لم يحرم أحد من حُلُم، حُلم في منام او في يقظة. ومَنْ ينكر وجود أحلام في لياليه عليه أن يشك في ذاكرته وأن يضع اللوم على النسيان لا على مناماته! والحلم نعمة مضمرة. ولا يمكن للمرء ان يتصوّر حياة «قابلة للحياة» لولا فسحة الحلم. الموتى وحدهم ربما! لا ينعمون بالأحلام. إن المنام مثل القوة الناعمة التي تضبط إيقاع الأيام. ونطرد بها الأفكار السوداء او شبح الأوقات الدّكناء. تخيّل نفسك إنساناً لا يحلُم تدرك مدى تعاستك المُتخيّلة او المحتملة.
كلّ إنسان يحلُم، ونادرة هي الأحلام التي تبقى في الذهن، فأكثرها عمره غمضة طرف - في اليابان يعمل العلماء، اليوم، على ابتكار جهاز واعد لاستعادة المنامات المنسيّة من تلافيف الدماغ - فالمنامات هشّة ما إن نصحو من الإغفاءة حتى تذوب مع المياه التي نغسل بها وجوهنا. وحين ننشط، نضعها خلف ظهورنا وكأنها ما كانت. ولكن بعض الأحلام تطاردنا، تحاصرنا، تتشبّث بنا وترافقنا كالظل. وهي أحلام وردية، جميلة ولكن تصبح، لفرط هيمنتها، أحلاماً كالجحيم، لا تطاق، تتحوّل الى ما يشبه الكوابيس، بل، وهذا الأدهى، الى ما يشبه الحقيقة التي لا شك فيها. وما أشقى الانسان الذي يعيش وهماً وهو يعرف أنه وهم، ولكنه يأخذه مأخذ الجِدّ ويتعامل معه على أنه حقيقة مستبدّة الحضور. بعض الناس لا يميّزون بين ما يعيشونه وبين ما يَرونه في المنامات. تكون حياتهم امتداداً شفيفاً لمناماتهم بحلوها ومرّها او العكس. وثمّة حكاية حقيقية يرويها الفقيه الأندلسي ابن حزم، وهو من كبار رجالات الكلام والفكر الديني الاسلامي، بل أنه يمتاز عن غيره بكونه من أوائل من كتب بجرأة نادرة عن الحبّ، وعن تجربته الغرامية، وهو الفقيه الجليل، في كتاب له ينمّ عن فكر دقيق، وقلب رقيق، وخيال وثّاب، اسمه: «طَوْق الحمامة في الأُلفة والأُلاّف»، وهو من ألطف الكتب التراثية التي تناولت موضوع الحبّ إذ لم يترك تفصيلة من تفاصيل الحبّ او علامة من علاماته إلاّ وتناولها بمقدرة لغوية وفكرية ونفسية حاذقة، ممزوجة بتجربة روحية حارّة، وبتجارب أيضاً لأُناس عبرت أقاصيص حبّهم في حياته فدوّنها في كتابه. ومن الأقاصيص التي ذكرها ابن حزم أقصوصة شديدة الطرافة والغرابة بطلها إنسان من شحم ولحم لا من طيف حلم (من مصادفات العربية التشابه الصوتيّ البيّن بين اللحم والحلم) يسردها كالتالي:
«دخلت يوماً على أبي سَريّ عمّار بن زياد صاحبنا مولى المؤيَّد فوجدته مفكّراً، مهتماً فسألته عمّا به، فتمنّع ساعة ثم قال لي: أعجوبة ما سُمعتْ قط. قلت: وما ذاك؟ قال: رأيت في نومي، الليلة، جارية فاستيقظت وقد ذهب قلبي فيها وهمت بها، وإني لفي أصعب حال من حبّها. ولقد بقي أياماً كثيرة، تزيد على الشهر، مغموماً، لا يهنئه شيء وجْداً، الى أن عذلته وقلت له: من الخطأ العظيم ان تشغل نفسك بغير حقيقة، وتُعلِّق وهمك بمعدوم لا يوجد، هل تعلم من هي؟ قال: لا والله، قلت: إنك لقليل الرأي، مصاب البصيرة، إذ تحبّ من لم تره قط، ولا خلق ولا هو في الدنيا، ولو عشقت صورة من صور الحمّام لكنت عندي أعذر. فما زلت به حتى سلا وما كاد». (ذكر حضور الصور في حمّامات الأندلس، في زمن ابن حزم، لافت للعين!)، ومن المهم تأريخ حضور الصورة في الحضارة الاسلامية.
الطريف في الأمر ان ابن حزم نفسه كاد، أيضاً، ان يقع فيما وقع فيه صاحبه، بحسب ما يروي في طيّات كتابه «طوق الحمامة»، وهذا ما زوّده، على ما يبدو، بقدرة على إسعاف صديقه وإعانته في الخروج من محنته الغرامية والمنامية اللاذعة.
يعلن ابن حزم، بدءًا، أنه يتكلّم في الغريب والعجيب (ألم يسمّ القصة بالـ«أعجوبة»؟)، في الكلام الذي يشرق من وراء أفق الغرابة، بل إنه يعُدّ عشق الصور عشقاً معقولاً مقارنة بعشق فتاة من طينة منامية هُلامية. إن الصورة شيء له، في الأخير، حجم وشكل وملمس ووجود عينيّ، أما عشق فتاة خرجت من تضاعيف منام فهو عشق، فعلاً، غريب. لم يذكر لنا ابن حزم تفصيلاً أكثر عن هذه العلاقة الملتبسة بين صاحبه و«هيفاء» منامه الفاتنة. هل زارته هذه المحبوبة زيارة عابرة في حلم عابر ام أنها كانت تتردّد عليه كثيراً في المنام، تنتهز حلول الليل والكرى لتمضية «الليالي الملاح» مع أبي سريّ الملتاع قلبه ام لا؟.
يروي ابن حزم في كتاب له آخر وهو «الأخلاق والسِّيَر» أنه كان يقوم، هو نفسه، بزيارات ليلية او منامية الى العالم الآخر ويتحادث مع أصحابه الموتى. هل من طريق آخر، في أي حال، غير المنام للدردشة مع الموتى ومعرفة أخبارهم؟ المثكولون يعرفون جماليات اللقاء المناميّ مع مَنْ حُرموا رؤيتهم في الدنيا والفرحة التي يتركها عبور أطيافهم على شريط مناماتهم. يقول ابن حزم العبارة التالية: «كنت عاهدت بعضهم - أي بعض الأصحاب - في التزاور بعد الموت، إنْ أمكن ذلك، فلم أره في النوم بعد ان تقدّمني الى دار الآخرة، فلا أدري أنسي ام شغل؟»، وقد تُنسي مشاغل الآخرة العلاقات الاجتماعية في الحياة الدنيوية!.
في ألف ليلة وليلة، متشابهات كثيرة لهذه القصة المنامية الغريبة (وهنا أشير الى بحث طريف كتبه الناقد المغربي عبدالفتاح كيليطو عن مملكة «النوم» الرحيبة في حكايات ألف ليلة وليلة). ولكن ألف ليلة وليلة تبقى مجرد تسلية سردية او حنكة شهرزادية لتعليق تنفيذ حكم الاعدام بسيّدة السّرد العربي او وسيلة لتشكيل عصب حكاية ليلية. أما قصة حبّ صاحب الفقيه الأندلسي ابن حزم فهي مأساة حقيقية حتى ولو كانت جذورها منامية عاشها رجل من لحم ودم وحفنة من أحلام.
وما أكثر الأحلام الرائعة والمريعة في آن! وما أكثر الذين يقعون في غرام الأوهام!.
ألم يذهب «نرجس» ضحية وجّهٍ مرسوم على صفحة ماء، و«بيغماليون» ضحية امرأة نحتتها يداه في الرخام؟.
كلّ إنسان يحلُم، ونادرة هي الأحلام التي تبقى في الذهن، فأكثرها عمره غمضة طرف - في اليابان يعمل العلماء، اليوم، على ابتكار جهاز واعد لاستعادة المنامات المنسيّة من تلافيف الدماغ - فالمنامات هشّة ما إن نصحو من الإغفاءة حتى تذوب مع المياه التي نغسل بها وجوهنا. وحين ننشط، نضعها خلف ظهورنا وكأنها ما كانت. ولكن بعض الأحلام تطاردنا، تحاصرنا، تتشبّث بنا وترافقنا كالظل. وهي أحلام وردية، جميلة ولكن تصبح، لفرط هيمنتها، أحلاماً كالجحيم، لا تطاق، تتحوّل الى ما يشبه الكوابيس، بل، وهذا الأدهى، الى ما يشبه الحقيقة التي لا شك فيها. وما أشقى الانسان الذي يعيش وهماً وهو يعرف أنه وهم، ولكنه يأخذه مأخذ الجِدّ ويتعامل معه على أنه حقيقة مستبدّة الحضور. بعض الناس لا يميّزون بين ما يعيشونه وبين ما يَرونه في المنامات. تكون حياتهم امتداداً شفيفاً لمناماتهم بحلوها ومرّها او العكس. وثمّة حكاية حقيقية يرويها الفقيه الأندلسي ابن حزم، وهو من كبار رجالات الكلام والفكر الديني الاسلامي، بل أنه يمتاز عن غيره بكونه من أوائل من كتب بجرأة نادرة عن الحبّ، وعن تجربته الغرامية، وهو الفقيه الجليل، في كتاب له ينمّ عن فكر دقيق، وقلب رقيق، وخيال وثّاب، اسمه: «طَوْق الحمامة في الأُلفة والأُلاّف»، وهو من ألطف الكتب التراثية التي تناولت موضوع الحبّ إذ لم يترك تفصيلة من تفاصيل الحبّ او علامة من علاماته إلاّ وتناولها بمقدرة لغوية وفكرية ونفسية حاذقة، ممزوجة بتجربة روحية حارّة، وبتجارب أيضاً لأُناس عبرت أقاصيص حبّهم في حياته فدوّنها في كتابه. ومن الأقاصيص التي ذكرها ابن حزم أقصوصة شديدة الطرافة والغرابة بطلها إنسان من شحم ولحم لا من طيف حلم (من مصادفات العربية التشابه الصوتيّ البيّن بين اللحم والحلم) يسردها كالتالي:
«دخلت يوماً على أبي سَريّ عمّار بن زياد صاحبنا مولى المؤيَّد فوجدته مفكّراً، مهتماً فسألته عمّا به، فتمنّع ساعة ثم قال لي: أعجوبة ما سُمعتْ قط. قلت: وما ذاك؟ قال: رأيت في نومي، الليلة، جارية فاستيقظت وقد ذهب قلبي فيها وهمت بها، وإني لفي أصعب حال من حبّها. ولقد بقي أياماً كثيرة، تزيد على الشهر، مغموماً، لا يهنئه شيء وجْداً، الى أن عذلته وقلت له: من الخطأ العظيم ان تشغل نفسك بغير حقيقة، وتُعلِّق وهمك بمعدوم لا يوجد، هل تعلم من هي؟ قال: لا والله، قلت: إنك لقليل الرأي، مصاب البصيرة، إذ تحبّ من لم تره قط، ولا خلق ولا هو في الدنيا، ولو عشقت صورة من صور الحمّام لكنت عندي أعذر. فما زلت به حتى سلا وما كاد». (ذكر حضور الصور في حمّامات الأندلس، في زمن ابن حزم، لافت للعين!)، ومن المهم تأريخ حضور الصورة في الحضارة الاسلامية.
الطريف في الأمر ان ابن حزم نفسه كاد، أيضاً، ان يقع فيما وقع فيه صاحبه، بحسب ما يروي في طيّات كتابه «طوق الحمامة»، وهذا ما زوّده، على ما يبدو، بقدرة على إسعاف صديقه وإعانته في الخروج من محنته الغرامية والمنامية اللاذعة.
يعلن ابن حزم، بدءًا، أنه يتكلّم في الغريب والعجيب (ألم يسمّ القصة بالـ«أعجوبة»؟)، في الكلام الذي يشرق من وراء أفق الغرابة، بل إنه يعُدّ عشق الصور عشقاً معقولاً مقارنة بعشق فتاة من طينة منامية هُلامية. إن الصورة شيء له، في الأخير، حجم وشكل وملمس ووجود عينيّ، أما عشق فتاة خرجت من تضاعيف منام فهو عشق، فعلاً، غريب. لم يذكر لنا ابن حزم تفصيلاً أكثر عن هذه العلاقة الملتبسة بين صاحبه و«هيفاء» منامه الفاتنة. هل زارته هذه المحبوبة زيارة عابرة في حلم عابر ام أنها كانت تتردّد عليه كثيراً في المنام، تنتهز حلول الليل والكرى لتمضية «الليالي الملاح» مع أبي سريّ الملتاع قلبه ام لا؟.
يروي ابن حزم في كتاب له آخر وهو «الأخلاق والسِّيَر» أنه كان يقوم، هو نفسه، بزيارات ليلية او منامية الى العالم الآخر ويتحادث مع أصحابه الموتى. هل من طريق آخر، في أي حال، غير المنام للدردشة مع الموتى ومعرفة أخبارهم؟ المثكولون يعرفون جماليات اللقاء المناميّ مع مَنْ حُرموا رؤيتهم في الدنيا والفرحة التي يتركها عبور أطيافهم على شريط مناماتهم. يقول ابن حزم العبارة التالية: «كنت عاهدت بعضهم - أي بعض الأصحاب - في التزاور بعد الموت، إنْ أمكن ذلك، فلم أره في النوم بعد ان تقدّمني الى دار الآخرة، فلا أدري أنسي ام شغل؟»، وقد تُنسي مشاغل الآخرة العلاقات الاجتماعية في الحياة الدنيوية!.
في ألف ليلة وليلة، متشابهات كثيرة لهذه القصة المنامية الغريبة (وهنا أشير الى بحث طريف كتبه الناقد المغربي عبدالفتاح كيليطو عن مملكة «النوم» الرحيبة في حكايات ألف ليلة وليلة). ولكن ألف ليلة وليلة تبقى مجرد تسلية سردية او حنكة شهرزادية لتعليق تنفيذ حكم الاعدام بسيّدة السّرد العربي او وسيلة لتشكيل عصب حكاية ليلية. أما قصة حبّ صاحب الفقيه الأندلسي ابن حزم فهي مأساة حقيقية حتى ولو كانت جذورها منامية عاشها رجل من لحم ودم وحفنة من أحلام.
وما أكثر الأحلام الرائعة والمريعة في آن! وما أكثر الذين يقعون في غرام الأوهام!.
ألم يذهب «نرجس» ضحية وجّهٍ مرسوم على صفحة ماء، و«بيغماليون» ضحية امرأة نحتتها يداه في الرخام؟.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق