كنت قد كتبت، ذات يوم، مقالاً عن رجلّ ظنّ نفسه دجاجة،
وهناك من يستغرب حين احكي له حكاية ذلك الرجل، ويظنّ اني اقول ما اقول من باب
المزاح. لا ريب في أنّ الهلوسات التي قد تصيب بعض البشر لا حدود لها. ولعالم النفس
الشهير " اوليفيه ساكس Olivier Sacks " كتاب قد يعتقد المرء أنّ
عنوانه مجرّد وسيلة غريبة للفت عين القارىء، وعنوان الكتاب " الرجل الذي حسب
زوجته قبّعة"، ويروي فيه حالات نفسية عصيّة وسورياليّة يتعرّض لها بعض الناس،
وهي حالات مؤلمة ومأساوية، تقلب حياة الفرد رأساً على عقب.
لن اتكلم، هنا، على من حسب نفسه دجاجة، ولا على من ظنّ
زوجته قبعة، وانما على من ظنّ نفسه بقرة! ولا أعرف لماذا لم يظنّ نفسه عجلاً او
ثوراً؟ والحكاية التي سأسردها حصلت مع الشيخ الرئيس ابن سينا. ومن يقلّب صفحات
حياة ابن سينا يكتشف قدرات فذّة عند هذا الرجل، فهو خبير بطوايا النفس، ولقد شغلته
النفس فاشتغل عليها شعراً ونثراً، وقصيدته العينية البديعة في النفس غيض من فيض
كتاباته النفسية والنفيسة، ومطلعها:
هبطت عليك من المكان الأرفـــع ورقـــــاء ذات تعــزُّزٍ وتـمنــّــعِ
محجوبةٍ عن كلِّ مقـلـة ناظــــــٍر وهي التي سفرت ولم تتبرقــعِ
حيث سمّى النفس " ورقاء" مع ما تحمله هذه المفردة
من دلالات متعددة وغنية، كما أشار الى تناقضاتها ان شئت حين اعتبرها "محجوبة"
رغم انها "لم تتبرقع"! ولقد نقل التاريخ سيرته التي كتبها بنفسه، ويجدها
القارىء منشورة في كتاب ابن أبي أُصَيْبعة في كتابه القيّم: " عيون الانباء
في طبقات الاطباء".
كان لابن سينا طريقة طريفة في معالجة الأمراض النفسية وذلك باستثمار
قدرات الوهم. تروي لنا كتب التراث هذه الحيلة السينيّة في فكّ العقد العصية كتلك
العقدة التي واجهت الاسكندر المقدونيّ في مقتبل عمره. ولقد نقل الكاتب أمين أسعد خير الله في كتابه: " الطب
العربي / مقدّمة لدرس مساهمة العرب في الطب والعلوم" ، هذه الحكاية السينيّة.
يروي ابن سينا أنّه شفى مريضاً كان يحسب نفسه بقرة، ويطلب بإلحاح أن يذبح، ويطبخ لحمه. ولما رفض أهله إجابة طلبه - تخيّل ان يذعن الأهل لرغبة ابنهم البقرية - انقطع عن الطعام، وضعف كثيراَ، وأقلق الأهل والجيران بصوته الذي يحاكي خوار البقر.
وقد
عالجه
عدّة
أطباء دون نتيجة.
فرجا
أهله
ابن
سينا
أن
يعالجه.
فأرسل
إليه
يقول
إنه
قادم
لذبحه،
حسب
طلبه،
ويجب
عليه
أن
يكون
فرحاً
مسروراً.
وبعد
أيام
حضر
ابن
سينا،
وفي
يده
سكين
طويلة،
وأمر
بربط
يدي
المريض
ورجليه،
وطرحه
على
الأرض،
لأجل
ذبحه، والفتى مستسلم بفرح عظيم، ولمّا همّ ابن سينا بالذبح، جسّ عضلات المريض جسّاً دقيقاً، ثمّ التفت إلى أهله، وقال لهم: إنّ البقرة ضعيفة جدّا، لا ينتفع بلحمها،
ويجب
علفها
جيّداً تسمينها
قبل
الذبح.
فأخذ
المريض
من
تلك
الساعة
يأكل
بشهية حتّى لا يتأخّر ذبحه،
فقوي
جسمه،
وتركه
وهمه،
وشفي
تماماً، وتنتهي الحكاية هنا. كان
من الطريف ان نعرف ردّة فعل المريض بعد أن شفي، وما هو رأيه بتجربته البقريّة؟ الا
ان الحكاية تركت الخاتمة مفتوحة على احتمالات ونهايات متعددة.
ومن
طرائف الحيل الوهمية المستخدمة في علاج أمراض الوهم ، ما حكاه، أيضا، ابن أبي
أصبيعة في "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" عن الطبيب أوحد الزمان أبي
البركات هبة الله المُتوفّى سنة 547 للهجرة ، حيث يقول: "ومن
نوادر أوحد الزمان في المداواة أنّ مريضا ببغداد كان قد عرض له علّة الماليخوليا(
المزاج السوداويّ)، وكان يعتقد أن على رأسه دنّاً، وأنه لا يفارقه أبدا. فكان كلّما
مشى، يتحايد المواضع التي سقوفها قصيرة، ويمشي برفق، ولا يترك أحداً يدنو منه، حتى
لا يقع الدنّ عن رأسه. وبقي هذا المريض مدة، وهو في شدّة منه. وعالجه جماعة من
الأطباء، ولم يحصل بمعالجتهم تأثير ينتفع به. وانتهى أمره إلى أوحد الزمان، ففكر
أنه ما بقي شيء يمكن أن يبرأ به، إلاّ بالأمور الوهمية، فقال لأهله: إذا كنت في
الدار، فأتوني به. ثمّ أنّ أوحد الزمان أمر أحد غلمانه بأن ذلك المريض إذا دخل
عليه، وشرع في الكلام معه، وأشار إلى الغلام بعلامة بينهما، أنه يسارع بخشبة
كبيرة، فيضرب بها فوق رأس المريض على بعد منه، كأنه يريد كسر الدن الذي يزعم أنه
على رأسه. وأوصى غلاما آخر، وكان قد أعد معه دنا في أعلى السطح، أنه متى رأى ذلك
قد ضرب فوق رأس صاحب الماليخوليا، أن يرمي الدن الذي عنده بسرعة إلى الأرض. ولما
كان أوحد الزمان في داره، وأتاه المريض، شرع في الكلام معه، وحادثة، وأنكر عليه
حمله الدنّ. وأشار إلى الغلام الذي عنده، من غير علم المريض، فأقبل عليه، وقال:
والله، لا بدّ لي أن أكسر هذا الدنّ، وأريحك منه. ثم أدار تلك الخشبة التي معه،
وضرب بها فوق رأسه بنحو ذراع. وعند ذلك رمى الغلام الآخر الدنّ من أعلى السطح،
فكانت له جلبة عظيمة، وتكسّر قطعاً كثيرة. فلما عاين المريض ما فعل به، ورأى الدنّ
المنكسر، تأوّه لكسرهم إياه، ولم يشكّ أنه الذي كان على رأسه بزعمه، وأثّر فيه
الوهم أثراً برئ من علّته تلك.
والعلاج
بالايهام قديم قدم الطبّ، ولجالينوس "كتاب حيلة البرء"، وهو الطبيب الذي
ذكره المتنبّي في أحد أبياته كرمز للطبيب الماهر:
يموت راعي الضأن في جهله ميتة جالينوس
في طبِّه
ويحكي
جالينوس في كتابه عن العلاج بالوهم، والوهم داء ودواء، وقد يكون دواء ناجعاً جدّا!
ومن ذلك ما حكاه الرهاويّ في كتابه "أدب الطبيب" عن جالينوس عندما دعي
لعلاج مريض توهّم أنه بلع حيّة! حيث يقول: "وذلك أن جالينوس سمع أنّ إنساناً
توهّم أنه قد بلع حيّة، فعولج بكلّ دواء، فلم ينجح فيه. فلمّا وقف جالينوس على
خبره، سأله: هل تعرف لون تلك الحيّة؟ فقال: هو اللون الفلانيّ، ومقدارها المقدار
الفلانيّ. فأمر سرّاً بمن صاد له حيّة بتلك الصورة. وأخفاها بلطيف الحيلة، وسقى
المريض دواء قذفه (استفرغه)، وشدّ عينيه حين أخذ يقذف، وسرح الحيّة المذكورة مع
القذف. وأمر من حضر أن تعلو أصواتهم بالتباشير بخروج الحيّة بالقذف. فحين فضّ عن
عيني المريض، قال: هذه هي الحيّة التي ابتلعتها بعينها، وقد وجدت الراحة، فبرئ برءاً
تامّاً من توهمّه.
ثمّة
مثل عربيّ يقول: لا يفلّ الحديد إلاّ الحديد، ويبدو أنّ بعض الوهم على غرار الحديد
لا يعالج إلاّ بوهم من معدنه، أو كما يقول أبو نواس: ودَاوني بالّتي كانَتْ هيَ
الدّاءُ!
بلال عبد
الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق