سخّان فستق
عبيد
ثمّة حكاية
تعود أحداثها إلى أيام كانت فلسطين في يد العرب، قبل أن يأتي الغرب
"الديمقراطيّ" ويزرع الكابوس الاسرائيليّ وسط عالم عربي تجري المياه الآسنة
من تحت قدميه وهو لا يدري!
تدور الحكاية حول رغبة عنّت ببال فتى طرابلسيّ
في السابعة عشرة من عمره، وهي زيارة عمّته التي تزوجت من فلسطينيّ وسكنتْ في القدس، فذهب
إلى الجنوب مع ثلّة من أترابه، لهم مثله، في القدس أقرباء. ومن هناك عبروا الحدود
سيراً على الأقدام، لأنّهم لا يملكون أوراقا ثبوتيّة تسمح لهم بالسفر الشرعيّ، بل
ما كان يخطر لهم ببال أن زيارة أقربائهم تحتاج إلى أوراق. إنّ صلة الرحم لا تؤمن،
في نظرهم، بالحدود، أيّاً كان لونها، فضلاً عن أن الحدود كانت لا تزال، في ذلك
الوقت، طريّة العود، ولم يجفّ حبرها الغربيّ الملوّث بعد. كان وصوله إلى القدس
مغامرة، ولكنّ الفتى انتبه إلى أنه يحبّ العمل، فهو اعتاد منذ نعومة أظفاره على
العمل بل انه حين ينبش في مطويّات ذاكرته عن أيّام الطفولة اللاهية تخونه ذاكرته
باستمرار، ولعلّ ذلك من حسنات يتمه الباكر، إنْ كان لليتم حسنات. وما إن وصل إلى
القدس حتى نسي أنّه أتى بهدف زيارة عمّته، والسبب أن زوجها كان نجّاراً
بسيطاً، شغله على قدّه، وهو لا يطمح إلى أكثر
من تأمين كفاف يومه. فقد كان قنوعاً، ومتمسّكاً بذلك الكنز الذي يفتخر بحيازته عدد
لا بأس به من أقرباء الفتى وهو أن "القناعة كنز لا يفنى". وكان الفتى يرى
بخلاف ذويه أن عباءة الفقر المهلهلة التي تلفّ طفولته ليست إلاّ بنتا شرعية لهذا
المثل الفاني، ولم يشذّ زوج عمته عن قاعدة القناعة، بمفهومها الضيّق الذي يقصم ظهر
الأحلام والتطلعات، وعليه فإنّ زوج عمته كان يقفل محله بمجرّد شعوره أنّ كفايته
اليومية قد صارت في جيبه، فيذهب إلى القيلولة ومن بعدها يرتاد المقهى حيث تكون
نارجيلته تنتظر تشريفه وشفتيه، كما كانت تنتظره أيضاً لعبة الورق أو لعبة الداما.
وكان المقهى يكتظّ بالذين يشعرون أن الوقت عدوّ مقيت، شديد الوطأة عليهم، ولا
يعرفون كيف يتخلّصون منه لولا نعمة "ورق اللعب" وطقطقة أحجار الداما،
وقرقعة النراجيل.
كان الفتى يقضي
الوقت في محلّ زوج عمّته، ومرّ ذات يوم بائع فستق العبيد السوداني، ولا تزال أنوف
الكبار في السنّ حتى في طرابلس، فيما أتصوّر، تتذكّر فوح رائحة الفستق الشهيّ الذي
كان يتجوّل به البائع، ساخناً، بين الأحياء الشعبيّة. وكان باعة الفستق يقصدون زوج
عمته لأخذ قطع من الخشب وقودا لسخّاناتهم. كان الفتى قد لاحظ أن خلف محلّ عمّه مكبّاً
لفضلات التنك والصفيح، ولم ير الفتى في الفضلات غير موادّ أولية حاضنة لفستق
العبيد، فكان وهو يتأمل السخّان يحاول تفكيكه بذهنه وإعادة تركيبه وحفظ انحناءات
جدرانه وموقع بيت النار وقطر المدخنة وطولها. استفسر من البائع عن كلفة السخان، ثمّ
اقترح عليه أن يبيعه إيّاه بسعر أرخص. وذهب الفتى، من فوره، إلى المكبّ وراح ينتقي
القطع المناسبة، وكانت العدّة في محل زوج عمته عوناً له على الإسراع في صنع السخّان،
وفي اليوم التالي كانت السخّان جاهزاً ومعروضاً على مدخل المحلّ بانتظار نصيبه،
وصادف أن مرّ بائع كان سخانه في آخر عمره، فأعجبه السخّان واستحسن السعر فاشتراه
بدينار فلسطيني، وكان للدينار، في ذلك الزمان، صدى رنّان. ونشط الفتى فراح يصنع سخّانا
في كلّ يوم، ويبيعه بدينار.
لم يستوعب زوج العمّة كيف أن هذا الولد الذي لا
يملأ العين قادر على أن يجني في يوم واحد ما يجنيه هو في أسبوع، لم ينتبه زوج
العمة إلى أن الولد لم تكن علاقته، مع ورق اللعب، طيّبة، وان العمل هو اللهو المفضّل
لديه، بل إلى اليوم تفلت من لسان شيخوخته
مفردة دالّة على نظرته إلى الحياة ويستخدمها كمرادف حرفيّ لكلمة العمل وهي "التسلية"،
كما أن ألذّ ما في شخصه أنه لا يعرف ما معنى "الضجر" الذي يعاني منه،
للأسف، كثير من خلق الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق