السبت، 24 نوفمبر 2018

ورقة من روزنامة // مقاطع من سيرة أبي ياسر عبد الهادي





غريب أمر الدنيا، وغريب أمر المشاعر، وغريب توقيت المصادفات.
كنت أفتّش عن الأشياء التي أبقاها أبي، والأشياء قصص وحكايات وأفكار، فوقعت عيني على ورقة روزنامة مطويّة ويحتفظ أبي بها في درجه بجانب سريره، فكانت كلمة " الصبر المحمود" هي أوّل ما وقع عليه نظري، فظننت لوهلة أنّه احتفظ بها لكلامها على الصبر، وليس أي صبر ، بل ذلك الموصوف بالمحمود، واستوقفتني كلمة محمود لدلالتها المباشرة ولكن انتبهت إلى أنّه كتب بخطّ يده المبارك، خطّه المميّز الذي أعرفه من بين ملايين الخطوط ، هو الذي تعلّم الكتابة والقراءة دون مساعدة أحد إلاّ رغبته المنبثقة من نفسه.
كتب في أسفل الصفحة بالخطّ الأحمر : توفي أخي الجمعة ٢٣ تمّوز ١٩٩٩.
وفي الوجه الأوّل من الصفحة وضع ملاحظة من كلمتين :" كان الثالث".
فاكتسبت كلمة محمود معنى ثانياً، معنى روحيّاً وأخويّاً، إذ كان عمّي رحمه الله اسمه محمود، المعروف بالحاج #محمود_دنّون، وهو عمّي البكر، بينما أبي كان الأصغر بين أشقائه، وكان يكنّ لأخيه البكر محبّة خاصّة، فقد حضنه صغيراً، واهتمّ به صغيراً، ولعمّي حكايات مع والدي رحمهما الله، قد أروي فصولاً منها.
رحت أقرأ بتمهّل كلمات الروزنامة فوجدت في الكثير منها بعض صفات أبي.

#الصبر_المحمود

"ليس الصبر المحمود الممدوح أن يكون جلَد الإنسان وقاحاً على الضرب، أو رجله قويّة على المشي، أو بدنه قويّاً على العمل، فإنّ هذه الصفات تشترك بها جميع المخلوقات، ولكن أن يكون للنفس غلوبا، وللأمور محتملا، وفي الضرّاء متجمّلا، ولنفسه عند الحفاظ مرتبطا، وللحزم مؤثرا، وللهوى مجانبا، وللمشقة التي يرجو عاقبتها مستخفًا، وعلى مجاهدة الأهواء والشهوات مواظبا، ولبصيرته بعزمه منفذّاً".

ورقة روزنامة من أواخر القرن الماضي، بقيت في درج أبي حوالي عقدين من الزمن، عن الصبر المترفّع، والانسانيّ بامتياز.

كان أبي يستهويه ما يكتب على قفا صفحة الروزنامة من حكم أو معلومات، وفي جيبه كان يحتفظ بتلك التي تروق له.
ولكن هذه الورقة كانت أكثر من ورقة، كانت ذكرى ، وكانت برّاً، وكانت حكمة، وكانت تحكي عن الصبر الذي رافقه في أواخر أيامه.
رحمة الله عليك يا من كنت بمقام بؤبؤ العين، وعلى عمّي محمود، وعلى سائر إخوتك من صبيان : مصطفى وبشير ونظير ، ومن بنات: شهرزاد ويسرا، وأمدّ الله عمّتي الحبيبة رهيفة بالعافية ، وهي آخر عنقود العمّات والأعمام



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق