الأربعاء، 8 نوفمبر 2017

حيوانات ثرثارة


ماذا تحكي الحيوانات؟ وكيف تشكو همومها لبعضها بعضاً؟ وهل يختلف كلامها عن كلامنا؟ هل تكذب وتشتم؟ وكيف يمكن لحيوان أنْ يتقن أكثر من لهجة؟ ثم ما فائدة دراسة أصوات الحيوانات البريّة والبحريّة والجويّة على تحسين الحصاد وتنمية الاقتصاد؟ وهل يظلّ الجراد يأكل الأخضر واليابس إذا قدرنا على خداعه صوتيّاً، وبلبلة باله بحكايات وخبريّات تجبره على مغادرة الحقول؟ هذه الأسئلة التي يثيرها كتاب "علم الأصوات الحيوية،عمّ تتكلّم الحيوانات؟" للكاتبة الروسيّة "ستيشكوفسكايا" لا تنتهي والأجوبة التي يكتنز بها كتابها لا تقلّ غرابة عن الأسئلة.فهي متخصّصة في علم حديث يعرف بـ"علم الأصوات الحيوية" وغاياته فهم الدلالات التي تتضمّنها أصوات الحيوانات. وقد ترجم الكتاب إلى العربية ترجمة راقية خالد احمد خلف، وصدر عن دار علاء الدين في دمشق.
الكاتبة تعرف ان الموضوع الذي تتناوله علميّ بامتياز إلاّ أنها استطاعت بمقدرة فائقة توصيل المعلومة ببساطة جذابة دون إخلال بمادته العلمية الرصينة التي اعتمدت في نقلها إلى تجارب ذاتية كثيرة مع الكائنات الحيّة فضلاً عن الكمّ الهائل من المراجع العلميّة والاعتماد على علوم تكشف لنا الكثير من أسرار عالم الحيوانات كعلم الكائنات الحيّة أو الايتولوجيا وعلم البيئة وعلم الحفريات وعلم البيولوجيا وعلم السيمياء وعلم اللغة النفسيّ وغيرها من ثمرات العصر العلميّة.
إنّ أغلب الحيوانات لا يمكن لها ان تعيش بلا أصوات. وهذا ما أدركه الإنسان منذ مئات السنين حيث تشير المؤلفة إلى أنّ الرسومات البدائيّة للحيوانات في الكهوف كانت مثيرة من حيث ان أغلبها يصوّر الحيوانات بأفواه مفتوحة، بل ان بعض الكائنات الحية تموت بمجرد ان تفقد القدرة على إرسال الأصوات كما هو حال الدلافين. فالكاتبة تخبرنا انه من الصعب تصور دلفين أخرس على قيد الحياة. وان كان بمقدور الإنسان ان يعيش إذا ما فقد الصوت بفضل البدائل الإشارية فليست هذه حال الدلافين وتخبرنا ان السبب في ذلك هو اعتماد الدلافين في حياتها على الأصوات التي ترسلها والأصوات التي تستقبلها.فتحكي لنا كيف ان الدلفين يعيش من خلال اعتماده على أصداء الأصوات. بل ان الدلفين يمكن ان يستغني عن عينيه ولكن لا يمكنه ان يستغني عن أذنيه لأنه يحصل على معلوماته من خلال التقاط صدى الأصوات التي يصدرها. فجهاز السبر بالصدى شديد التطوّر لديها بحيث انه يسمح لها التقاط حبة فيتامين من قاع حوض الماء بسهولة فائقة كما أنّها تميز أنواع السمك وأحجامها عن طريق ارتداد صداها.
وتشير الكاتبة إلى ان الأصوات ليست بنت الفم دائما. فان أفواه الذباب هي في أجنحتها التي تعبر من خلال احتكاكها عن مكنون النفس والرغبات، وكذلك الأمر بالنسبة للفراشات التي تتحول أجنحتها إلى ما يشبه الصنوج من الآلات الموسيقية. و تشير إلى ارتباط الصوت بالأكل، وكيف ان ما يحدد صوت الحيوانات هو الطعام فإذا كان وفيرا فإنها تلجأ إلى إصدار الأصوات التي تكون بمثابة دعوة جماعية للآخرين أمّا ان كان الطعام قليلا فإنها تلتهم الأكل بصمت.
وتشير المؤلفة إلى كتاب "لا تصيحي أيتها الذئاب " الذي كتبه "مويت" عن إنسان عجيب وهو أوتيك الإسكيماوي الذي فهم فهما رائعاً لغة الذئاب. ومن العبارات التي فهمها الخبير بلغة الذئاب انه سمع ذئبا يقول لزوجته بـ"ان الصيد ليس على ما يرام، لذا يتوجب عليه ان يتأخر، ومن المحتمل انه لا يستطيع العودة قبل منتصف النهار". ومن المعروف حاليا ان للذئب احد عشر نوعا من العواء يوافق كل واحد منها موقفا محددا.
وتشير الكاتبة إلى ان أصوات الحيوانات من الفصيلة الواحدة لا تتشابه أي شأنها في ذلك شأن الأصوات الآدمية التي يمتاز كل واحد منها ببصمة صوتية خاصة. والحيوانات تعرف ان تحدد مَن الضائع مِن أبنائها أو في وضع خطر من خلال صوته ومن التجارب اللطيفة هو الوضع النفسي والإرباك الذي وقعت فيه بعض الحيوانات حين سمعت صراخ ابنها المسجل على آلة التسجيل وهو بالقرب منها بعد ان خرج من دائرة الخطر.
وتشير المؤلفة إلى لهجات الحيوانات أيضاً. فالإشارة التي تدل على مسافة 160 مترا عند النحلة الاوكرانية تعني عند النحلة الإيطالية 120 مترا مما يعني أنّ النحلتين تحتاجان لترجمان! وتقول المؤلفة ان تفكيك لغة الإشارات يسهل عملية تصنيف الحيوانات بل ان الكاتبة تقول ان معرفة أصوات النحل ودراسة الذبذبات المختلفة وتردّداتها يسهل معرفة نوع المرض المصابة به مثلا ومعالجته بل حتى وضعها الغذائيّ. كما تشير إلى الثنائية اللغوية عند بعض الحيوانات وتشرح أسباب ذلك فبالنسبة للهجات، تقول المؤلفة، ان الإنسان قد لا يدرك التمايز الصوتي بين النوع الواحد من الحيوانات إلا أنّها من خلال تجارب شيقة جدا توضح هذه المسألة منها مثلا: ان الجغرافيا تؤثر على إتقانها للهجات وفي نواح كثيرة يرى القارىء ان القانون الصوتي الذي يميز كلام الإنسان مشابه جدا للهجات الحيوان، فالفرق بين لهجة المهاجر ولهجة المقيم واضحة لمن يدرس أو يصغي للفوارق الصوتيّة. ان الهجرة كما تقول المؤلفة تنعكس على لهجات الطيور وزقرقاتها وجملها الموسيقية. وتشير الكاتبة إلى ان الصياد المحنّك والمرهف السمع يستطيع من خلال سماع أصوات بعض الطيور ان يعرف من أين أتت. وتتكلم الكاتبة عن تجربة على صيحات غربان من أمريكا الشمالية وقعت في الأسر فكان ان تداعى لنجدتها الغربان هناك، ونقلت صيحات الغربان المسجلة إلى إحدى الغابات الفرنسية فلم يكن رد فعل الغربان الفرنسيّة هو نفسه على صيحات الأسرى لأنّها لم تدرك معنى الأسر الكامن في صيحات الغربان الأجنبيّة. وتشير إلى أن الغربان التي تنتقل من ولاية بنسلفانيا إلى ولاية مين تعرف التعامل مع اللهجتين بخلاف الطائر المقيم الذي لا يمكنه فكّ اللهجة الأخرى.
ولا تستعين الحيوانات بأصواتها فقط للتواصل أو نقل المشاعر والانفعالات فبعض الحيوانات تعتمد على الأصوات لترسيم حدود أرضها فيتحول الصوت إلى ما يشبه السياج. وفي كلام منسوب لأفلاطون ان المدينة البشرية كانت ترسم حدودها بناء لمدى الصوت البشريّ. ومساحة الأرض لدى الحيوان تتسع أو تتقلص بناء لكمية الطعام المتوفرة. من هنا مثلا فان مساحة ارض النورس ضئيلة نسبيا لأنه يعتمد في طعامه على ثمرات البحر وليس على ثمرات الأرض، فهي لا تتعدى مساحة العشّ أمّا عند بعض الطيور الأرضية فان المساحة تصل إلى حدود ألفي متر مربّع. والمساحة التي تشغلها الطيور مرتبطة بإمكانية التواصل الصوتيّ مع الفراخ أي انّ جغرافيا الطير محكومة هنا بالصوت. وكما في حياة الناس فقد يعتدي طير على ارض غيره، هنا يقوم مالك الأرض باستخدام أصوات متنوعة لإفهام المعتدي انه دخيل، غير مرغوب فيه. وقد تتطوّر المسألة إلى عراك، إلا ان أجمل ما في عراك الحيوانات انه لا ينتهي بالموت, إذا كان الطرفان من نوع واحد. ولا يلجأ الطير إلى المعركة إلا عند الضرورة القصوى فهو يفضل استعمال التهديد الصوتيّ. وللمعركة طقوس لا يخرقها الفريقان وهي ان القتل ممنوع لان الخوف على النوع من الانقراض يغلب لدى الحيوان غريزة سفك الدم. وهذا ما قرره العالمان الإنجليزيان سميث وبرايس بعد مراقبة ثلاثين ألف صدام بين فأر مسالم وآخر معربد، وبين صقر متعطش للدماء وآخر دمث الأخلاق بل ان الحيوانات تعطي العدوّ فرصة التوبة والتراجع عن الاعتداء، وغالبا ما يترجم الطير نشوة الانتصار بجملة موسيقية ذات نغمة مميّزة.
وتقف الكاتبة في غير مكان عند أحاديث عصفور الدوري وكيف ينوع كلامه لإعلام السامعين بمصدر الخطر، فنغمة الخطر الهابط من السماء غير نغمة الخطر النابت من الأرض. والزرزور يعتمد استراتيجية صوتية شديدة الطرافة إذ يقوم بتكرار صيحات الإنذار للإعلان عن زوال الخطر ولكن بشكل معكوس، أي انه يمارس ضربا من التقليب الصوتي لا غير لتغيير المعنى.
وإنْ كان الصوت وسيلة تواصل ودفاع عن النفس فانه أحيانا ينقلب إلى فخّ لمن يطلقه وخصوصاً من قبل صغار الحيوانات لأنه يلفت نظر الحيوان المفترس. وحين تدرك أمّات بعض الحيوانات ذلك تحاول إرباك العدو بالتنقل من مكان إلى آخر وإصدار أصوات من أماكن مختلفة لتشويش مصدر صوت الصغار وتدرك الفراخ ذلك فتلوذ بالصمت وتترك لأمّها مهمة تمويه الأصوات وتشتيت ذهن المعتدي.
وتقليد الأصوات ليس حكراً فيما يبدو على الببغاوات الشهيرة بتقليد الأصوات الآدمية والتي تقام مباريات بينها في باريس ويفوز من يحفظ أكثر من غيره، ويمكن للببغاء ان يحفظ 500 كلمة و200 جملة بشرية. وتتكلم الكاتبة عن الغداف(وهو نوع من الغربان) وكيف انه يدخل بعض المفردات الآدمية في خطابه مع زميلته وكيف أنها تفهم عليه مقاصده. وطبيعة القواميس وأحجامها تختلف بين الحيوانات باختلاف طبيعة حياة الحيوان الاجتماعية فقواميس التي تعيش في أسراب أو قبائل أغزر وأعقد ممّن لا تعتمد في حياتها على مفهوم القبيلة.
وتنهي الكاتبة كتابها المميز بالنفع الذي يجنيه الإنسان من فكّ دلالات أصوات الحيوانات فمعرفة صيحات السمك تحسّن صيده وخداعه. كما ان معرفة أصوات الحيوانات تفيد في حماية المحاصيل الزراعية من مناقير العصافير خصوصاً أنها تختار عادة أفضل الثمار وأفضل البذار. تقول الكاتبة إنّه يمكن الضحك على العصافير بإسماعها أصوات استغاثة لأقرباء لها تربكها وتشغل بالها فتترك الحقول للقيام بمهمّة الإنقاذ. كما أنّ علم الأصوات الحيوانيّة يسهل توليد أصوات لمنع الزيزان المضرّة بحقول القطن والأرز من التلاقي بين الذكور والإناث مما يؤدي إلى خفض أعدادها أي تكون الأجهزة الصوتيّة المشوّشة وسيلة من وسائل تحديد نسل الزيزان وتقليص ضررها.
إنّ الكتاب يفيد المزارع ويعلّم الصيّاد ويطرب الموسيقيّ وعالم الأصوات الإنسانيّة أيضاً كما يجذب، تأكيداً، هواة الحكايات الطريفة عن شركاء الإنسان في العيش على هذا الكوكب الذي لا يزال مغلّفاً بكثير من الأسرار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق