تأثير سوير Sawyer
أخطر ما يمكن أن يصيب حياة
إنسان هو أن يحبس نفسه وعينيه في وجهة نظر واحدة. ولنا في "زوم"
الكاميرا أسوة حسنة، ولكن هذا يتطلب، في أي حال، تدريبات ومهارات. كل الكاميرات
اليوم تمتلك العدسة المتحركة، ولكن ليس كل ّمن صوّر عنده مهارة في لقط الصور. الزوم
أستاذ ماهر في تعليم الإيجاز/ التقريب، والإطناب/ التبعيد، والحذف والإضافة. ويمكن
الاستفادة، هنا، من كتاب الناقد الفرنسيّ اللامع رولان بارت " الغرفة
المضيئة" المخصّص لدراسة الصورة.
في فنّ التصوير مصطلح "إعادة التأطير recadrage" وتمّت
استعارته من قبل ميادين معرفية مختلفة، وهو
يعني وضع مشكلة ما ضمن إطار جديد. نحن أحيانا ضحايا لأنفسنا، ولطريقتنا في
التفكير، وضحايا الإطار المتجمّد. هناك أساليب كثيرة يعمل عليها متخصّصون في إدارة
الأعمال وعلم الاجتماع والنفس، منهم بول فاتسلافيك ( Paul Watzlawick ) أحد علماء مدرسة بالو آلتو في كاليفورنيا وهو
يرى أن علاج مشاكل كثيرة نفسية أو اجتماعية تكمن في عملية تغيير وجهة النظر إلى الأشياء.
أشياء العالم تشبه المفردات اللغوية، والمفردات يتغير وقعها وقيمتها ودلالتها من
الجوار أو الإطار الموضوعة فيه. السياق هو الإطار الذي من تضاعيفه ينبثق المعنى.
فما يحزنك قد يتحول إلى مصدر سعادة فقط لأنك غيرت طريقة تعاملك معه أي غيّرت
" نظرتك" إليه ووضعته في " إطار جديد".
نعرف هناك مصطلحات كثيرة تولد من رحم روايات
وقصص واقعية أو خيالية أو خرافية. فرويد مثلاً استوحى من أوديب الشخصية اليونانية الأسطورية
مصطلح "عقدة أوديب" لتشريح العقد النفسية. ووقع تحت نظري مصطلح " أثر
سوير l'effet sawyer "، و"سوير" شخصية
طفولية فاتنة وقريبة إلى القلب لعبت دور البطولة في رواية "مغامرات توم
سوير" للكاتب الأميركيّ مارك توين
الذي لا يخلو أدبه من نبرة ساخرة ولاذعة.
الرواية تحكي مغامرات فتى
صغير، عفريت وخفيف الظلّ، ولكن علماء كثيرين وجدوا في تضاعيفها أفكارا وعلاجات ومصطلحات،
منها مصطلح " أثر سوير"، ويقصد بالمصطلح "إعادة تأطير" مشكلة
ما، والنظر اليها من زاوية أخرى عبر وضعها في " إطار جديد".
تشاجر، ذات يوم، "
توم" مع أحد أولاد الحيّ، وعاد الى البيت ممزق الثياب، فقررت عمته التي كان
يعيش في كنفها ان تعاقبه. كان العقاب هو طلاء سور الحديقة وطوله ثلاثون متراً.
توقيت العقاب ( وقت الإجازة) زاد من وقعه الكئيب. الأطفال يلعبون، بينما هو يقوم
بهذا العمل الشاقّ. تضادّ جارح بين حاله وحال أترابه. ولقد صوّر مارك توين هذا التضادّ المؤلم في
الفقرة الأولى من الفصل الثاني: " وجاء صباح يوم السبت، وكان يوما مشرقا،
منعشا، مملوءا بالبهجة، وكانت السعادة
تملأ كلّ قلب ما عدا قلب توم".
مرّ من قرب توم " بن" ، وهو من أثقل
الأطفال ظلاّ على قلب توم، صديق لئيم، فراح يسأله أسئلة تنمّ عن شماتة وتشفّ. ماذا
يفعل توم؟ كيف يقلب الظروف لصالحه؟ كيف ينتصر على صديقه الشامت؟ لمعت بباله فكرة، فكرة بسيطة، ولكن غيّرت كلّ
شيء. لقد استثمر عقابه بطريقة فذةّ، حول
عقابه إلى مصدر رزق دسم ولذّة في آن من خلال ما عرف بـ"أثر سوير" أي
إعادة التأطير. وضع "عقابه" في إطار جديد، نقله من إطار العقاب إلى إطار
المتعة. حوّل السور إلى " قماشة رسّام"!
لم يرد على صديقه الشامت،
بل راح يدنو ويبتعد عن السور وهو يتأمله بشغف يشبه شغف الرسام أمام لوحة تولد على
يديه. سمع صديقه وهو يسأله، ولكن تظاهر بأنه لم يسمع. وبعد فترة تظاهر بأنه انتبه
الى صديقه الثقيل" بن" وأسئلته الناعرة، ولكنه حول أسئلة صديقه إلى شبكة
صيد سحريّة، فكان ردّ توم ان ما يقوم به فرصة ذهبيّة نزلت عليه من السماء، وهي لا
تسنح لمن هم في عمره، فرصة جميلة وممتعة. الشاقّ والسخيف تحوّل إلى جميل وممتع،
والسخرة إلى نعمة. أظهر لصديقه انه يمارس
متعة نادرة المذاق. كان يدير ظهره لصديقه وهو يتكلّم، وبين الحين والحين كان
يتراجع ليتأمّل البياض، ثم يضيف لمسة هنا أو هناك كما لو أنه رسّام عن حقّ وحقيق.
طلب منه صديقه أن يسمح له بطلاء السور، وتجربة
هذه المتعة، ولكن توم تمنّع، أظهر رفضا قاطعا، فهذه المتعة لا يحب أن يفرط بها.
كان في يد الصديق تفاحة شهية، اثارث لعاب
توم، كما أثارت الفرشاة رغبة صديقه في ممارسة متعة الدهان. انقلبت الأدوار بين توم
و"بن" الشامت. تحولت الشماتة إلى حسد أو غيرة بعد أن قام توم بـ"إعادة تأطير"
العقاب. اقترح " بن" أن يعطي توم التفاحة في مقابل السماح له بالمساهمة
في طلاء السور، لم تكن موافقة توم سريعة، فهو لن يستغني بسهولة عن "
متعة" الطلاء، ولكنه وافق بعد مماطلة متعمّدة، وأخذ توم التفاحة، وأعطى بن
الفرشاة، وقلبه يكاد يطير من صدره من الفرحة، وهكذا " بينما كان بن يعمل في
جدّ ومشقة، والعرق يتصبّب منه، جلس الفنان المتقاعد توم على برميل في الظل، واضعا
ساقا فوق ساق، وهو يقضم التفاحة في لذّة، مفكرا فيمن يكون ضحيته التالية بعد بن".
توالى الأصدقاء واحداً إثر آخر، وهم يتلهّفون
على انتهاز الفرصة التي يقدمها لهم توم لقاء أجر، فتحقق لتوم بعد أن نفد الدهان
ثروة محترمة من ذلك العقاب. غيّر " توم" مسار "العقاب"، فأنقذ
نفسه من الشماتة، ومن العمل الشاقّ، وملأ جيبه بالنقود، وكلّ ذلك بفضل "
إعادة التأطير" أو ما بات يعرف أيضاً بـ "أثر سَوْيَر".
ويدبو أنّ مسار الأقدار ليس أكثر من وجهات في الأنظار!
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق