المشهد سوريالي في لبنان...
لم يكن من الصعب أن تصل إلى «مهرجانات بيت الدين» منذ أيام لحضور حفل النجم العالمي الأوبرالي خوان دييغو فلوريز، رغم أن بعض الطرقات كانت مغلقة في بيروت، بسبب احتجاج الأهالي على جبال النفايات التي تغرقهم، وحرقهم لبعضها وسط الطرقات. سائقو حافلات المهرجانات هم من المهارة بحيث يجدون دائمًا الطريق الذي يوصلك إلى البهجة، ولو كانت روائح الزبالة النفاذة التي تمر وسطها أشبه بالسم الزعاف، وأن تصل متأخرا ربع ساعة خير من ألا تصل أبدًا.
الذاهبون إلى مهرجانات بعلبك، في البقاع الحزين، الذي لا يزال يحتمل كوارث الحرب السورية، والمعارك المستمرة في جرود عرسال، هم بالآلاف، وحواجز الجيش والأمن التي تفتش وتعيد التفتيش تسعد ولا تزعج. فالوصول إلى القلعة الرومانية متعة بحد ذاته، وفيه لذة الإحساس بأن كل شيء على ما يرام، حتى وإن كنت تعرف أنك مزنر بالنار والدمار. ثمة عيون مراقبة في كل زاوية في بعلبك، يمكنك أن تلحظها، وتتأكد أي جهد يبذله الجيش اللبناني كي تبقى المعنويات أعلى بكثير مما يسمح به محيط بركاني مزلزل. أكثر من 45 نقطة أمنية زنرت المكان لتقيه شر المخربين. تفاهم صامت وبليغ، على التواطؤ الجماعي، من أجل بلورة صورة لوطن يتعالى على الجرح. بلد مسكون بكبرياء اللاخضوع لمنطق الهزيمة.
كلما ضاق الأفق وسّعه اللبنانيون بالابتكارات التي تمدّ الجسور صوب الحلم. ومن دون تلك الإرادة، ما كان للبنانيين أن يجتازوا محنهم التي يقارب عمرها وجودهم. لم يسبق للبنان أن شهد ما يزيد على 120 حفلاً فنيًا خلال صيف واحد، بينها أكثر من أربعين عالمي الطابع. 35 مهرجانًا عامرًا، على الأقل، لثلاثة ملايين ونصف المليون لبناني، وكلها تحجز بطاقاتها وتسوق. أي يكاد يكون لكل بلدة مهرجانها الذي يستقطب الآلاف، في وطن لا سياح فيه، وأبناؤه من المغتربين يتجنبون أحيانا زيارته. ومع ذلك لا مكان للإحباط ولا اليأس. هناك إصرار على الاستمرار.
لمن تقام كل هذه الاحتفاليات؟ وكيف لها أن تنمو على هذا النحو المثير، على وقع أخبار القتل الوحشي المتمادي، الذي يعرف الجميع أنه على مرمى حجر؟
ربما أن اللبنانيين يعشقون التحدي. لعل ظروف الحروب المديدة التي لازمت أجيالهم عمرًا بعد آخر، علمتهم أن الحياة والموت متلازمان ومتجاوران إلى حد الاندغام. الرعب من النيران السورية بدأ يتروّض، ضيق ذات اليد لا يبدو أنه بلغ حد فرملة الفرح، كل يجد ما يتناسب وما في جيبه.
لكل مهرجان نساؤه ورئيسته، ولجنته الناعمة التي تعرف كيف تحيك الصلات الوثيقة كخيوط العنكبوت لتبقى تتواصل بمحبة مع العالم. يأتي الفنانون رغم المخاطر، يتحدون تحذيرات دولهم، وبعضهم يعاود الاتصال يريد تكرار التجربة مرارًا. بات لهؤلاء النساء مصداقية، وصداقات، وكلمة تكسر الحظر المفروض على البلاد. في عزّ تفجيرات الانتحاريين، الذين زرعوا الموت حيث كانوا يشاءون، خلال السنوات الثلاث الماضية تمكنت نساء المهرجانات من إقناع عشرات الفنانين الكبار، بأن الإرهاب ليس حكرًا على لبنان وحده، وأن مرورهم من هنا إضافة لهم. حشود الجماهير المتجاوبة والمصرّة على البهجة، المدرجات الممتلئة، تجعل الإحساس بالأمن قدرًا لا خيارًا.
نورا جنبلاط في بيت الدين، تسجل هذا العام ثلاثين سنة من عمر تظاهرة ولدت في الأصل لمقاومة الحرب. مهرجان بعلبك يقترب من ستينه، ويحاول ألا يشيخ أبدًا، تنحّت جانبًا مؤسسته مي عريضة وخلفتها صاحبة العزيمة نايلة دوفريج، التي ترحل ببرنامجها السنوي، من مكان خطر إلى آخر أكثر أمنًا، كالأم التي تهرب بأطفالها، رافضة أي هدنة. نساء بيبلوس يكملن بزخم بعد 12 عامًا من النجاحات المتلاحقة، أخريات انضممن إليهن في إهدن وجونية وبلدات غيرها، يردن الالتحاق بالركب. لم تدّخر النساء جهدًا إلا وبذلنه. كلما ارتفعت صيحات القتل والتهديد وتعالت، بادلتها نساء مسكونات بالحيوية بصدحات مغني الأوبرا والجاز والروك والطرب الأصيل.
ليست البرامج المهرجانية هذا العام هي الأفضل ولا الأرفع مستوى، لكنها من بين الأكثر رمزية ودلالة. أن يجتمع لافتتاح بعلبك ما يزيد على 15 نجمًا لبنانيًا، يقفون جنبًا إلى جنب، من شعراء إلى موسيقيين وراقصين وملحنين ومؤدين، دون إحساس بالمزاحمة، لمجرد تأدية تحية فنية ممتعة، لهذا المكان الذي حرم مهرجانه سنتين بسبب الحروب، هو برهان على أن ما تحمله النفوس صاف بنقاء سماء مدينة الشمس في تلك الليلة المقمرة.
السوريالية مفيدة أحيانا، والعبثية قد تنتشل أصحابها من واقع صار عيشه محالاً والاستمرار فيه انتحارًا. بمقدور السياسيين اللبنانيين أن يستمروا في صفقاتهم واختلاساتهم ونزاعاتهم وتفقيرهم لشعب بات يمجّ خطاباتهم السمجة، لكن على المقلب الآخر ثمة من لا يريد أن يستسلم، هناك من يرفض القبح ويأنف من البشاعة، ويستنفر كل مخيلته لينفذ من الجحر، وينقذ نفسه من الظلمة، وهو يوسّع طاقات الأمل والرجاء.
تحية إكبار لنساء لبنان المقاومات...
لم يكن من الصعب أن تصل إلى «مهرجانات بيت الدين» منذ أيام لحضور حفل النجم العالمي الأوبرالي خوان دييغو فلوريز، رغم أن بعض الطرقات كانت مغلقة في بيروت، بسبب احتجاج الأهالي على جبال النفايات التي تغرقهم، وحرقهم لبعضها وسط الطرقات. سائقو حافلات المهرجانات هم من المهارة بحيث يجدون دائمًا الطريق الذي يوصلك إلى البهجة، ولو كانت روائح الزبالة النفاذة التي تمر وسطها أشبه بالسم الزعاف، وأن تصل متأخرا ربع ساعة خير من ألا تصل أبدًا.
الذاهبون إلى مهرجانات بعلبك، في البقاع الحزين، الذي لا يزال يحتمل كوارث الحرب السورية، والمعارك المستمرة في جرود عرسال، هم بالآلاف، وحواجز الجيش والأمن التي تفتش وتعيد التفتيش تسعد ولا تزعج. فالوصول إلى القلعة الرومانية متعة بحد ذاته، وفيه لذة الإحساس بأن كل شيء على ما يرام، حتى وإن كنت تعرف أنك مزنر بالنار والدمار. ثمة عيون مراقبة في كل زاوية في بعلبك، يمكنك أن تلحظها، وتتأكد أي جهد يبذله الجيش اللبناني كي تبقى المعنويات أعلى بكثير مما يسمح به محيط بركاني مزلزل. أكثر من 45 نقطة أمنية زنرت المكان لتقيه شر المخربين. تفاهم صامت وبليغ، على التواطؤ الجماعي، من أجل بلورة صورة لوطن يتعالى على الجرح. بلد مسكون بكبرياء اللاخضوع لمنطق الهزيمة.
كلما ضاق الأفق وسّعه اللبنانيون بالابتكارات التي تمدّ الجسور صوب الحلم. ومن دون تلك الإرادة، ما كان للبنانيين أن يجتازوا محنهم التي يقارب عمرها وجودهم. لم يسبق للبنان أن شهد ما يزيد على 120 حفلاً فنيًا خلال صيف واحد، بينها أكثر من أربعين عالمي الطابع. 35 مهرجانًا عامرًا، على الأقل، لثلاثة ملايين ونصف المليون لبناني، وكلها تحجز بطاقاتها وتسوق. أي يكاد يكون لكل بلدة مهرجانها الذي يستقطب الآلاف، في وطن لا سياح فيه، وأبناؤه من المغتربين يتجنبون أحيانا زيارته. ومع ذلك لا مكان للإحباط ولا اليأس. هناك إصرار على الاستمرار.
لمن تقام كل هذه الاحتفاليات؟ وكيف لها أن تنمو على هذا النحو المثير، على وقع أخبار القتل الوحشي المتمادي، الذي يعرف الجميع أنه على مرمى حجر؟
ربما أن اللبنانيين يعشقون التحدي. لعل ظروف الحروب المديدة التي لازمت أجيالهم عمرًا بعد آخر، علمتهم أن الحياة والموت متلازمان ومتجاوران إلى حد الاندغام. الرعب من النيران السورية بدأ يتروّض، ضيق ذات اليد لا يبدو أنه بلغ حد فرملة الفرح، كل يجد ما يتناسب وما في جيبه.
لكل مهرجان نساؤه ورئيسته، ولجنته الناعمة التي تعرف كيف تحيك الصلات الوثيقة كخيوط العنكبوت لتبقى تتواصل بمحبة مع العالم. يأتي الفنانون رغم المخاطر، يتحدون تحذيرات دولهم، وبعضهم يعاود الاتصال يريد تكرار التجربة مرارًا. بات لهؤلاء النساء مصداقية، وصداقات، وكلمة تكسر الحظر المفروض على البلاد. في عزّ تفجيرات الانتحاريين، الذين زرعوا الموت حيث كانوا يشاءون، خلال السنوات الثلاث الماضية تمكنت نساء المهرجانات من إقناع عشرات الفنانين الكبار، بأن الإرهاب ليس حكرًا على لبنان وحده، وأن مرورهم من هنا إضافة لهم. حشود الجماهير المتجاوبة والمصرّة على البهجة، المدرجات الممتلئة، تجعل الإحساس بالأمن قدرًا لا خيارًا.
نورا جنبلاط في بيت الدين، تسجل هذا العام ثلاثين سنة من عمر تظاهرة ولدت في الأصل لمقاومة الحرب. مهرجان بعلبك يقترب من ستينه، ويحاول ألا يشيخ أبدًا، تنحّت جانبًا مؤسسته مي عريضة وخلفتها صاحبة العزيمة نايلة دوفريج، التي ترحل ببرنامجها السنوي، من مكان خطر إلى آخر أكثر أمنًا، كالأم التي تهرب بأطفالها، رافضة أي هدنة. نساء بيبلوس يكملن بزخم بعد 12 عامًا من النجاحات المتلاحقة، أخريات انضممن إليهن في إهدن وجونية وبلدات غيرها، يردن الالتحاق بالركب. لم تدّخر النساء جهدًا إلا وبذلنه. كلما ارتفعت صيحات القتل والتهديد وتعالت، بادلتها نساء مسكونات بالحيوية بصدحات مغني الأوبرا والجاز والروك والطرب الأصيل.
ليست البرامج المهرجانية هذا العام هي الأفضل ولا الأرفع مستوى، لكنها من بين الأكثر رمزية ودلالة. أن يجتمع لافتتاح بعلبك ما يزيد على 15 نجمًا لبنانيًا، يقفون جنبًا إلى جنب، من شعراء إلى موسيقيين وراقصين وملحنين ومؤدين، دون إحساس بالمزاحمة، لمجرد تأدية تحية فنية ممتعة، لهذا المكان الذي حرم مهرجانه سنتين بسبب الحروب، هو برهان على أن ما تحمله النفوس صاف بنقاء سماء مدينة الشمس في تلك الليلة المقمرة.
السوريالية مفيدة أحيانا، والعبثية قد تنتشل أصحابها من واقع صار عيشه محالاً والاستمرار فيه انتحارًا. بمقدور السياسيين اللبنانيين أن يستمروا في صفقاتهم واختلاساتهم ونزاعاتهم وتفقيرهم لشعب بات يمجّ خطاباتهم السمجة، لكن على المقلب الآخر ثمة من لا يريد أن يستسلم، هناك من يرفض القبح ويأنف من البشاعة، ويستنفر كل مخيلته لينفذ من الجحر، وينقذ نفسه من الظلمة، وهو يوسّع طاقات الأمل والرجاء.
تحية إكبار لنساء لبنان المقاومات...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق