الأحد، 2 فبراير 2014

قال بشر بن المعتمر:

قال بشر بن المعتمر:

" خذ من نفسك ساعة نشاطك وفراغ بالك وإجابتها إياك، فإن قليل تلك الساعة أكرم جوهرا وأشرف حسبا وأحسن في الأسماع وأحلى في الصدور وأسلم من فاحش الخطأ وأجلب لكل عين وغُرة من لفظ شريف ومعنى بديع . واعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكد والمطاولة المجاهدة، وبالتكلف والمعاودة . ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولا قصدا وخفيفا على اللسان سهلا، وكما خرج من ينبوعه ونجم من معدنه.

وإياك والتوعر، فإن التوعر يسْـلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك. ويشين ألفاظك . ومن أراغ معنى كريما فليلتمس له لفظا كريما، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما، وعما تعود من أجله أن تكون أسوأ حالا منك قبل أن تلتمس إظهارهما، وترتهن نفسك بملابستهما وقضاء حقهما .

فكن في ثلاث منازل، فإن أولى الثلاث أن يكون لفظك رشيقا عذبا وفخما سهلا، ويكون معناك ظاهرا مكشوفا وقريبا معروفا، إما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وإما عند العامة إن كنت للعامة أردت . والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتضع بأن يكون من معاني العامة، وإنما مدار الشرف على الصواب وإحراز المنفعة مع موافقة الحال وما يجب لكل مقام من المقال . وكذلك اللفظ العامي والخاصي . فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك وبلاغة قلمك ولطف مداخلك واقـتـدارك على نفسك إلى أن تفهم العامة معاني الخاصة وتكسوها الألفاظ الواسطة التي لا تـلطف عن الدهماء، ولا تجفو عن الأكفاء ، فأنت البليغ التام .

فإن كانت المنزلة الأولى لا تواتيك ولا تعتريك ولا تسنح لك عند أول نظرك وفي أول تكلفك وتجد اللفظة لم تقع موقعها ولم تصر إلى قرارها وإلى حقها من أماكنها المقسومة لها، والقافية لم تحل في مركزها وفي نصابها ولم تـتصل بشكلها، وكانت قـلقة في مكانها نافرة من موضعها فلا تكرهها على اغتصاب الأماكن والنزول في غير أوطانها، فإنك إذا لم تـتعاط قرض الشعر الموزون ولم تـتكلف اختيار الكلام المنثور لم يعبك بترك ذلك أحد. فإن أنت تكلفتهما ولم تكن حاذقا مطبوعا ولا محكما لسانك بصيرا بما عليك وما لك عابك من أنت أقل عيـبا منه ورأى من هو دونك أنه فوقك . فإن ابتليت بأن تـتكلف القول وتـتعاطى الصنعة ولم تسمح لك الطباع في أول وهلة وتعاصى عليك بعد إجالة الفكرة فلا تعجل ولا تضجر، ودعه بياض يومك وسواد ليلك، وعاوده عند نشاطك وفراغ بالك فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة إن كانت هناك طبيعة أو جريت من الصناعة على عرق .

فإن تمنع عليك بعد ذلك من غير حادث شغل عرض ومن غير طول إهمال، فالمنزلة الثالثة أن تـتحول عن هذه الصناعة إلى أشهى الصناعات إليك وأخفها عليك، فإنك لم تشتهها ولم تـنازع إليها إلا وبينكما نسب، والشيء لا يحن إلا إلى ما يشاكله ، وإن كانت المشاكلة قد تكون في طبقات، لأن النفوس لا تجود بمكنونها مع الرغبة ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة، كما تجود به مع الشهوة والمحبة .

وينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني ويـوازن بينها وبين أقدار المستمعين وبين أقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاما ولكل حالة من ذلك مقاما، حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات، فإن كان الخطيب متكلما تجنب ألفاظ المتكلمين، كما أنه إن عبر عن شيء من صناعة الكلام واصفا أو مجيبا أو سائلا كان أولى الألفاظ به ألفاظ المتكلمين إذ كانوا لتـلك العبارات أفهم، وإلى تـلك الألفاظ أميل وإليها أحن وبها أشغف، ولأن كبار المتكلمين ورؤساء النظارين كانوا فوق أكثر الخطباء وأبلغ من كثير من البلغاء، وهم تخيروا تلك الألفاظ لتلك المعاني، وهم اشتقوا لها من كلام العرب تلك الأسماء، وهم اصطلحوا على تسمية ما لم يكن له في لغة العرب اسم ، فصاروا في ذلك سلفا لكل خلف وقدوة لكل تابع، ولذلك قالوا : العرض والجوهر وأيس وليس ، وفرقوا بين البطلان والتلاشي، وذكروا الهذية والهوية الماهية وأشباه ذلك " .

[ من” البيان والتبيين “ : ( 1/135 وما بعدها ) ]
 
 


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق