لطيفة مبادرة جوجل مع العالم، فموقع البحث ينتهز فرصة احياء ذكرى اناس رحلوا بعد ان تركوا بصماتهم في العالم، منهم ابن بطوطة الرحالة الطنجاويّ.
كنت قد كتبت مقالا
عنه حين كان في الصين، وكيف تم التعامل مع صورته. اعيده هنا بمناسبة هذه الذكرى
العربية الجوجلية البطوطية الصينية.
يروي المفكّر الفرنسيّ المرموق Régis Debray رجيس دبريه في مقدمة كتابه الجميل " حياة
الصورة وموتها" (Vie
et mort de l’image) حادثة
طريفة وقعت في قصر أحد أباطرة الصين إذ طلب الامبراطور من أحد رسّامي
القصر محو الشلال من إحدى اللوحات الجدارية المرسومة في حجرة نومه لأن خرير مياه
الشلال الهادر المتدفّق من اللوحة الجدارية يؤرق عينيه ويمنعه من النوم! هذه
النادرة الامبراطورية مع الصورة لها أشباه ونظائر كثيرة في التراث الصيني تشير الى
تلك العلاقة الحميمة التي تعقدها حواسّ الصينيّ الخمس - وليس حاسّة النظر وحدها -
مع الصورة.
أردت ان تكون هذه الطُّرفة مدخلاً
لحكاية أخرى وردت في رحلة ابن بطوطة (وهو من رجالات القرن الثامن الهجري) الذي زار
الصين وأقام فيها فترة من الزمن، وترك لنا مشاهداته وانطباعاته في رحلته الشهيرة
التي توارى اسمها الفعلي من الاستعمال وصرنا نكتفي باستخدام عبارة «رحلة ابن بطوطة»
للإشارة الى كتابه، ولا بأس من التذكير بعنوان الرحلة الأساس الذي يوجز فحواها وهو:
«تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار». والكتاب، بالفعل، رحلة مشوّقة
لجوّاب آفاق لا تتعب قدماه (يقال إن ابن بطوطة قطع مسافة 120 ألف كلم على امتداد 28
سنة)، وهي لا تخلو من التحف والغرائب والعجائب. ويستفيد علماء الإناسة والاجتماع
ودارسو عادات وسلوك الشعوب والجغرافيون والمؤرخون من محتويات حكاياته التي تشبه
الوثائق الحيّة النادرة، ولقد ترجمت رحلته الممتعة، لأهميتها الوثائقية، الى لغات
عديدة كالفرنسية والانكليزية والصينية.
كان ابن بطوطة يتكلّم على الصناعة في الصين، ونظرته مغايرة تماماً لنظرة العرب الراهنة الى الصناعة الصينية التي ترمز الى الرخص وعدم الإتقان. ولكن الصناعة الصينية، بدأت فيما يبدو، تستعيد ما كانت عليه في الماضي القديم أيام ابن بطوطة الذي اعتبر: «إن الصين من أعظم الأمم إحكاماً للصناعات، وأشدّهم إتقاناً لها، وذلك مشهور من حالهم، قد وصفه الناس في تصانيفهم فأطنبوا فيه». وهذا ما يقوله، أيضاً، صاعد الأندلسيّ صاحب كتاب «طبقات الأمم». جاء كلام ابن بطوطة هذا في بداية حديثه عن فن الرسم عند الصينيين. ومن له إلمام بالفن الصيني يعرف مهارتهم في الرسم وقيمته الروحية في طقوس حياتهم اليومية، وثمة عبارة عربية تقول: «فضيلة العرب في لسانهم وفضيلة الصينيين في يدهم»، فهم حرفيّون من الطراز الأول، ولأصابعهم فصاحة ألسنة العرب وبيانها! يقول ابن بطوطة: «وأما التصوير فلا يجاريهم أحد في إحكامه من الروم ولا من سواهم، فإن لهم فيه اقتداراً عظيماً». ولكن التصوير لم يكن لمجرّد الرسم، بل كان له مآرب أخرى، كعصا موسى، أمنيّة وتوثيقية وعملية. وقديماً قال المثل الصيني: «الصورة تساوي عشرة آلاف كلمة»، فالصورة إيجاز والكلمة إطناب. يروي ابن بطوطة حكايته مع الصورة في الصين، فيقول: «ومن عجيب ما شاهدت لهم من ذلك، أني ما دخلت قطّ مدينة من مدنهم ثم عدت اليها، إلاّ ورأيت صورتي وصور أصحابي منقوشة في الحيطان والكواغِد - أي الورق - موضوعة في الأسواق. ولقد دخلت الى مدينة السلطان فمررت على سوق النقّاشين ووصلت الى قصر السلطان مع أصحابي ونحن على زيّ العراقيين، فلما عدت من القصر عشيّا مررت بالسوق المذكورة، فرأيت صورتي وصور أصحابي منقوشة في كاغدٍ قد ألصقوه بالحائط، فجعل كل واحد منّا ينظر الى صورة صاحبه لا تخطئ شيئاً من شبهه. وذُكر لي ان السلطان أمرهم بذلك وأنهم أتوا الى قصره ونحن به، فجعلوا ينظرون إلينا ويصوّرون صورنا، ونحن لا نشعر بذلك. وتلك عادتهم في تصوير كلّ من مرّ بهم. وتنتهي حالهم في ذلك إن الغريب اذا فعل ما يوجب فراره عنهم، بعثت صورته الى البلاد وبُحث عنه، فحيثما وجد شبه تلك الصورة أُخذ».
ولعلّ ما يقوله الرحّالة ابن بطوطة يؤكد مقولة كنت قد قرأتها عن التجسّس الصيني ومفادها: «إن الصيني يتجسّس كما يتنفّس». والتجسّس، في أية حال، ضرورة أمنية ووسيلة دفاعية، والدولة التي لا تُعير جهاز تجسّسها الرعاية الكافية لا بدّ من الشك في حُكمها وحكمتها معاً! ولا أعتقد ان أحداً يشك في حكمة بلد نسبت، منذ القدم، الى أهله الحكمة المشرقية الثاقبة.
ولكن ثمّة نقطة لم يتناولها ابن بطوطة في حديثه عن الصورة إذ لم يذكر لنا هل اشترى هو وأصحابه صورهم ام أبوا ذلك تجنّباً لإثم قد يلطّخ أياديهم المؤمنة باعتبار ان التصوير محرّم في الاسلام بحسب ما يذهب اليه بعض الفقهاء العرب من المسلمين؟.
ومن الطريف، في أية حال، البحث عن صورة وجه الرحّالة ابن بطوطة، (ثمة روايات عديدة تكون حبكتها الأساسية البحث عن مخطوطة!) في أسواق الصين ومتاحفها او في سجلاتها التاريخية التي كانت تقيّد كل شاردة وواردة داخل أراضيها الشاسعة، فقد يتمّ العثور عليها، والدنيا لا تخلو من المصادفات والأعاجيب! وتكون بذلك أول وأقدم صورة «منقوشة في الكاغِد» لرجل عربي، فاتن السيرة، تصل إلينا من وراء أسوار الصين وتكون - اذا استعرنا مقطعاً من عنوان كتابه - «تحفة النظّار»، نتعرّف من خلالها على ملامح وجهه الحقيقية بدل الاكتفاء بتأمل ملامحه المتخيّلة.
والتنقيب لا يبخل، في أحيان كثيرة، بالمفاجآت الثرية والسارّة!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق