اعترافات
برغشة
قد لا يخطر ببال ابن آدم أنّ برغشة
لا حول لها ولا قوّة قد تسدي له معروفاً لا ينكره إلاّ كلّ إنسان قليل الأصل. ولكن
هل بمقدور برغشة أنْ تسدي هذا المعروف وليس للإنسان من ذكريات له معها إلاّ طنينها
الليليّ وعقصاتها المزعجة؟ أحبّ تعقّب مصائر الحيوانات، وربما اشتغالي باللغة على
شتّى أشكالها وتجليّاتها التواصلية وراء اهتمامي بعالم الحيوانات وكيفيّة الطرق
الساحرة التي تعمل بها لتتبادل فيما بينها أطراف الحديث.
كنت أقرأ في كتاب بالفرنسيّة، وهو
عبارة عن أخبار متفرّقة نشرته منظّمة الأمم المتّحدة للتربية والعلم
والثقافة/اليونسكو فاستوقفني خبر طريف عن برغشة تكبّل رجلاً، تستنطقه، تسحب من
لسانه رغماً عن أنفه اعترافاته الدامية. يعجز القاتل المحترف عن النكران، يقع بفضل
برغشة في قبضة العدالة. كيف؟ أيعقل أن تستطيع
برغشة تنغيص حياة مجرم وتضعه خلف القضبان؟! كلّ شيء ممكن بفضل قدرات الإنسان
المذهلة، وإليكم الحكاية:
لقد تسلّل مجرم، ذات خلسة، إلى دار
أحد الأشخاص وارتكب جريمة قتل ثمّ سطا على ما سطا، وفرّ آمناً إلى أنّ جريمته
بمنأى عن الفضح. قام بكلّ ما هو مطلوب من مجرم ماهر ومحترف، أو سارق ذكيّ، أو قاتل
متخصّص ومتمرّس. لم يخلّف وراءه
أيّ أثر يمكن أن يدينه.
غادر مكان الجريمة، ولكنّ برغشة
كانت له بالمرصاد، ربّما عن غير قصد منها. لا ننسى كيف أنّ الله سلّط بعوضة حقيرة
على النمرود! كانت البرغشة جائعة ولم تكن تفكّر الاّ بسدّ رمقها وإسكات بطنها
الثرثار. حين كان المجرم في البيت كانت هي أيضاً في البيت. تواجدا معاً في نفس
المكان، ولكن كلّ كان يغني على ليلاه! تقدّمت البرغشة بأجنحتها السرّية وحطّت على
جلده ثم اختارت مكاناً سهلاً لغرز إبرتها الدقيقة في دمائه الحارة. ارتوت من دم
اللصّ ثمّ رفرفت بأجنحتها الهزيلة وحطّت بعيداً عنه. كان اللصّ القاتل مستغرقاً في شؤون سطوه فلم يحسّ بمرور
إبرتها على بشرة جسده.
راحت تهضم ما شربت. وأحياناً تألف
الحشرات الصغيرة البيوت لأنّها تؤمّن لها حاجاتها اليوميّة من الدم لإنتاج بيضها فلا
تفكّر بالهجرة إلاّ لأسباب قاهرة!
مرّ الوقت وانكشفت الجريمة، جريمة
بلا آثار، جريمة شديدة الإتقان، لم يترك القاتل بصمة أو ذرّة دليل على هويته. المحققون
ورجالات المباحث الذين يصطادون الأدلّة لم يعثروا على شيء في المكان. لمح أحد
المحققين برغشة مسترخية في سقف الحائط. برقت في رأسه فكرة. فكرة قد تمسك طرف خيط
الجريمة. سأستنطق هذه البرغشة، قد تكون طرف الخيط، والشاهد الملك، قال المحقّق،
وهي غير قادرة على الكذب، لم تتعلّم حنكة البشر الشيطانيّة في التضليل وإخفاء
المعلومات، ولا تحبّ شهادات الزور ولا التزوير ولا المزوّرين. أمر بالقبض على
البرغشة. وقعت المسكينة في يد المحقّق، وجد المحقق في بطنها المنفوخ بارقة أمل.
أخذت البرغشة إلى المختبر لفحص دمها. فصلوا دمها عن الدماء الممصوصة الطازجة.
فحصوا أبجدية الدم الممصوص، استخرجوا من بطن البرغشة دم القاتل. الجينات لا تكذب،
والدم لا يستطيع أن يتنكّر لصاحبه! ثمّ تمّ القبض عليه، وبعد الاستنطاق اعترف
القاتل بتفاصيل جريمته، وقضى حياته وراء القضبان. الأبجديّة الجينيّة كالبرغشة لا
تمارس التضليل، ولا تعرف اللفّ والدوران!
أيّها اللصوص خذوا حذركم من دمكم
الممصوص فقد تكمن لكم برغشة على مفرق سرقة أو منعطف جريمة.
عالم التكنولوجيا النانوية (Nanotechnologie
) قد يستنطق ما لا نراه لأنّه
رأى كلّ شيء، طاقيّة الإخفاء ليست اختراعاً خياليّاً نراه في قصص ألف ليلة وليلة
على لسان الحكواتيّة الرائعة شهرزاد، إنّها موجودة من يوم أن وجدت الدنيا في
الكائنات التي لا يلقطها حتى مجهر عاديّ. أليست هذه الكائنات التي لا ترى بالعين
المجرّدة هي ألدّ أعداء الإنسان؟ فليس هناك ما هو أفتك بالإنسان من الفيروس
المتناهي الصغر! وهذه الكائنات الضئيلة الحجم هي التي ستكون أحد مفاتيح الثورات
العلميّة القادمة. ويقال إنّ هذه الكائنات من أقدم سكّان الأرض، عاصرت كلّ
الحيوانات الضخمة التي انقرضت كالديناصورات والماموتات (الأفيال الضخمة)، ولم يتقذْها
من براثن الانقراض إلاّ طبيعتها الضعيفة والهشّة والخفيّة.
والخفاء كالضعف له قوّة لا يستهان
بها!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق