للعين سحرٌ لا يخفى، فهي متعددة الدلالات، تحيي وتميت،
على ما يقول مقطع من أغنية للمطرب الكبير وديع الصافي : " قتلوني، قتلوني،
قتلوني عيونا السود"، ولا شكّ ان تكرار فعل القتل ثلاث مرات متتاليات لهو
دالّ على القوّة الفتاكة للعيون السود وغير السود. ولم تستثمر إلى الآن خيرات
العين وأقاويل النظرة كما يجب، ولكن البعض يعمل من خلال اهتمامه بـ"لغة الجسد"
الى استخراج "نحو
العين وصرفها"، ولمّ شمل ابجديتها الخاصّة العفيّة. والعرب القدماء كانوا قد انتبهوا
الى دور العين في الغزل وقدرتها على الافصاح والثرثرة وأشياء أُخر، فرصدوا معجمها
وهو، في العربية، معجم غنيّ كشف عن بعضه الثعالبيّ في كتابه "فقه اللغة
وأسرار العربيّة"، كما بيّن الفقيه الاندلسيّ ابن حزم في كتابه المميّز
" طوق الحمامة فبي الألفة والألاّف" جانبا آخر من سلطان العيون ودورهما في الكشف عن
المكنون والمضنون به، كما ان لكلمة عين دلالات متعددة منها معنى "الجاسوس"، وللعين قدرات سحرية، متعددة. ومن الدالّ ان
يكون للرموش اسم في العربيّة لا يخلو من قرابة مع عالم السلاح، فالجفون أشفار وهي
من نفس الجذر الذي انبثقت منه " الشفرة" الحادّة! والعين تستعين بكل
تعابير الوجه لتتزوّد بحاجاتها من الدلالات التي يستعين بها المرء في تدبير شؤون
حياته. كنت أقرأ في كتاب " الكلمات وتأثيرها على العقل" لكلّ من اندرو نيوبيرغ Andrew Newberg
ومارك روبرت والدمان Mark Robert Waldmam ، الذي صدر عن
" الدار العربية للعلوم ناشرون" ، وهما متخصصان في علم أعصاب التواصل،
فاستوقفتني تجربة عرضاها في كتابهما ذات صلة بالعين، وهي تجربة لا تخلو من طرافة
ودلالة، تحكي التجربة عن قدرة العين حتّى ولو كانت مجرّد صورة في تغيير سلوك الناس
والتحكّم في ردود أفعالهم. فللصورة مفعول الكلمة، بل بحسب التعبير الصينيّ المنسوب
لكونفوشيوس فإنّ الصورة الواحدة أبلغ من الف كلمة. ولا أحد ينكر أننا نعيش في عصر
الصورة بامتياز، ونعيش تحت رحمة المرئيّ بصوره الجامدة والمتحرّكة على السواء. لقد
انجزت الدراسة الميدانيّة حول مفعول الصورة من قبل فريق عمل "أبحاث التطوّر
والسلوك" التابع لجامعة نيوكاسل Newcastle
البريطانيّة. اعدّ الباحثون
جناحا مخصّصا لبيع القهوة والشاي والحليب في مكتب احدى الشركات. ولكن البيع، حتّى
تنجح التجربة، كان يتمّ في غياب البائع. ألصق سعر كلّ صنف فوق الأصناف المعدّة للبيع،
ووضع صندوق شرف على الطاولة ليضع الناس ما يتوجّب عليهم دفعه بلا رقيب ولا حسيب،
وهكذا صار بإمكان كلّ شارب أن يدفع بحسب ما يرتئيه ضميره، وبعض الضمائر، كما هو
معروف، ضامرة! ولكنّ الباحثين أضافوا عنصراً آخر لا اهمية له او لا علاقة له مباشرة
بالحثّ على دفع المستحقات دون نقصان. في كلّ اسبوع وعلى مدى عشرة أسابيع علقت صورة
الى جانب لائحة الأسعار. وكل العبر في الصور! في الاسابيع الخمسة الأولى علقت صور
مختلفة لأنواع متعددة من الازهار، ولكن في الاسابيع الخمسة التالية قاموا بتغيير
الصور، فوضعوا بدلا من الأزهار صورا مختلفة لعينين تحدّقان مباشرة الى الشخص
الواقف امام طاولة الاشربة. وضعوا الأنظار بدلاً من الأزهار. عيون من ورق ملونة
ومحدقّة، عيون لا حياة فيها، كانت المفاجأة انه خلال الاسابيع الخمسة الاخيرة زاد
مقدار المال المجموع ثلاثة أضعاف عن مقدار المال المجموع في الأسابيع الخمسة الأولى.
ما هو السرّ الذي رفع من حجم الغلّة؟
من الواضح أنّ الغشّ كان أقلّ،
والكرم أكثر، والنفس الأمّارة بالسوء صفّد سلوكها بأغلال العيون المحدقة. عندما أدرك
موظفو المكتب بطريقة غير شعوريّة انهم كانوا مراقبين، ليس من قبل شخص من لحم ودم،
أو كاميرا مراقبة، بل من قبل صورة فوتوغرافية لعينين عاجزتين لا حول لهما ولا قوّة،
غيّروا من سلوكهم في الدفع، وكما شرح الباحثون فإنّ النظام الادراكي البشري يحتوي على عصبونات او نيرونات تستجيب انتقائياً
للمحفّزات المشتملة على وجوه وعيون، ولهذا فإنّه من المحتمل أن تكون الصور قد تركت
تأثيراً تلقائياً ورادعاً على ادراك المشاركين جعلهم يشعرون أنّهم مراقبون عن حقّ
وحقيق.
ولقد اطّلع قسم شرطة مدينة
نيوكاسل على هذه التجربة الصورية فتبّناها وأطلق مبادرة لمكافحة الجريمة من وحي تلك التجربة التي قد لا يخطر ببال دورها
الفعّال، فصمّم ملصقات إعلانية لعيون
محملقة مع عبارة تهديدية تركّز على مفعول العين السحريّ: " عيوننا تلاحق
المجرمين". كانت النتيجة ان نسبة الجريمة انخفضت بمعدل 17 بالمائة خلال السنة
الاولى بعد عرض الملصقات الاعلانية في أنحاء المدينة، وبالتأكيد لا يمكن اعطاء
تفسير لهذا الانخفاض الا من خلال الاعتراف بأثر النظرات الصورية في مطاردة من
تغريه نفسه بارتكاب جريمة من الجرائم. وهناك تجربة مماثلة استمرت لعدّة سنوات في
مدينة دربيشايرDerbyshire في
بريطانيا حيث وضعت قصائص كرتونية لشخصيّات رجال الشرطة في
انحاء المدينة، وقد ردعت هذه القصائص بالفعل سارقي المعروضات في المتاجر ولصوص
محطات البزين، ولكن من الطريف ان شيئا واحدا لم يتوقّف اللصوص عن سرقته وهو القصائص
الكرتونية لرجال الشرطة التي كانت تحملق بعيونها الحادّة في وجوه المارّة ووجوه
اللصوص الذين لم يحتملوا عين الشرطيّ وهي تحدجهم بنظراتها الكاشفة التي كانت تكبّل
قدرتهم على الحركة وممارسة اللصوصيّة.
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق