الأربعاء، 6 مايو 2020

ثوم عمّي أبو حميد ( عبد العزيز الحسن)



ثوم عمّي أبو حميد ( عبد العزيز الحسن)

ما معنى أن لا تغيب عن ذاكرتك وعن عينيك وعن لسانك طعمة عمرها أكثر من أربعين عاما؟
كنّا في الآحاد ونحن صغار " نطلع ع المرجة" ، هكذا كنّا نقول. ولا  أعرف لماذا كنّا نستعمل فعل طلع؟ كنّا نذهب إلى بيت جدّي لأمّي صلاح إسماعيل الأيوبي ( أبو سالم)، فالأحد فسحة للعب في بساتين الليمون، وكنّا في أحيان كثيرة نتغدّى جملة أشياء، ولكن من جملتها الدجاج. كان جدّي يربّي الدجاج في بستانه، وكانت جدّي - رحمها الله - تقوم بمهمّة التقاط الفراريج المنذورة للغداء.
كان عمّي زوج خالتي سليمى ( أم حميد) يتولّى تحضير عمل الثوم ليرافق الفرايج المشويّة. كان الثوم اختصاصه. كنت أعجب بتحضيره للثوم، وبعد أن كبرت واطلعت على طقوس الشاي عند اليابانيين والصينيين تذكرته. لا يختلف تحضيره للثوم عن تحضير الشاب عند أوكاكورا كاكوزو، صاحب كتاب الشاي الشهير.
كان يبدأ بتحضير الثوم، ولا ينتهي من تحضيره إلاّ قبل الغداء معدودات؟
مكوّنات تبلة الثوم من ثوم وحامض وملح وزيت زيتون.
يدقّ الثوم إلى أن أن يصير كعجينة الخبز، ولولا رائحة الثوم لما خطر ببالك أنّ ما تراه هو ثوم مدقوق، يعركه مع الكمية المطلوبة من الملح، وبعد أن يصيرر كالجينة تبدأ لعنة الحامض والزيت، نقاط قليلة من الحامض، ثمّ يعاود العرك إلى أن يختفي أثر نقاط الحامض، يتسربّ الحامض إلى كلّ ذرّة من ذرّات الثوم، بعد ذلك يجيء دور قطرات زيت الزيتون، ويعاود العرك بهدوء ناسك صوفيّ، حتّى تكون هذه القطرات من الزيت قد تغلغلت في أحشاء ذرّات الثوم.
تبدأ القصّة من أولّها، قطرات من حامضة مقطوفة من بستان جدّي، ويظلّ يعركها بمدقّة الثوم حتى الفناء، ثمّ من بعدها قطرات من زيت الزيتون المقطوف من بستان جدّي، تذوب قطرات الزيت في قطرات الحامض في ذرّات الثوم وكأن الزيت والحامض والثوم انتابتهم حالة من الوجد الصوفي، أو كأنّهم من أنصار الحلولية بحسب أهل التصوّف!
لا أعرف كم من الوقت تستعرق عملية تحضير الثوم، ولكن ما أعرفه أنّها حين توضع على المائدة لا يبقى منها نقطة واحدة.
نسمع عن السيف الدمشقي المصقول، ثوم عمّي أبو حميد يمكن أن نستعير له كلمة مصقول.
لم أذق في حياتي أطيب من ثوم عمّي أبو حميد.
تحضيره يعلّمك الصبر، ويعلّمك اليوغا، هل أخذ طريقته في تحضير الثوم من مهنته.
فقد كان دركيّا، وقد يكون الانضباط العسكري جزءا من مكوّنات  الثوم!
رحمه الله!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق