خنفساء القطن
من المهمّ أن تعرف ماذا يحدث؟ لكنّ الأهمّ هو أن تعرف كيف تتعامل مع ما يحدث. أشياء كثيرة فاتنة في الحياة، وخصوصاً تلك التي تقوم على اللعب بالتوقّعات. أترك للامتوقّع مكاناً حميماً في ذهنك، فلا مفرّ ممّا لا تتوقّع! وقد يكون أقرب إليك من حبل الوريد. فما تظنّه خلاصك قد يكون سبب خسائرك الفادحة، وما تتخيّله كارثة قد يكون سبب انقاذك من الكوارث، ولكن الانسان عجول في أحكامه، أغلب الأحيان، الى حدّ النزق. ومن الطريف أن يجمّع المرء حكايات الندم من أفواه الناس، ليس الندم على الأعمال التي قاموا بها فقط، وانمّا الندم على الأعمال التي لم يقوموا بها، ومن الطريف تتبّع مسار الندم، أو تأمّل خطّ البيانيّ وأثره ، سلباً أو إيجاباً، في حياتهم. الانسان تأتيه غنائم وأرباح بمفعول رجعيّ وقد تأتيه أيضاً خسائر بمفعول رجعيّ، ولا يحتاج تجميع هذه الحكايات إلى مجهود كبير، كل النمطلوب هو مشاهدة شريط الذاكرة الشخصية لكلّ انسان، رؤية الشريط بعقل يقظ، وخيال وثّاب. الحياة لا تخلو من مصادفات ومفاجأت سارّة وضارّة، ولكن من أطرف المفاجأت هو اكتشافك أنّ المفاجأة الضارة كانت سارّة وسارّة جدّاً بل هي أصل النعم التي ترفل بحللها البهيّة، وهذا ما ترويه حكاية "خنفساء القطن"، وهي حكاية حقيقية، كان القطن في جنوب أميركا ملك المحاصيل الى ان عبرت خنفساء القطن حدود المكسيك وحطّت رحالها في مزارع القطن فأهلكته، فاضطر المزارعون إلى إبدال زراعة القطن الذي يثير شهيّة الخنفساء بفول الصويا والفول السوداني، وتعلموا، هروباً من اذى الخنفساء، استخدام اراضيهم لتربية الماشية والدجاج. فأصبح الكثير منهم اكثر ثراء وازدهاراً ممّا كانوا عليه عندما كانت زراعتهم مقتصرةً على القطن. حدث ذلك عام ١٩١٠. هذه الخنفساء التي هجمت على محصولهم كالوباء هي التي غيّرت استراتيجاتهم الوادعة الرتيب، ونصحتهم، بشكل غير مباشر، بتحسين وضعهم الاقتصادي، ولقد قام اهل ألاباما بإنشاء نصب لخنفساء القطن لأنهم انتقلوا بفضلها من الزراعة الوحيدة الى الزراعة المتعددة واصبحوا أكثر غنى. وتحت نصب الخنفساء كتبت عبارة تقول: " تقديراً لخنفساء القطن، وما فعلت في سبيل الازدهار". من يخطر بباله أن هناك خنفساء في هذا العالم تستحقّ الشكر والعرفان بالجميل؟
ديناميت السلام
يحدث أن تقع أخطاء، التباسات
تغير مصائر الناس، الخطأ معلّم، استاذ محنّك، وقد يفيدك خطأ واحد أكثر مما يفيدك
صواب كثير، ومن الحلو ان يقمّش المرء الأخطاء التي تحوّلت الى اختراعات عملية
وحيوية كما هو حال ورق الملاحظات اللاصق من طرفه Post it"". ولكن هنا أريد أن أحكي عن
خطأ من نوع آخر، كثيرون يموتون قبل موتهم، تشاء الظروف ذلك، وهي فرصة لا تسنح لكلّ
الناس، فقد سنحت مثلاً للمتنبي، وقال في ذلك عدّة أبيات في قصيدة له، وحدثت أيضا
مع مخترع الديناميت، فلقد قرأ ، ذات يوم، الفريد نوبل في احدى الصحف، نعيه. نعي
بسبب التباس. فلقد توفّي شقيق له، ولكن الخبر وصل الى إحدى الصحف محرفا وهو ان
الفريد نوبل وليس شقيقه من فارق الحياة. وقع خطأ في الاسماء بينه وبين شقيقه. وراحت
الصحيفة تنشر حريم الفريد نوبل الراحل! وقالت مات الرجل الذي جمع ثروة طائلة بعد أن
أتاح للناس قتل بعضهم بعضاً بأعداد لم يسبق لها مثيل، وفي رقبته، وإن بسبب غير
مباشر، آلاف القتلى والمشوّهين. ما قرأه هزّ كيانه، أيقظ ضميره، فقرّر انشاء جائزة
تكفيراً عن ذنب اقترفته يداه. وهكذا ولدت جائزة نوبل مكافأة لكلّ من أنجز شيئاً
لصالح البشرية. هل يمكن لنا ان نقول ان جائزة نوبل هي بنت خطأ في قراءة اسم؟ وماذا
لو لم يمت ألفريد نوبل قبل موته الحقيقيّ؟ هل كان خطر بباله ّإنشاء هذه الجائزة
التي نفخر بحصول نجيب محفوظ وأحمد الزويل عليها؟ للأخطاء المطبعية، أحياناً، وظيفة
سبيل ماء في قارعة الطريق.
لكل انسان نظرة خاصة الى الحياة، وقراءة خاصة ايضا. فقد ينظر شخصان الى شيء واحد وفي لحظة واحدة ولكنهما يريان شيئين مختلفين. فالواحد مهما كان ضئيلا هو، عمليا، ليس شيئا واحدا، وهذه التعددية في الشيء الواحد هي التي تجعلنا نرى ونتعامل مع الشيء الواحد بطرق كثيرة. الحدث الواحد أحداث، وجهات النظر تجعل المفرد جمعا. وهذا ما تحكيه ، الى حدّ ما الطرفة التالية، وهي حادثة وقعت في بريطانيا بعد الحرب العتلمية الثانية، استقل جنرال وملازم شاب القطار في انجلترة، كان المقعدان الشاغران قبالة فتاة جميلة وجدّتها العجوز. بعد ان انطلق القطار بقليل، دخل نفقاً طويلا مظلماً استغرف عبور النفق عشر ثوان. اثناء تلك المدّة القصيرة سمع الركاب شيئين: صوت قبلة تلاه الصدى المدوّي لصفعة. الظلمة منعت رؤية الحدث، ولكنّ للحدث صوتاً، والعين خدّاعة فما بالك بالأذن؟ والناس عادة اتباع نصيحة حكيم الصين كونفوشيوس في قوله: لا تصدق كل ما تسمع وصدق نصف ما ترى.
فكّرت الفتاة الجميلة كما يلي:
انني اشعر بالاطراء لأنّ الملازم الشاب قبّلني، لكنني جدّ مرتبكة لأن جدّتي صفعته.
بينما لجدة العجوز فكّرت كما يلي: انني غاضبة لأنّ لشاب قبّل حفيدتي، لكنني اشعر
بالاعتزاز لأنّها صفعته. الجنرال فكّر كما يلي: لقد أبدى ملازمي الأوّل شجاعة حين
قبّل هذه الفتاة الجميلة. لكن لماذا صفعتني أنا خطأ؟ الملازم الأوّل الشاب كان
الوحيد الذي يعرف الحقيقة. فلقد اغتنم فترة الظلام القصيرة ليقبّل الفتاة ويصفع
جنراله. من صالح من يملك الحقيقة، في بعض الأوقات، أن يبقيها طيّ الكتمان، أليس
هذا ما ينطق به القول المأثور: "إستعينوا على قضاء حاجاتكم بالكتمان"،
والعتمة حليف لحقيقة لا نحبّ أن نعرّض بشرتها الرقيقة للشمس الواضحة والفاضحة!
في مهبّ العاصفة
رقيب عسكري عجوز عهدت اليه قيادته
العناية ببقعة معشوشبة أمام الادارة في معسكر بميشيغان. بسرعة احال هذا الرقيب
المهمة بدوره الى عسكري صغير وأمره ان يسقي العشب كلّ يوم في الساعة الخامسة. طبق
العسكري الاوامر بضمير حيّ. لكن في احد الايام هبت عاصفة عنيفة وحدث ان زار الرقيب
العجوز الثكنة في ذلك اليوم فوجد العسكري يستريح من شدة الارهاق. ما مشكلتك؟ صاح
الرقيب انها الخامسة ومن المفترض ان تكون هناك تسقي العشب. فأجاب العسكري: انها
تمطر. انظر الى هذه العاصفة. فصاح الرقيب: وإذن ماذا؟ أليس لديك معطف ضدّ المطر؟
لم يفقه الرقيب العجوز ان
القيام بالواجب، أحياناً، هو ضرب من العبث أو قبض ريح كما يقال في العربيّة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق