكنولوجيا تحصد أعمال الناس، من هنا لا مفاجأة من أن يرى الإنسان
نفسه بين ليلة وضحاها عاطلاً عن العمل.ومن جملة التغيّرات الأساسيّة التي بدأت تطلّ
برأسها توزيع الأدوار بين المرأة والرجل, كان من النادر ،لسنوات خلت، أن ترى امرأة
تدير أو ترأس شركة، أمّا اليوم فلم يعد الأمر نادراً ولا غريباً. وهذا يفرض حكماً
بناء علاقة جديدة بين المرأة المديرة والرجل الموظّف تحت إمرة امرأة. أمور كثيرة
تغيّرت منها أنّ المرأة لم تعد "ستّ بيت"، وهذا يعني أنّ من يهتمّ بالأطفال هم
الآباء أحياناً وليس الأمّهات.
وكلّها تغيّرات عميقة الجذور والآثار، لن تترك
الحالات الاجتماعيّة على ما كانت عليه من قبل. الاستراتيجيّات أمام هذه التغيّرات
ليست واحدة، استراتيجيّة الرجل تختلف عن استراتيجية المرأة، إدارة التغيّرات تبنى
انطلاقاً من خلفيّات تكوينية وتاريخيّة مختلفة، من هنا أحياناً لا يستوعب الرجل
استراتيجيّات المرأة، يراها غريبة، نافرة. وكذلك الأمر بالنسبة للمرأة أيضاً،
وتعليقات كلّ طرف على استراتيجيّات الطرف الآخر ليست أكثر من تبلبل مردّه، في
الأساس، إلى عدم معرفة المنطلقات البيولوجيّة والتاريخيّة للآخر، وعليه فإنّ معرفة
هذه الخلفيّات، وهي المهمّة التي يخوض غمارها الصاخبة هذا الكتاب، كفيلةٌ بفهم
الاختلافات وتليين حدّة الخلافات.
ويرى الكاتبان أنّ الخلافات يمكن أنْ تدرس من خلال
خمسة أمور:خلق رؤية شخصيّة، تعديل وجهة النظر، تنمية المقاومة الشعورية أو
العاطفيّة، إظهار المرونة، تعزيز احترام الذات.وهذه الأمور يختلف التعامل معها، على
كلّ صُعُد الحياة، بين المرأة والرجل. وهنا يعمد الكاتبان إلى قراءة ردود أفعال كلّ
جنس. فيحكي عن حالة رجل وامرأة صُرفا من العمل فبحثا عن عمل جديد وحصلا عليه، ولكن
المرأة لم تعتمد الأسلوب نفسه الذي اعتمده الرجل. وفي فصل جذّاب يشير الكاتبان إلى
أسباب الخلاف بين الرجل والمرأة منها أنّ التربية تعزّز الاختلاف بين الصبيّ
والبنت. ولكنّهما يقولان أيضاً إنّ السبب ليس محصوراً بالتربية بقدر ما هو كامن في
تكوين الدماغ، فدماغ الرجل لا يعمل بالطريقة نفسها التي يعمل بها دماغ المرأة. وهذا
الخلاف في تركيبة الدماغ هو وراء كثير من مظاهر الاختلاف في التصرّف والرؤية وردود
الفعل, دون أن يكون للكلام عن الدماغ أيّ موقف عرقيّ، بل أنّ الكاتبَيْن يدعوان هنا
إلى استثمار هذه الاختلاف في البنية الدماغيّة لصالح الطرفين بدلاً من أن يكون مثار
نفار بينهما, وبمعنى آخر أنّ الدماغين متكاملان، وعدم التعاون هو خسارة للطرفين في
حين أنّ التعاون فيه منفعة حيويّة أكيدة شريطة أنْ يفهم كلّ طرف بنية الطرف الآخر
لسدّ النقص الذي فيه. فثمّة قنوات اتصال بين قسمي الدماغ عند الرجل والمرأة وهذه
القنوات هي أوفر عددا في دماغ المرأة مما هو عليه الحال في دماغ الرجل، ولهذا العدد
الزائد من قنوات الاتصال انعكاسات كثيرة على صعيد رؤية العالم نفسه والتعامل
معه.
وبفضل التصوير الحديث بالرنين المغناطيسيّ الذي
يرسم نشاط الدماغ وعمله إزاء الحوافز، تبيّن للعلماء خلافات على مستوى الوظائف
الدماغيّة. وهنا يقول الكاتبان إنّ الاختلاف في حجم الدماغ بين الرجل والمرأة لا
يعني على الإطلاق ميزة تفاضليّة، فعقل اينشتاين كان أصغر حجماً من معدّل حجم الدماغ
العاديّ بنسبة 10%، وفي هذا ما يدحض أيّ دور لحجم الدماغ على مستوى الإنجازات
الفكريّة. ومن الطريف مثلاً أنّ مواقع وظائف اللغة عند المرأة هي أكثر عدداً
ومنتشرة على طرفي الدماغ وليس في الشقّ الأيسر فقط كما هو الحال عند الرجل. ويستنتج
الكاتبان من ذلك أنّ الرجل حين يعمل، نادراً ما يستخدم الكلام، لأنّ القنوات التي
تصل بين منطقتي الفعل والكلام في دماغه ضئيلة بينما كثرة وجود هذه القنوات بين قسمي
الدماغ عند المرأة يجعلها تظهر رغبة في الكلام قبل وأثناء الفعل. وهذا التمايز
الأنثويّ هو ما يفسّر تعلّم البنات للكلام عادة قبل الصبيان، وهو ما يفسّر أيضاً
امتياز المرأة برهافة سمع أكثر من تلك التي يملكها الرجل.
وعلى مستوى إدراك المرئيّات والأحياز المكانيّة
يقول الكاتبان إنّ الرجل يستعمل الشقّ الأيمن من الدماغ بينما المرأة تستعمل
الشقّين معاً.كما أنّ الرجل يمتاز بقدرة على تصوّر الأماكن بشكل مجرّد أكثر من
المرأة. فالمرأة، على الصعيد الجغرافيّ، تحتاج لمعالم واضحة مألوفة، أمّا الرجل
فيتعامل مع الأبعاد المكانيّة بطريقة مجرّدة، كمفاهيم الشرق والغرب والشمال والجنوب
وقياس المسافات. وللمرأة بخلاف الرجل قدرة على التعبير عن مشاعرها أكثر من الرجل
لأنّ الأمور الشعوريّة يعالجها قسما الدماغ لديها وليس قسماً واحداً كما عند الرجل.
فردود الأفعال العاطفيّة عند الرجل محصورة في الشقّ الأيمن بينما عند المرأة نراها
موزّعة على شطري الدماغ.
وفي ما يخصّ المرونة في الإدارة يقول الكاتبان إنّ
المرأة أمهر من الرجل لأسباب تاريخيّة محض بسبب طبيعة حياتها، فالمرأة كانت تحتاج
لممارسة الصبر والتركيز على أكثر من أمر في وقت واحد، فهي كانت مضطرّة لتنشيط
أحاسيسها بشكل أكثف لرعاية الأطفال واللجوء إلى الكلام أكثر لأنّ الكلام بمثابة
سياج عاطفيّ يحمي المجموعة.
ويشير الكاتبان إلى أنّ كلامهما لو قيل في سنوات
سابقة لأثار لغطاً وردود فعل سلبيّة لأنّ تفسيره كان سينتج حكماً مختلفاً في فترة
احتدام الثورة النسائيّة التي رفضت وجود أيّ اختلاف تكوينيّ بين الطرفين، ولأنّ
الرجل كان سيحاول أنْ يستمدّ من هذا الخلاف مصادر قوة وإخضاع لها أمّا اليوم فالأمر
اختلف لأنّ التفسير نفسه اختلف.
يعرف الكاتبان أنّ التغيير ليس سهلاً وليس
مستحبّاً في كلّ حين عند كثير من الناس (وخصوصاً الرجال)لأنّ التغيير يعني هدم أمور
وبناء أمور أخرى, والإنسان بطبعه يركن إلى الكسل أو العادة التي تعطيه الأمان
والشعور بالاستقرار, ومن طريف الأمثال العربيّة التي تذهب هذا المذهب ذلك الذي
يقول:" من يغيّر عادته تقلّ سعادته". ويقول الكاتبان إنّ المرأة مطواعة أكثر من
الرجل للتغيير، وتمتاز بمرونة فائقة، وذلك لأنّها ليست واقعة تحت عبء الموروث
الذكوريّ، ممّا يجعل التغيير بالنسبة لها أكثر سهولة وأخفّ حملاً بل وأكثر متعة,
أمّا الرجل فإنّ عبء التاريخ يتحوّل إلى أغلال تتطلّب منه بذل جهد أكبر للتخلّص
منها. من هنا يشير الكاتبان من خلال إحصاءات دقيقة ودراسات ميدانيّة شيّقة في
مؤسّسات متعدّدة إلى أنّ المرأة ليست صلبة أمام الاقتراحات الجديدة.فالمؤلفان
يتكلّمان عن المحامية لوران العاملة في مكتب محاماة كبير اشترته شركة آسيوية,تلقّت
لوران الخبر بالفرح بينما المحامون الرجال كان ردّ فعلهم بارداً،لأنّهم كانوا
يخشَون من تغيير نظام العمل بينما هي وجدت في ذلك فرصة لتجريب نمط جديد في العمل،
بمعنى أنّ الفضّل يعود ،في كثير من التغيّرات في الحياة، إلى المرأة وليس إلى
الرجل.
والرجل كتوم أكثر من المرأة والسبب في ذلك أنّ
الكتمان هو ممارسة ذكوريّة بينما المرأة بحكم طبيعتها تفضّل دائماً أنْ تشرك غيرها
في اتخاذ القرار.ومن هنا منشأ الإشاعة التي تقول إنّ المرأة لا تقوى، من جهة، على
حمل الأسرار ، ولا تقدر ، من جهة أخرى،على اتخاذ القرار بسرعة.
ثمّة، في الكتاب، تفاصيل وقصص كثيرة لأشخاص
واقعيّين، من الجنسين، مستلّة من الحياة اليوميّة يقوم الكاتبان برصد طريقتهم في
العلاج للمشاكل والمتغيّرات والأزمات مسلّطَيْن الضوء بشكل خاصّ على بنية الحلول
التي يجدونها من منطلقات هذه الخلافات. ولا ريب في أنّ قراءة هذا الكتاب تفرج عن
إجابات طريفة لتساؤلات كثيرة نواجهها عادة بالحيرة والارتباك، وهي تساؤلات تُبلبل
أذهان الرجال والنِّساء على السَّواء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق