الاثنين، 28 أبريل 2014

دعبل الخزاعي،


دعبل الخزاعيّ

ليس هناك نصّ ثابت، ليس هناك نصّ بمستطاعه أن يقول لك آمراً: لا تلعب بي، خذني كما أنا، أو دعني وشأني. أجمل ما في النصوص هو القدرة على اللعب بها، قد تحذف حرفاً واحدا من كلمة، أو تضيف حرفاً واحداً على كلمة، وقد تترك الجملة كما هي ثمّ تزيد كلمة واحدة في أوّلها أو في آخرها، فتقلب النصّ رأساً على عقب، وتغيّر مسار المعنى، فتضيف أو تضفي إليه رونقاً خاصاً، ( وهنا أشير إلى مقامات أبي القاسم الحريريّ اللغويّ اللعوب حيث حاول أن يظهر كلّ الطاقات الممكنة الكامنة في رحم اللغة). واليوم لفت نظري بيت شعر للشاعر العبّاسيّ دعبل الخزاعيّ وهو شاعر هجّاء، لا يعجبه العجب، وأظهر احتقاره للناس، بل أظهر ما يفوق الاحتقار، محا بجرّة قلم كلّ البشر عن وجه البسيطة، قال عنه ابن خلّكان: " كان بذيء اللسان، مولعاً بالهجو والحط| من أقدار الناس. هجا الخلفاء: الرشيد والمأمون والمعتصم والواثق ومن دونهم. وكان يتوقّع أن يقتل بسبب لسانه السليط، فكان يقول: لي خمسون سنة أحمل خشبتي على كتفي أدور على من يصلبني عليها فما أجد من يفعل ذلك، ومن شعره اللاذع في الهجاء قوله:

" ما أكثر الناس لا بل ما أقلهم, اللَّهُ يَعلَمُ أَنّي لَم أَقُلْ فَنَدا.

إني لأفتحُ عيني حين أفتحها, على كثيرٍ ولكن لا أرى أحداً " .

ولكن الدكتور منذر عيّاشي أخذ البيت الثاني من  بيت دعبل كما هو، واكتفى لتغيير الدلالة ونقل المعنى من حيّز الهجاء الى حيّز الغزل بإضافة كلمة واحدة، بسيطة، فقال:

" وإنّي

 لأفتح عيني حين أفتحها

 على كثير

 ولكن لا أرى أحداً "

سواك ..

هذه الـ" سواك" سوّت بيت دعبل بالأرض، وشيّدت من أنقاضه معنى غزليّاً جديداً وجميلاً.

هنا، أذكر عبارة قالها الناقد الفرنسي البديع جيرار جينيت Gérard Genette، وهي لعب ولكن من طراز آخر، إذ أخد المثل القائل: يضحك كثيرا من يضحك أخيرا" Rira bien qui rira le dernier، ولعب بحرف واحد هو حرف الراء، في أوّل كلمة الضحك، إذ استبدله بحرف اللام، فصار المثل:Lira bien qui lira le dernier. والمعروف ان الامثال تتسّم بالثبات والصلابة، ولكن لا أحد يستطيع أن يمنع أديبا أو غير أديب من اللعب اللغويّ. فاللعب اللغويّ حقّ مشروع ولا أظنّ أن اللغة تغضب ممّن بها بيلعب!

 

القرب نأي

الإنسان لا يرى ما هو قريب منه جدّا، القرب الشديد حجاب صفيق. وليس هناك أقرب للإنسان من نفسه، قرب رهيب، مرعب، الى حدّ ان المرء ينتبه الى انه لا يعرف نفسه. وعليه، فإنّ المرء يحتاج الى الابتعاد عن نفسه، ينفصل عنها لفترة من الوقت، فاللصوق ضرب من العقوق بحقّ النفس! الأمر ليس صعبا، في التراث العربيّ مفردة من مصطلحات الشعر ، مفردة بسيطة هي " التجريد"، ويقصد بها أن تخرج نفسك من بين ضلوعك وتعتبرها نفس شخص آخر، هي أن تتخيّل أنّك إنسان آخر،  فتخاطب نفسك بصيغة الآخر، تستعمل ضمير المخاطب ومترادفاته وأنت تحدّث نفسك، فيصير الضمير " أنا" ضمير المخاطب "انت"، أي حاول بدلاً من ان تقعد لحالك ان تقعد مع حالك.تغيير الضمير وتغيير حرف الجرّ يغيّر نظرتك الى نفسك. واعتبر نفسك مسابقة طالب بين يدي استاذ. اي تتحول بين يدي نفسك الى تلميذ. تخيّل انك قلم أحمر ولوع بوضع الملاحظات، أو تخيّل نفسك " مسوّدة" تحتاج إلى إعادة صياغة لبعض الفقرات هنا، أو حذف هناك، أو إضافة هنالك. ومن الممتع الاقتناع بما قاله العماد الأصفهانيّ، فهو بمثابة فيتامين للنفس والطرس، يقول:

"إِنِّي رَأَيتُ أَنَّهُ لاَ يَكْتُب أَحَدٌ كِتَاباً فِي يَومِهِ إِلاّ قَالَ فِي غَدِهِ، لَو غُيِّرَ هَذَا لَكَانَ أَحْسَن، وَلَو زِيدَ هَذَا لَكَانَ يُسْتَحسَن، وَلَو قُدِّمَ هَذَا لَكَان أَفْضَل، وَلَو تُركَ هَذَا لَكَانَ أَجْمَل، وَهَذَا مِن أَعْظَمِ العِبَرِ، وهُوَ دَلِيلٌ عَلَى اِستِيلاَءِ النُقصِ عَلَى جُملَةِ البَشَر"، فالنقص، عند التدبّر، نعمة مضمرة!

 

مخطوطة

الماضي مخطوطة تحتاج إلى تحقيق،بعض حروفها مطموس، بعض صفحاتها نخرتها الأَرَضَة، وبعض الصفحات نالت منها الرطوبة، وبعضٌ من صفحاتها سقطت وضاعت. الماضي مخطوطة تتطلّب جهدا بشريّا جبّارا. أحياناً بالمصادفة السرنديبيّة ( وفي المصادفات خيرٌ كثير، فربّ صدفة خير من ميعاد كما يقال في الأمثال) نكتشف ورقات من هذه المخطوطة مطمورة تحت الرمال. فالقشرة الأرضيّة أرشيف وأسرار تشبه الوصايا التي لا تزال مغلقة. متحجرة هنا تكون بمثابة شمعة في ليل المخطوطة الطويل، قطعة من عظم تكون بمثابة اعتراف بين يدي كاهن، قرأت ان المجاعات التي عصفت بأناس كثيرين في ما مضى من زمان، وأمراض كثيرة وأوبئة نالت من البشرية في العهود القديمة وأنواع الطعام التي كان يأكلها الناس في غابر الأوقات قد تفصح عنها جميعا قطعة من هيكل عظميّ، وهكذا يكون اكتشاف عظمة اكتشاف وكشف عن سرّ كان مكنونا. كم سنة ظلّت الكتابة الهيروغولفية سرّا من الأسرار وهي في متناول الأنظار؟ أو كم سنة بقيت اللغة السومرية والاشورية طلّسما من الطلسمات حتى جاء العصر الحديث وكشف لنا حياة غابرة كانت في طيّ الكتمان فقلبت معالم التاريخ وملامح الأخبار وأعادت جلجامش الى حيّز الوجود بعد عدم دام لقرون؟ أحيانا السرّ يتوارى في المرئيّ، فما بالك باللامرئيّ؟

 

أمثال وأقول

ثمّة شيء يجمع بين بعض ابيات الشعر والأمثال وهو السير.أقدام الأمثال لا تتعب. وبعض بيوت الشعر تمشي كبيوت الشَّعر! بيت العربي القديم خيمة من "وبر " الجمال تنصب في المضارب. ففي القول المأثور شيء من الشعر. انه مما خفّ حمله وغلا ثمنه. يخفّ حمله على الذاكرة لطبيعته الصوتية ووجازته. قلت السير  هو جامع بينهما. والسير على الأقدام أو على الأفواه لا يختلف كثيرا. فنحن نقول "الأقوال السائرة"، وعليه فإن مفهوم مفردة السير ليست من عندياتي. كان العربيّ القديم يسكن في الحركة. ومن الطريف تسمية الفتحة والضمّة والكسرة، في العربية، بالحركات! وللمتنبي وصف للجمال مميّز، يقول في بيت غزليّ :

" تَناهى (سُكونُ) الحُسنِ في ( حَرَكاتِها)

 فَلَيسَ لِراءٍ وَجهَها لَم يَمُت عُذرُ".

هذا السكون المتحرك، هذا الحسن الحاضن للأضداد هو في الوقت نفسه من خصائص الأمثال المتحركة، ولكنّه أيضا في العصر الحديث خصيصة هندسيّة عند المهندس المبدع سانياغو كالاترافا Santiago GALATRAVA الولوع بتشييد أبنية متموّجة تخالها على وشك الإقلاع أو الإبحار!

بلال عبد الهادي

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق