بقلم عباس جواد كديمي هناك العديد من الأسباب التي دفعتني للكتابة عن رواية (الممالك الثلاث) التاريخية الكلاسيكية الصينية، وأبرز هذه الأسباب هو كونها في غاية الروعة الأدبية، ولكنها غير معروفة للقراء العرب المتلهفين بطبعهم للإطلاع على روائع الأدب العالمي. أقول متلهفين وأنا واثق من ذلك، لمعرفتي التامة بأن القارئ العربي شغوف بالمعرفة، وهناك الملايين من محبي التراث الأدبي العالمي، يودون الإطلاع على الأدب الشعبي الصيني، وعلى هذه الرواية التي يعتبرها الصينيون لؤلؤة التاج في تراثهم الأدبي. ومرة أخرى، أقول حقاً إنها جوهرة ثمينة في خزانة الأدب العالمي، لما تحتويه من صور أدبية رائعة من أولها إلى آخرها، لا سيما في السرد الروائي المتقن والتسلسل المترابط للأحداث وقوة الشخصيات النابضة بالحياة. منذ أن أطلعت عليها، أعجبت بها كثيرا، إلى الدرجة التي تمنيت مخلصا أن أتشاطر مبررات هذا الإعجاب مع القراء العرب المحترمين. ورغم إدراكي لحقيقة اختلاف النظرة بين القراء لهذا العمل أو ذاك، ولكنني واثق تماما من أن هذه الرواية، ستحظى بنصيب وافر من الإعجاب بين القرّاء محبي الأدب العالمي. وفي غمرة إعجابي بهذا العمل الروائي الكبير، وتمتعي بقوة الأسلوب والوصف ودقة العبارة، تجلّت في ذهني عبقرية رائعة متجددة تتجسد في الحديث النبوي الشريف "اطلب العلم ولو في الصين"، حيث التأكيد على أهمية معرفة علوم الآخرين وأدبهم، مهما بَعُدت المسافة الجغرافية، كما لو أن هذا التوجيه الكريم يوصينا بمواصلة البحث عن المعرفة والحكمة والكلمة الطيبة والأدب الرفيع في كل زمان ومكان. لقد قرأنا وأطلعنا على أدب شعوب وأمم عديدة، كالأدب الإنجليزي والأمريكي والروسي واللاتيني والأفريقي، والمختلط. وكانت لنا مشاعر مختلفة ومتنوعة حول هذا العمل الأدبي أو ذاك، أو حول هذا الكاتب أو ذاك. ونتذكر جيدا أسماءً لامعة فرضت نفسها في عالم الأدب بمختلف فروعه، أمثال همنغواي وشكسبير وغوركي وبيكيت وطاغور ونيرودا وبرنارد شو وجابريل غارسيا ونجيب محفوظ، وغيرهم. ولكن القليل منا سمع بأسماء أدباء صينيين بارعين مميزين في مجال الرواية والقصة والشعر والمسرح، عدا الفيلسوف الكبير كونفوشيوس، والزعيم السياسي الراحل ماو تسي تونغ. هذا ربما بسبب البعد الجغرافي، وبسبب قلة الأعمال الأدبية الصينية المترجمة إلى العربية. وعندما قرأت بعض الروايات الصينية الكلاسيكية، مثل هذه الرواية، شعرت بأنه من الإجحاف بحق المعرفة والأدب والأديب والقارئ، أن تتأخر ترجمتها إلى العربية حتى يومنا هذا. ولمّا طرحت هذه الملاحظة على زملاء وأصدقاء صينيين مهتمين بالتبادل الثقافي مع العالم العربي، قالوا إن الملاحظة صحيحة، وإنهم يشعرون بنفس المشاعر، ولكن سبب التأخير لم يكن إهمالا ولا إجحافا، بل هو ظروف الصين. لقد تأخرت ترجمة ونشر هذه الأعمال المميزة بسبب انشغال الصين بشيء أهم يتعلق بجهود البلاد لعمل شيء يساعد في تعزيز التنمية وانتشال الملايين من هوة الفقر، ورفع مستوى حياتهم إلى حياة كريمة. وها هي الفرصة قد حانت رغم أنها متأخرة، ولكن لا بأس إذا انصبّت الجهود في إطار واحد يستهدف ترجمة ونشر المزيد من الأعمال الأدبية الصينية لإطلاع القارئ العربي عليها. ومما ينعش الآمال كثيرا حاليا هو أن الصين تولي اهتماما كبيرا لمشاريع ترجمة أدبها الكلاسيكي إلى اللغات العالمية، ومنها لغتنا العربية. الممالك الثلاث هي أول رواية صينية طويلة تظهر بشكل فصول متسلسلة، وكل فصل يحمل عنوانا يشبه بيتين من النثر، تحملان إشارة لفحوى أو مضمون الفصل. ولم يكن لأي رواية صينية أخرى، لا قديما ولا حديثا، التأثير الذي تركته (الممالك الثلاث) على المجتمع الصيني الذي ما فتئ يقتطف منها الشواهد والأمثال حتى يومنا هذا. إنها تتناول أحداث فترة تاريخية مهمة جدا في تاريخ الصين القديم ( 184-280 ميلادي) وتصف بشكل حيوي العوامل والخصائص والصفات التاريخية لفترة أكثر من قرن، وتتعمق في شخصيات رئيسية تعكس من خلالها قوة ووحشية ذلك الصراع الذي استمر عشرات السنين بين ثلاث شخصيات رئيسية بالرواية، هي: ليو بَيْ، وهو رجل من نسل العائلة الإمبراطورية آنذاك؛ وتساو تساو، وهو قائد عسكري مشهور، يعتبر النقيض من الشخصية الأولى؛ وسون تشيوان، نجل جنرال وأمير حرب ترك لابنه إرثا مهما، وأرضية تصلح لأن تكون مملكة. هذه الشخصيات الرئيسية الثلاث، نجحت بعد صراعات دموية مريرة، أن تؤسس الممالك الثلاث (شو، وَي، وو) التي حملت الرواية اسمها. هذه الممالك الثلاث كانت تحتل مساحات في مناطق الصين آنذاك؛ فمملكة شو تمد سلطانها على أراضي الأنهار، جنوب غربي الإمبراطورية، وتحمل أيضا اسم (شو- هان) دلالة على ارتباطها بسلالة هان الحاكمة. ومملكة وَي، في السهول الشمالية والوسطى. ومملكة وو، في أراضي الجنوب، جنوبي نهر اليانغتسي العظيم، وامتدادات للشرق. مؤلف الرواية هو أديب صيني اسمه لوه قوان تشونغ(1330-1400 ميلادي)، أبدع فعلا في إحكام حبكة الرواية بشكل بات يشبه شجرة كبيرة متشعبة الأغصان، كثيفة الأوراق، ولكن بدون وجود أي غصن أو ورقة بمكان نشاز أو غير ملائم. ومن الواضح أنه يمتلك موهبة أدبية مقرونة بثقافة واسعة مكّنته من إبداع رواية نابضة بالحياة، أمينة كل الأمانة على متابعة دقيقة لأحداث تلك الفترة التاريخية وما وقع فيها من أحداث ونزاعات ومؤامرات وخطط وخدع وحروب. في كل عبارة، يمكن للقارئ أن يلاحظ الثقافة الواسعة للمؤلف الذي نجح تماما في نقل صور نابضة بالحياة عن تلك الفترة. وأبرز ما يميّز هذه الثقافة والإطلاع الواسع هو استخدام المؤلف لكلمات وعبارات تنقل صور الأبطال والقادة والمخططين والمستشارين والمقاتلين بمختلف الرتب والأصناف. إنه يبدع في وصف الفرسان وبسالتهم بعبارات نكاد نلمس فيها قوة وحيوية الفارس نفسه. ومن خلال وصفه للمعارك وظروفها، يمكن العودة بالذاكرة إلى تلك الفترة وترك المجال للعين أو للأذن لأن تتصور أو تصغي لصليل السيوف وقعقعة الرماح، واحتدام الفرسان والخيول، وحتى استنشاق غبار المعارك. في هذه الرواية، ما أن تضع حرب أوزارها حتى تنشب أخرى أشرس منها. وما يكاد هذا الطرف يخرج منتصرا، حتى تدور الدوائر عليه في الغد. وما تنتهي هذه المكيدة حتى تبدأ أخرى، وهكذا في سلسلة طويلة تكاد لا تنتهي من الأحداث. ولهذا السبب، يقول الصينيون إنها غير محبذة بين النساء"الرقيقات"، ولا تصلح لكبار السن؛ لأنها تضعهم في لجة أمواج متلاطمة من الأحداث القتالية الدموية والمكائد والمؤامرات، بما يؤثر على هدوئهم وصحتهم وسولكهم! في الحقيقة، إن الرواية رجالية بامتياز! ليس فيها ذكر كثير للمرأة، عدا بعض الإشارات التي يمكن عدّها على أصابع اليد. ذلك لأن الأحداث لا ترتبط كثيرا بواقع يومي يتناول العائلة أو الزواج أو الاجتماعيات الأخرى، بل تتركز على شئون بلاط، ثم خطط واستراتيجيات حربية، جميع أبطالها من الرجال. لا بدّ من القول إنه من أجل هذه السلسلة الطويلة من الأحداث المحبوكة جيدا، تعيّن على المؤلف أن يجمع بين الوقائع التاريخية الحقيقية، وبين عناصر خيالية، حتى تكتمل صورة الحدث الدرامي بشكل روائي مشوّق. وإنصافا لمجهودات هذا المؤلف البارع، يتعين الإشارة إلى أن الخيال مقصود به هنا هو لجوء المؤلف لما كان يرويه القصاصون الشعبيون (الحكواتية)، الذين غالبا ما يلجأون للإطالة والمبالغة. يقول المحللون الأدبيون إن نسبة الواقع إلى الخيال في هذه الرواية هي سبعة إلى ثلاثة، وهذا دليل كاف على واقعيتها. هذه الرواية تركز على فترة زمنية شهدت بداية تدهور وأفول نجم إمبراطورية هان الشرقية عام 184 وصولا إلى سقوطها في عام 220 ميلادي تقريبا، نتيجة عوامل سياسية واقتصادية عديدة. وبسبب ضعفها وفساد بلاطها، ظهرت انقسامات كثيرة. لذلك، تبدأ الرواية بعبارة "من هنا تبدأ الحكاية. العالم الذي ظل مُقسّما، يجب أن يتوحد ثانية"، ويبدو هذا هو هدف المؤلف الذي يقف إلى جانب كل ما يوحد الأمة ويعلي شأنها، ويكتسح كافة مظاهر الفرقة والتشرذم والانقسام. وبما أن البلاط الإمبراطوري كان مترنحا تحت وطأة الفساد والمؤامرات، كان لا بدّ من نهوض المخلصين للإمبراطورية، التي تحظى بدعم السماء، كما كانوا يعتقدون. لذلك، وفي ظل هذه الصورة المأساوية، ظهر الحدث الأبرز في الرواية من خلال لقاء ثلاثة رجال ارتبطوا بعهد الأخوّة وبعلاقة مميزة سيكون لها شأن كبير في أحداث الرواية. لقد أرادها المؤلف علاقة وثيقة أقوى من رابطة الدم، تركز على مفهوم الفضيلة والاستقامة والشجاعة؛ ذلك المفهوم المفقود، والمطلوب بإلحاح في تلك الفترة العصيبة. جمعت علاقة الأخوة بين شخصية بطل رئيسي في الرواية هو ليو بَيْ (لقبه شيوان ده) الإنسان الكريم الأصل والمحتد، الذي يعود أصله إلى الأسرة الإمبراطورية، وبين فارس مقدام شجاع نزيه اسمه قوان يوي (لقبه يون تشانغ)، وفارس باسل اسمه تشانغ فَيْ (لقبه يي دَه). منذ اللقاء الأول، حيث الحبكة الأولى للرواية، يبدع المؤلف في وصف العلاقة بشكل يوحي بقوتها وحيويتها وعمقها، بحيث يجذب القارئ لمتابعة دقيقة لكل ما يتعلق بهذه الشخصيات الثلاث وخصائصها. وبما أن المؤلف يقف إلى جانب وحدة البلاد، ممثلة بضرورة دعم وإسناد وإحياء سلالة هان الحاكمة، فإنه يقف إلى جانب هذه الشخصيات، فيظهرها بالشكل اللائق بأبطال يتعاطف معها القارئ تماما، ويجافي خصومها. ومن الشخصيات الرئيسية المؤثرة دراميا في هذه الرواية، شخصية تساو تساو (منغ ده)، القائد العسكري الإستراتيجي المخادع، النقيض لشخصية ليو بَيْ، الإنسان العطوف. هناك عبارة مشهورة في الرواية، ظلت متداولة حتى اليوم، قالها مؤلف الرواية على لسان تساو تساو، وهي"أفضّل أن أبدأ بالأذى للآخرين، على أن يؤذونني"، وأراد بها وصف هذه الشخصية الذكية لكن الانتهازية التي لا تتورع عن ارتكاب أكبر المعاصي مع أقرب الناس. هاتان الشخصيتان، ليو بيْ وتساو تساو، ستؤسسان مملكتين من الممالك الثلاث، عنوان هذه الرواية، هما مملكتا شو ووَي. أما المملكة الثالثة، وو، فيؤسسها غريمهما الثالث سون تشيوان، وهو نجل جنرال أو أمير حرب مشهور في تلك الفترة اسمه سون جيان، كانت له صولات وجولات، ونفوذ ورجال، خلفها جميعا إلى أبنائه، ومنهم سون تشيوان. بصراحة القول، إنها رواية ممتازة جدا، ولكن سيجد القارئ العربي بعض الصعوبة للوهلة الأولى، بسبب تشابك الأحداث وتعقيدات ارتباطاتها، وكثرة أسماء الشخصيات. وهذا قد يكون شعورا طبيعيا في القراءة الأولى لأي رواية ملحمية، أو قصة متشعبة. ومما لا شك فيه أن الكثير من محبي قراءة الأدب، يدركون هذه الحقيقة، ويؤكدون أن القراءة الثانية ليست كالقراءة الأولى، والثالثة أكثر متعة وإدراكا من الثانية، وهكذا. هذه الرواية كثيرة الأحداث بشكل يبدو أنها لا تنتهي؛ ولكن ربط هذه الأحداث جميعا، يتم بشكل حيوي ذكي بارع يؤكد القدرة الإبداعية الفنية للمؤلف. وهذه إحدى الخصائص والمزايا الهامة للرواية. وفي رواية بهذا الحجم الكبير، والأحداث المتلاحقة المترابطة، توجّب على المؤلف أن يلجأ للتاريخ بكل الوسائل المباشرة والرمزية وغيرها، ويلجأ أيضا إلى الخيال والأسطورة بجانب الوقائع التاريخية الحقيقية. وبالإضافة إلى الشخصيات الثلاث الرئيسية لمؤسسي الممالك الثلاث، هناك شخصيات بارزة لامعة كانت وما زالت مضربا للأمثال في القوة والشجاعة والنزاهة وحفظ العهد والأمانة، مثل شخصية قوان يوي، أو الأمير قوان، المشهور بشجاعته المقرونة بالرجولة والأخلاق الكريمة؛ بحيث ظلت هذه الشخصية خالدة إلى يومنا هذا عبر الأشعار والتماثيل بمختلف الأشكال والأحجام أو الصور أو المجسمات الأخرى، حيث يتخذه الصينيون نموذجا مباركا للاستقامة والنزاهة والبسالة والشرف. وهناك نموذج القوة الجريئة المندفعة المتمثلة بشخصية المقاتل الصلب تشانغ فيْ، الذي يحظى بنصيب وافر من الذكر حتى الآن، كشخصية حيوية قوية تقف إلى جانب الحق مهما كانت الصعوبات ومهما بلغ الثمن. لقد أبدع المؤلف شخصيات روايته بشكل بارع جدا ووفقا لغاية في نفسه؛ فهذا ليو بَيْ (شيوان ده) يحمل اسما عائليا إمبراطوريا، ويمثل الإنسان العطوف الكاسب لثقة الناس واحترامهم، بما يؤهله ليكون زعيما وملكا ثم إمبراطورا. لقد أراد المؤلف أن يقول لنا إنه مع أسرة هان، لأنها اختيار السماء وإرادتها، وهي رمز وحدة البلاد والأمة. لا بد من الإشارة هنا إلى أن الصينيين القدامى كانوا يعتقدون أن الإمبراطور هو ابن السماء، يأتي بحكم من السماء، لذلك طاعته واجبة مثل طاعة السماء، وعصيانه يعني التمرد على السماء. هذا المفهوم أخذ حصة كبيرة في هذه الرواية. ورغم هذا المفهوم التقليدي المرتبط بالسماء، أظهرت الرواية لنا شخصية الإمبراطور كرجل ضعيف مغلوب على أمره، غالبا ما يلجأ للبكاء والنحيب، لا شيء إيجابيا آخر، في مواجهة العصيان أو التمرد على العرش. في هذه الرواية بالذات، يبدو مبررا، ولو قليلا، السبب الذي دفع الكاتب ليجعل الإمبراطور بهذه الشخصية الضعيفة، ربما ليؤكد حقيقة واقعية، ويبرز لنا بصورة أوضح قوة الشخصيات الأخرى في روايته، بشتى جذورها ونوعياتها. ومن أجل إبراز حبكة فنية مشوّقة رائعة، كان لا بد للمؤلف من أن يجمع بين الطبيعي والخارق، وحتى فوق الخارق. لنأخذ مثالا في شخصية تشوقه ليانغ (كونغ مينغ- اسمه الطاوي التنين النائم). هذا الناسك الطاوي الشاب، المستشار الكبير لاحقا لليو بيْ، يتميز بإمكانيات غير عادية أبدا! فإلى جانب علمه وأدبه وثقافته، يتمتع بصفات فوق- بشرية مثل إمكانية استدعاء الرياح والمطر، حسبما تقتضيه الظروف. وكانت له إمكانية قراءة الطالع والمستقبل ومعرفة أصناف الرجال، وحتى ما يدور في تفكير الآخرين، وحكمه صائب دائما بلا أدنى هفوة! حتى أنه يدرك الاستشعار عن بُعد! لقد جعله المؤلف بمثابة الملاك الحارس لليو بَيْ، والعصا السحرية التي تنفذ كل شيء لصالح جانب الخير في الرواية، والمتمثل بالمخلِصين لعرش أسرة هان، وعلى رأسهم الإخوة الثلاثة ليو بيْ وقوان يوي وتشانغ فيْ. ومثال آخر على التشويق الدرامي يتجلى في شخصية الفارس المغوار تشاو تسي لونغ. لقد جعل المؤلف هذه الشخصية ذات ميزة خاصة عن كل الفرسان؛ وما أكثرهم في هذه الرواية الحربية! إنه يتمتع بعَمْلقةٍ مرعبة وقوة جسمانية هائلة؛ ضخم الجثة، صوته كالرعد الهادر، وصولته كالصاعقة المدمرة، لا يُشقّ له غبار ولا يمكن مواجهته. هو المرافق الأمين لليو بيْ (شيوان ده)، والمنقذ في كل موقعة حاسمة. وفي معمعة الأحداث، يصل القارئ إلى موقف يحبس الأنفاس، ويشعر بأن الأزمة قد بلغت مدى خطيرا جدا، يتطلب التدخل العاجل لإيجاد حل ينقذ البطل، ويريح القارئ المتلهف للتفاصيل؛ عندها يظهر هذا الفارس الباسل، فيدفع بالأحداث باتجاه يصب في صالح حسم الأمور، ولو إلى حين. هذه الرواية، حالها حال الملاحم الشعبية الكبرى، مثل حرب البسوس أو داحس والغبراء، ومنها قصة أبو زيد الهلالي، وكذلك إلياذة هوميروس، قد ظهرت بأشكال متنوعة على ألسنة الرواة، وتناقلها الناس جيلا بعد جيل. ولكنها ظلت محافظة على جوهرها الأصلي، كقصة صراعات سياسية شديدة ومعارك دموية وحشية، بين عنصري الخير والشر، ومن خلالها التأكيد على مبادئ الفضيلة والأخلاق والاستقامة. لذلك، كان من الواضح أن كاتب الرواية يقف إلى جانب شخصيات متميزة بالفضيلة والأخلاق، لا سيما الاستقامة والشجاعة والبسالة. مما لا شك فيه أن أي عمل أدبي يستحق صفة رائع، يجب أن يحتوي على عوامل الروعة الحقيقية، وأبرزها حيويته وتأثيره كما لو أنه حالة واقعية تتجسد على أرض الواقع، بغض النظر عن الزمان والمكان. وهذا العمل (الممالك الثلاث) يحتوي الكثير جدا من العوامل الحيوية التي يستحق من خلالها أن يوصف بالعمل الكلاسيكي الرائع. هذا العمل الأدبي الرائع(الممالك الثلاث) قد بدأت مساعي ترجمته منذ نهاية القرن السابع عشر. وقد تُرجِم منذ عشرات السنين إلى اليابانية والكورية والإنجليزية والفرنسية والأسبانية والروسية، وصدر بعدة نسخ وأعداد مختلفة من الفصول. ولكن هذه النسخة المكونة من 120 فصلا، هي الأكثر تنظيما وقربا من النص الأصلي. إنه عمل روائي رائع بكل معنى الكلمة، لا يقل روعة ولا مهارة ولا ذوقا فنيا عن الأعمال الأدبية العالمية المماثلة. هناك الكثير جدا من النقاط والمزايا الواجب ذكرها حول هذه الملحمة الروائية المتميزة، ولكن قلة إمكانياتي الأدبية، رغم طموحي المخلص الكبير، تقف حائلا دون ذكرها جميعا. لذلك، اكتفي بهذا التعريف البسيط، ولكن الأكثر والأعمق سيأتي لاحقا عند صدور نسختها العربية، التي هي قيد الترجمة حاليا. وبالتأكيد، ستكون هناك مقدمة وتعريف بالرواية، أكثر دقة وغزارة وملائمة وفائدة إنشاء الله. ومن الأنسب ترك التفاصيل إلى ذلك الحين، الذي ندعو الله تعالى أن لا يكون بعيدا. فريق الترجمة في دار النشر الصينية باللغات الأجنبية في بكين، يبذل جهدا مخلصا قدر الإمكان لإظهار النسخة العربية بالمضمون والمظهر اللائق بالقارئ العربي المحترم. ولكن، ما كل ما يتمنى المرء يدركه، والطموحات كبيرة جدا، ونسأل الله الموفقية للجميع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق