في الوقت الذي كانت فيه ممثلة الرئيس الفرنسي الشخصية للشؤون الفرنكوفونية، الروائية المغربية الشابة ليلى سليماني تقف في معرض الكتاب الفرنسي وسط بيروت تتحدث لجمع من الحاضرين - بحماسة تحسد عليها - عن سحر لغة موليير وقدرتها العجائبية على فتح المغلق من الأبواب، كان «المجلس الثقافي البريطاني»، ينشر تقريراً جديداً، يؤكد فيه أن اللغة العربية ستكون ثانية في المملكة المتحدة بعد سنوات، وأن الفرنسية ستأتي متأخرة بعدها. وعندما سئلت سليماني التي عينها إيمانويل ماكرون مؤخراً في هذا المنصب، عن معنى أن تدافع عن لغة تتراجع أجابت: «هناك آفاق جديدة تفتح في نيجيريا وغانا والصين، ولا بّد لهذا الإرث أن يحفظ».
وسليماني ذات نشأة مغاربية تماماً كما الجزائري كمال داود الذي أصبح نجماً أدبياً في باريس، ودعي مع سليماني كوجهين صاعدين، إلى معرض الكتاب في فرانكفورت، الذي تمثلت فيه فرنسا ضيفة شرف. وليس من اعتراض، وإنما تساؤل عن سرّ التركيز المتزايد على ضعف العربية ولا جدواها، فيما العالم أجمع يرسل بإشارات حول أهميتها، وتمددها والحاجة المتصاعدة لتعلمها. أمر ينعكس سلباً على طلابنا الذين باتوا يتوهمون بأن إجادة لغتهم مجرد عبء لا طائل تحته. مع أن القاعدة الذهبية تقضي بأن عدم إتقان لغة أولى يعني الفشل في معرفة عميقة بغيرها. وهذا رأي لخبراء في التعليم لهم باع دولي، وليس اجتهاداً شخصياً. وثمة نصيحة أعطيت للمجلس الثقافي البريطاني بأن يكف عن الإصرار على تعليم صغار العرب الإنجليزية، قبل أن يجيدوا لغتهم، لأن الجهود تذهب هباء، لكن يبدو أن الكلام لم يجد آذاناً صاغية.
بمقدور كمال داود وغيره أن يكتبوا باللغة التي يحبون، وأن يندمجوا بالثقافة التي تعجبهم، لكن دون أن يسددوا أسهماً جارحة لمجتمعاتهم. فرغم مواقف الطاهر بن جلون المواربة أحياناً لم يهاجم العربية، ولم يرم حجراً في بئرها. وإدوارد سعيد عاش في أميركا يوم كانت القضية الفلسطينية موسومة بالإرهاب والعنف ولعنة على من يدافع عنها، وهو أكاديمي وسط لوبي صهيوني لا يرحم، ومع ذلك قدّم نفسه ولو باللغة الإنجليزية كمنافح عن قضايا شعبه ونصير للمستضعفين. ولم يعش أديبا ربما، الظلم والهامشية التي عاناها محمد شكري في بلاده. فقصصه في طنجة شهيرة ومريرة، وكتابه «الخبز الحافي» كان من الجرأة والفجاجة بحيث إنه نشر أولاً بالإنجليزية مترجماً، ومن ثم بالفرنسية، ولم نقرأه بالعربية إلا بعد عشر سنوات. ولم نعرف عن شكري أنه «استغرب» أو احتمى بالآخر ليكتب عن بلاده، بل كان من الشجاعة بحيث إنه بقي يناضل ويواجه وينتقد غير آبه بـ«التفرنس» و«التفرنج».
ثمة أدب تغيري حرّ فيه نفح الجذور التي تفرض نفسها، وآخر يناضل وكأنه يبحث عن هوية لا يعثر عليها، وهذا لا علاقة له باللغة التي يكتب فيها، بل بمدى ما يعكسه من انتماء ومشاعر وحساسية تمس القارئ. الباحثة الراحلة فاطمة المرنيسي كتبت إلى جانب العربية بالفرنسية، وكانت جريئة حد الإدهاش، لكن كتابتها تمس شغاف القلب. بحثت عن النساء والإسلام وحقوقهن والظلم الذي يلحق بهن، لكنها كتابة مختلفة تماماً عما يمكن أن نقرأه عند ليلى سليماني في مؤلفها «جنس وأوهام»، وأحوال النساء في المجتمع المغربي، أو حين تتكلم عن بلدها، فيما جاءت روايتها «أغنية هادئة» التي نالت عنها جائزة «الغونكور» وتحكي عن أحوال عائلة عادية تتعرض لجريمة، إنها رواية غاية في الروعة.
يبدو بعض كتاب الجيل الجديد متعطشاً للشهرة، مستعجلاً الوصول، والإحساس بالدونية أمام الغرب تفعل فعلتها. محمد شكري ترجم إلى 38 لغة دون أن يزعج نفسه بتنازلات لا طائل تحتها، ونجيب محفوظ حصل على نوبل دون أن يغادر القاهرة أو يتكلم لغة أجنبية، ووجد ألف سبيل ليتحايل على اللغة والأسماء والأحداث، ليقول أخطر ما يمكن أن يعبر عنه أديب. ولم يقل محفوظ كما كمال داود عن العربية بأنها «مكبلة، ومفخخة بالمقدس ومقيدة بالآيديولوجيات» وعاجزة، بينما الفرنسية هي «لغة الحلم، والتعبير عن الأخيلة». بعد عشرين سنة من هجرته إلى فرنسا حكى أمين معلوف «أنه يرى أحلامه بالعربية» بلغته التي تكلمها وتعلمها وتنفسها بطبيعة الحال. أن تعتبر سليماني «الفرنسية هي لغة الحرية والانفتاح والتشارك» فهذه مهمتها الرسمية التي ارتضتها، ولا بدّ أن تخلص لها. لكن العربية يجب أن تجد أيضاً من يدافع عنها من أبناء جلدتها، وألا تترك المهمة للآخرين، فهذا أمر مشين.
تركيا تعيد العربية إلى المدارس، وتعزز مكانتها التاريخية في البلاد. للأمر دوافع سياسية بطبيعة الحال، وربما آيديولوجية أيضاً. لكن السويد أيضاً باتت لغة الضاد هي الثانية فيها بدل الفنلندية. وصفوف تعليم اللغة العربية تتزايد في كل مكان، لحاجة لها في تلك البلدان وليس بتشجيع من أحد، فهؤلاء يتحسسون التغيرات المقبلة. إضافة إلى اللاجئين، ثمة مصالح وعلاقات تجارية يتم التحضير لها. إنجلترا تعتبر تعليم اللغات «أولوية وطنية» وعلى رأسها العربية، لأن 2 في المائة فقط من طالبي العمل، يستطيعون سد الثغرة. ألمانيا تريد إدماج جحافل المهاجرين السوريين ولا تجد وسيلة سوى إدخال العربية كمادة إلزامية في المدارس. لكن هناك أيضاً المسلمين من الأتراك الذين يجدونها مناسبة لتعلم لغتهم الدينية، أما في الصين فامتد تعليم لغة الضاد إلى 13 جامعة غير المراكز الصغيرة المتفرقة.
الحاجة للتوجه إلى كل شعب بلغته لا بالإنجليزية كما كانت الحال، هي من خصوصيات السنوات المقبلة. ويتوجب ألا نفاجأ حين سيأتينا التركي والإنجليزي والبلجيكي ليحدثنا بلغتنا، ونكتشف أننا أعجز من أن نجاريه في فصحى يتقنها أفضل منا. هذه مأساة. والقول إن العربية لغة العنف، وأن التردي الذي نرتع فيه سيجعلنا أقل جاذبية في عيون الآخرين، تبدو نظرية عديمة الجدوى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق