ذات يوم ضلّ كلب طريقه في الغابة، ولم يستطع
أنفه المزكوم، يومئذ، أن يمدّ له يد العون، وكان خائفاً جدّاً من أن يراه أسد قادم
بكلّ مهابته وأبّهته نحوه. فكّر الكلب في نفسه قائلاً: " لقد قضي عليّ، ها أنا ذا لقمة سائغة في
شدقَي ذلك الأسد" ، ثم لمح وهو يلتفت من ذعر، يمنة ويسرة، بعض العظام ملقاة
حوله، فأوحت له هذه العظام فكرة ممارسة لعبة لا تخلو من مخاطرة، فقال لنفسه: "حين
لا يكون أمامك أي فرصة للنجاة أو أي أمل بالخلاص من الموت عليك ان تعمل لإنقاذ
نفسك من الموت، العب بالخطر، ودجّن مخاوفك، راوغ المقدور قدر ما استطعت"،
ثمّ أخذ الكلب عظمة وجلس معطياً ظهره بلامبالاة فاقعة للأسد، وتظاهر بأنه مستمتع
بلعق العظمة، وبدأ يتكلّم مع نفسه بنباح عال قائلاً: " يا للروعة، عظام الأسد
لذيذة الطعم حقاً، إذا حصلت على المزيد منها فسيتحوّل يومي إلى حفل لا ينسى دسمه".
أرهف الأسد السمع متعجبّا ممّا يسمع، وظنّ أنّ
أذنيه تخونانه أو تلعبان به، ولم يصدّق ما تراه عيناه، وقال لنفسه: "هذا
الكلب ليس من طينة الكلاب وإن كان في ثياب الكلاب، إنّه يصطاد الأسود، عليّ أن
أنقذ حياتي وأهرب قبل أن يراني"، ثمّ ركض الأسد الساذج بعيداً عن الكلب حفاظاً
على لحمه وعظمه من أنيابه الشره.
من سوء حظّ الكلب انه كان هناك على إحدى
الأشجار قرد يتفرّج على تلك اللعبة الكلبيّة من أوّلها. فكّر القرد قائلاً:
"هذه فرصة ذهبيّة لعقد صداقة مبرمة مع الأسد، فلا بدّ لي من أن اقفز صوبه
لأخبره بحيلة هذا الكلب الماكر الذي تجرّأ وضحك على مولانا ملك الغابة".
ركض القرد باتجاه الأسد ليفشي له الأمر ويبيّض
وجهه معه. أما الكلب فقد شاهده يركض خلف الأسد فنقزه قلبه وأدرك أن هذا القرد
النمّام سوف يفضح أمره للأسد. وما ان سمع الكلب زئير الأسد الصاخب حتّى ادرك ان
الخطر صار قاب قوسين او ادنى من لحمه، امر الاسد القرد ان يمتطي ظهره ويذهبا الى
الكلب لينال جزاء لعبه بعقل الأسد. فالأسد لا يخدع من كلب مرّتين! ولكن الكلب قرّر
ان يتابع لعبته التي تشبه الرقص على رؤوس الأفاعي، وقال:" أن أموت خادعاً
أفضل من أن أموت مخدوعاً"، وكرّر موقفه الأوّل مع تعديلات هي بنت المقام، لقد
أدار ظهره للأسد وراح يخاطب نفسه بصوت مسموع قائلاً: "يبدو ان هذا القرد غبيّ
جدّا، لقد مضت ساعة وهو عاجز عن استدراج أسد آخر إليّ لأسدّ جوعي". كانت هذه
الكلمات التي نبس بها فم الكلب كفيلة بإشعال الغضب في أذن الأسد الذي ظنّ أنّ
القرد حليف خبيث للكلب، ومن هواة اللعب على الحبلين، فرماه عن ظهره وانقضّ عليه
بفكّيه لينهي حياته، وولّى هارباً ولم يعقّب".
الشحّاذ الأعمى
لعلّ من يدرس فنّ الاعلان تكون قد مرّت عليه
هذه الحكاية أو ما هو على نسقها، فالإعلان تبليغ بأسلوب بليغ، والحكاية تضمر الى
حدّ ما مدرسة رائجة في " الفكر الدعائيّ"، القائم على عنصر الجذب وشدّ
الانتباه، وهي تروي حكاية شحّاذ ضرير اعتاد أن يقعد على إحدى عتبات عمارة واضعاً
قبعته بين قدميه وبجانبه لوحة مكتوب عليها عبارة بسيطة ومتقشّفة: " أنا
أعمى أرجوكم ساعدوني"، عبارة لا تثير شهيّة العابرين كثيراً على مدّ أيديهم
إلى جيوبهم.
مرّ، ذات يوم، رجل إعلانات فضوليّ بالقرب من الأعمى،
فوقف أمام قبّعته ووجد انها لا تحوي سوى حفنة قليلة من النقود. سحب رجل الاعلانات
من جيبه مبلغاً من المال ووضعه في قبّعة الشحّاذ. ثمّ مدّ يده الى اللوحة وقلبها
وكتب على قفاها عبارة أخرى وأعادها الى مكانها ومضى. عرف الأعمى أنّ ذلك العابر قد
قام بكتابة شيء ما على لوحته فغضب للحظات ثمّ انتبه الى ان قبّعته بدأت تمتلىء
بالنقود اكثر من الوقت المعهود. فأحسّ أنّ سرّ هذا التغيّر هو تلك اللوحة التي
غيّر بها الرجل ما غيّر. فسأل أحد المارة في طريقه عما هو مكتوب عليها فكانت
العبارة من وحي الطقس الربيعيّ آنذاك، وهي تقول: " نحن في فصل الربيع، لكنّني
لا أستطيع رؤية جماله". عبارة لم تأتي على سيرة العمى بلفظ، ولكنّها تناولت
مفعول العمى، بحنكة بلاغية فعّالة.
كلّ العبرة، هنا، كانت في العبارة، وفي وجهة
النظر التي تعرف كيف تركّب قطع "البازل Puzzle" من وحي الظروف.
طبيعة العقارب
الحكاية الأخيرة تحكي عن العقارب وهي تخالف
مقولة ذئبيّة مأثورة تقول : إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب"، ومفاد الحكاية
ان عجوزا حكيما جلس على ضفة نهر وراح يتأمل فتنة الطبيعة المحيطة به، وأثناء تأمّلاته
لمحت عيناه عقرباً قد وقع في الماء وأخذ يتخبط محاولاً أن ينقذ نفسه من الغرق فقرّر
العجوز أن ينقذه.
علّق
العجوز صلاته، ثم نهض ومدّ يده ليسعف العقرب الا ان العقرب ظنّ باليد الممدودة
الظنون ولم يخطر بباله ان نيّة اليد صافية فقام بلسعها، سحب العجوز يده صارخاً من
شدّة الألم، ولكن لم تمض سوى دقيقة واحدة حتى مدّ يده ثانية لينقذه فلسعه العقرب، سحب
يده مرة أخرى صارخاً من شدة الألم، وبعد دقيقة راح يحاول وللمرة الثالثة ان ينقذ
هذا العقرب اللسّاع من الموت!
على
مقربة منه كان يجلس رجل آخر ويراقب ما يحدث أمام عينيه المستغربتين الحاح العجوز
رغم لؤم العقرب فصرخ بالعجوز الذي يخاطر بأصابعه: "أيّها الحكيم لم تتعظ من
المرة الأولى، ولا من المرة الثانية، وها أنت تحاول إنقاذه للمرّة الثالثة !"
لم
يأبه الحكيم لتوبيخ الرجل وظلّ يحاول حتى نجح في إنقاذ روح العقرب من الغرق، ثم
مشى باتجاه ذلك الرجل وربت على كتفه قائلاً : يا بنيّ من طبع العقرب أن
"يلسع"، ومن طبعي أن "أحبّ" ، فلماذا تريدني أنْ أسمح لطبعه
أن يتغلّب على طبعي؟
كثيرون
لا يقبلون إلاّ الهزيمة في معركتهم مع العقارب، أمّا ذلك العجوز الحكيم فكان يأبى
أن ينهزم طبعه على يد عقرب لسّاع.
بلال
عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق