كتبها بلال عبد الهادي
الأمثال "أرشيف" لطيف، فيه الواضح الذي لا يحتاج إلى تفصيل، وفيه الغامض الغريب لا على مستوى المفردة أو التركيب وإنّما على مستوى المعنى المعلّق. ولقد وقع تحت نظري وقرع سمعي غير مرّة مثلٌ تغريك كلماته بمعرفة قصّته وهو "لأَمْرٍ ما، جَدَعَ قَصيرٌ أَنْفَهُ". فمن هو " قصير" هذا الذي شوّه خلقة وجهه؟ وأيّ أمر جللٍ دفع به إلى الاستغناء عن خدمات حاسّة الشمّ؟ المعروف على امتداد التاريخ أنّ جدع الأنوف كان سائداً كنوع من العقاب في عدد من الحضارات. فالإنسان تفنّن في تعذيب أخيه الإنسان من خلال قَصْقَصَةِ أطراف من جوارحه، كصَلْمِ الآذان أو بتر الأيادي أو سَمْلِ العيون أو سَحْلِ الجثمان أو شقّ الشفاه أو أكل حتّى بعض أعضاء الأعداء نيئة - وآكلة الأكباد معروفة في التاريخ العربيّ - أو" شرب دمهم". والتعبير الأخير لا تزال الأفواه الغضبى والعطشى! تلوكه، أقلّه، على الصعيد المجازيّ.
هل جنّ جنون "قصير" في لحظة ما، فقرّر جدع أنفه كما يقوم المجنون في لحظة هستيريا بضرب نفسه وتجريح ذاته؟ إنّ "ما" الواردة في المثل تفيد الإبهام، تُسْدِل على مكوّنات المثل ستائر الغموض إذ تترك مضمون الأمر مشرّداً، مجهول الهويّة والنسب. بعض كتب الأمثال يروي غليل الباحث كـ "جمهرة الأمثال" لأبي هلال العسكريّ حيث يشير إلى أنّ تاريخ هذا المثل يعود إلى زمن "زنوبيا" أو"الزبّاء" أو "زينب" ملكة تدمر، المدينة التي نسب العربيّ القديم تشييدها المعجز إلى جنّ النبيّ سليمان، وما يفصح عن هذا المعتقد الجنّيّ بيت شعريّ ورد في إحدى قصائد النابغة الذبيانيّ الشاعر الجاهليّ، ويقول فيه:
وَخَيِّسِ الجِنَّ، إِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَهُمْ يَبْنُونَ تَدْمُرَ بِالصُّفاحِ وَالعَمَدِ
إنّ الأمر المبهم في المثل لم يكن إلاّ رغبة قصير بن سعد المضمرة في الانتقام من الزبّاء قاتلةِ ملك العرب "جَذيمة الأبرش" بحسب الحكاية الأسطوريّة للمثل. ولكن هل بوسع أنف مجدوعٍ، حقّاً، أنْ يقلب مصير مملكة؟ لم يكن جدع الأنف، هنا، إلاّ من قبيل التَّمَسْكُنِ للتمكّن. كان الجدع إحدى حيل قصير بن سعد للأخذ بالثأر. ثمّة مثل دارج يقول "بْيِقْطَعْ إيدو وِبْيِشْحَدْ عْلَيَّا" وهو يصبّ في خانة المعنى نفسه تقريباً أي أنّ التشويه وسيلة استراتيجيّة موجعة ولكن ناجعة للقبض على الأهداف. جدع قصير بن سعد أنفه وأتى عند الزبّاء مستغيثاً، مستجيراً، ومدّعياً أنّ عمرو بن عديّ، ابن أخت جَذيمة الأَبْرَش، هو الذي قام بجدع أنفه لأنّه جنح إلى حلّ الخلاف بالصُّلْح لا بالثأر، فثارت ثائرة عمرو معتبراً إيّاه عميلاً من عملاء الزبّاء. وافقت على طلبه باللجوء إليها والدخول في حمايتها. يبدو أنّ قصيراً كان تاجراً ماهراً، فأتجر عدّة تجرات للزبّاء رابحة، وظلّ يتقرّب منها بصالح الأعمال إلى أن وثقت به (الثقة والوثاق، في العربية، من بطن واحد!). لم يكن قصد قصير التخلّص منها فقط وإنّما كان يريد أيضاً أنْ يُلحق " تدمر" باسمها أي أن يحيق بها "الدَّمار". وبعض الأسماء، في أيّ حال، تنبىء بمصائر مسمّياتها!
كان قصير بن سعد يريد أن يعرف مدخل السِّرْداب السرّي الذي حفرته الملكة وحضّرته للفرار في حال انقلاب ظهر المِجَنِّ. ظلّ وراءها يتودّدها ويخدمها خدمة ينمّ ظاهرها عن تفانٍ وإخلاص يثيران العجب فأطلعته على السرداب وعلى مَنْفَذِهِ. وبعد فترة استأذنها كعادته في رحلة تجاريّة إلاّ أنّه قصد عمرو بن عديّ، وأعلمه بكلّ مواطن الضعف والخلل في المملكة، ثمّ عاد بقافلة طويلة عريضة، معلناً أنّها تحمل بضاعته التي ربحها في تجارته، ولم تكن القافلة، في الحقيقة، غير جيش مموّه تنوء بحمله الإبل، أي أنّ دور القافلة شبيه بدور "حصان طروادة" الشهير. فتحت للقافلة الأبواب، وسرعان ما دارت معركة، في داخل المدينة، طاحنة، تؤجّج من سعيرها روح الثأر. أدركت "ملكة تدمر" أنّ الهزيمة، لا محالة، واقعة، فأسرعت صوب السِّرْداب للهروب من احتمال الأسر إذْ لم تكن تريد أن تختم تاريخها الذي دوّخ الأكاسرة والقياصرة هذه الخاتمة المذلّة. تفاجأتْ الملكة حين رأت قصير بن سعد ينتظرها على باب السِّرداب شاهراً سيفه المصقول كالمقصلة. لم تستسلمْ للقدر المحتوم إذْ كان الحلّ في إصبعها الذي يحمل خاتماً مسموماً تقاوم به ذلّ الأسر.
تجدر الإشارة إلى أنّ المدوّنات التاريخيّة القديمة ذكرت نهايات مأساويّة أخرى لحياة الزبّاء، سلطانة الشرق، وحفيدة كليوباترا كما كانت تردّد باستمرار.
الأمثال "أرشيف" لطيف، فيه الواضح الذي لا يحتاج إلى تفصيل، وفيه الغامض الغريب لا على مستوى المفردة أو التركيب وإنّما على مستوى المعنى المعلّق. ولقد وقع تحت نظري وقرع سمعي غير مرّة مثلٌ تغريك كلماته بمعرفة قصّته وهو "لأَمْرٍ ما، جَدَعَ قَصيرٌ أَنْفَهُ". فمن هو " قصير" هذا الذي شوّه خلقة وجهه؟ وأيّ أمر جللٍ دفع به إلى الاستغناء عن خدمات حاسّة الشمّ؟ المعروف على امتداد التاريخ أنّ جدع الأنوف كان سائداً كنوع من العقاب في عدد من الحضارات. فالإنسان تفنّن في تعذيب أخيه الإنسان من خلال قَصْقَصَةِ أطراف من جوارحه، كصَلْمِ الآذان أو بتر الأيادي أو سَمْلِ العيون أو سَحْلِ الجثمان أو شقّ الشفاه أو أكل حتّى بعض أعضاء الأعداء نيئة - وآكلة الأكباد معروفة في التاريخ العربيّ - أو" شرب دمهم". والتعبير الأخير لا تزال الأفواه الغضبى والعطشى! تلوكه، أقلّه، على الصعيد المجازيّ.
هل جنّ جنون "قصير" في لحظة ما، فقرّر جدع أنفه كما يقوم المجنون في لحظة هستيريا بضرب نفسه وتجريح ذاته؟ إنّ "ما" الواردة في المثل تفيد الإبهام، تُسْدِل على مكوّنات المثل ستائر الغموض إذ تترك مضمون الأمر مشرّداً، مجهول الهويّة والنسب. بعض كتب الأمثال يروي غليل الباحث كـ "جمهرة الأمثال" لأبي هلال العسكريّ حيث يشير إلى أنّ تاريخ هذا المثل يعود إلى زمن "زنوبيا" أو"الزبّاء" أو "زينب" ملكة تدمر، المدينة التي نسب العربيّ القديم تشييدها المعجز إلى جنّ النبيّ سليمان، وما يفصح عن هذا المعتقد الجنّيّ بيت شعريّ ورد في إحدى قصائد النابغة الذبيانيّ الشاعر الجاهليّ، ويقول فيه:
وَخَيِّسِ الجِنَّ، إِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَهُمْ يَبْنُونَ تَدْمُرَ بِالصُّفاحِ وَالعَمَدِ
إنّ الأمر المبهم في المثل لم يكن إلاّ رغبة قصير بن سعد المضمرة في الانتقام من الزبّاء قاتلةِ ملك العرب "جَذيمة الأبرش" بحسب الحكاية الأسطوريّة للمثل. ولكن هل بوسع أنف مجدوعٍ، حقّاً، أنْ يقلب مصير مملكة؟ لم يكن جدع الأنف، هنا، إلاّ من قبيل التَّمَسْكُنِ للتمكّن. كان الجدع إحدى حيل قصير بن سعد للأخذ بالثأر. ثمّة مثل دارج يقول "بْيِقْطَعْ إيدو وِبْيِشْحَدْ عْلَيَّا" وهو يصبّ في خانة المعنى نفسه تقريباً أي أنّ التشويه وسيلة استراتيجيّة موجعة ولكن ناجعة للقبض على الأهداف. جدع قصير بن سعد أنفه وأتى عند الزبّاء مستغيثاً، مستجيراً، ومدّعياً أنّ عمرو بن عديّ، ابن أخت جَذيمة الأَبْرَش، هو الذي قام بجدع أنفه لأنّه جنح إلى حلّ الخلاف بالصُّلْح لا بالثأر، فثارت ثائرة عمرو معتبراً إيّاه عميلاً من عملاء الزبّاء. وافقت على طلبه باللجوء إليها والدخول في حمايتها. يبدو أنّ قصيراً كان تاجراً ماهراً، فأتجر عدّة تجرات للزبّاء رابحة، وظلّ يتقرّب منها بصالح الأعمال إلى أن وثقت به (الثقة والوثاق، في العربية، من بطن واحد!). لم يكن قصد قصير التخلّص منها فقط وإنّما كان يريد أيضاً أنْ يُلحق " تدمر" باسمها أي أن يحيق بها "الدَّمار". وبعض الأسماء، في أيّ حال، تنبىء بمصائر مسمّياتها!
كان قصير بن سعد يريد أن يعرف مدخل السِّرْداب السرّي الذي حفرته الملكة وحضّرته للفرار في حال انقلاب ظهر المِجَنِّ. ظلّ وراءها يتودّدها ويخدمها خدمة ينمّ ظاهرها عن تفانٍ وإخلاص يثيران العجب فأطلعته على السرداب وعلى مَنْفَذِهِ. وبعد فترة استأذنها كعادته في رحلة تجاريّة إلاّ أنّه قصد عمرو بن عديّ، وأعلمه بكلّ مواطن الضعف والخلل في المملكة، ثمّ عاد بقافلة طويلة عريضة، معلناً أنّها تحمل بضاعته التي ربحها في تجارته، ولم تكن القافلة، في الحقيقة، غير جيش مموّه تنوء بحمله الإبل، أي أنّ دور القافلة شبيه بدور "حصان طروادة" الشهير. فتحت للقافلة الأبواب، وسرعان ما دارت معركة، في داخل المدينة، طاحنة، تؤجّج من سعيرها روح الثأر. أدركت "ملكة تدمر" أنّ الهزيمة، لا محالة، واقعة، فأسرعت صوب السِّرْداب للهروب من احتمال الأسر إذْ لم تكن تريد أن تختم تاريخها الذي دوّخ الأكاسرة والقياصرة هذه الخاتمة المذلّة. تفاجأتْ الملكة حين رأت قصير بن سعد ينتظرها على باب السِّرداب شاهراً سيفه المصقول كالمقصلة. لم تستسلمْ للقدر المحتوم إذْ كان الحلّ في إصبعها الذي يحمل خاتماً مسموماً تقاوم به ذلّ الأسر.
تجدر الإشارة إلى أنّ المدوّنات التاريخيّة القديمة ذكرت نهايات مأساويّة أخرى لحياة الزبّاء، سلطانة الشرق، وحفيدة كليوباترا كما كانت تردّد باستمرار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق