السبت، 24 نوفمبر 2018

حبّي وأبي مقاطع من سيرة ياسر عبد الهادي



طلّة #سوسن لفتت نظري منذ السنة الجامعيّة الأولى. ولكن بقي إعجابي بها طيّ القلب. فالوقت ، في السنة الأولى، كان ضيّقاً، لأنّه موزّع بين #المطعم والمحاضرات فقط، أمّا المساء، بعد الانتهاء من #المحاضرات والمطعم، أكرّسه للقراءة. كنت أشعر أنّه عليّ أن أقرأ كثيرا، وكلما أكثرت من القراءة شعرت أنّي لا ازال على الشاطىء.
من متع العلم أنّه يزيدك معرفة بجهلك، يرسم لك المناطق الشاسعة التي لا تزال أشبه بقارة مجهولة.
وما إن أنهيت تقديم موادّ الامتحان في السنة الأولى، غادرت إلى #باريس، لأتقوّى بالفرنسيّة، وأتعرّف على العاصمة التي كنت قد قرّرت أن تكون المكان الذي أريد أن أنجز فيها رسالة الدكتوراه. ففي ذلك الوقت كنت أعشق #طه_حسين، والتهم كتبه كلّها، واحدا واحدا، وصفحة صفحة، وقرّرت أن أسير على خطاه، وأقعد في الجامعة نفسها التي نال منها الدكتوراه. 
أمضيت ثلاثة أشهر في باريس، أتعلّم الفرنسية في معهد لتعليم الفرنسيّة، ووضعت قاعدة لنفسي أن أقرأ يومياً ما لا يقلّ عن خمسين صفحة فرنسيّة مع فتح القاموس لمعرفة كل كلمة لا أعرفها، ثم وضع قاموس خاصّ بي بكل الكلمات الجديدة التي اكتسبها . 
فلا بدّ من الفرنسيّة لسببين: الأوّل هو أنّه كان عليّ أن انجح بمادتين فرنسيتين ومادة الترجمة لأتمّكن من نيل #الليسانس بالعربيّ. أي كانت الفرنسية بوّابة الدخول الى العربيّة، والسبب الثاني هو أنّي كنت قد عقدت العزم على نيل الدكتوراه من السوربون.
انتهى فصل الصيف، وعدت الى الجامعة لأتابع السنة الثانية، وهنا كانت اللغة الفرنسيّة رفيقاً لي طوال دراستي للغة العربيّة. كنت أشعر أنّه يجب عليّ التمكن من الفرنسية تمكني من العربية، فسنوات باريس بالانتظار. فكنت أشتري كتباً فرنسيّة مترجمة من العربية أو تتكلّم عن الأدب العربي ككتاب بلاشير عن #المتنبي أو قصص لنجيب محفوظ مترجمة الى الفرنسية، أو كتب فرنسية لها ترجمات عربيّة، وهكذا.
السنة الثانية كانت بداية تعرفي على سوسن التي صارت شريكة حياتي العاطفية والمهنيّة فيما بعد.
كانت زميلتي في الدراسة، وتوطّدت علاقتنا الى ان انتهت في السنة الرابعة بمشروع زواج . 
ولكن كيف يتمّ الزواج ، ومشروعي الذهاب الى باريس للحصول على #الدكتوراه. القلب يبلبل المشاريع والأحلام والأفكار. هل أتركها تنتظرني وأذهب بمفردي، هل تذهب معي؟ 
فترة من الزمن تبلبلت مشاعري ومشاريعي. كنت طالباً، ليس في يدي عمل، وما كنت أفكّر أن ألتحق بسلك التعليم المدرسي. كانت الجامعة هي طموحي، كنت أحلم أن أكون أستاذا في الجامعة مثل طه حسين تماما. كان مثلي الأعلى، بكفاحه، ونضاله، وانتصاره على عماه. الكفاح يأسرني، تحدّي الصعاب يسحرني. كنت أشعر كما لو أنّ طه حسين هو والدي الروحيّ، وحين أعود إلى ما كنت أكتبه في ذلك الحين ألمس محاولاتي في محاكاة أسلوب طه حسين رحمه الله بجمله المميّزه ومفرداته الصائتة والمصاحبات اللغوية التي كانت ترافق كلماته بموسيقاها المرنانة. اشتريت في ذلك الوقت مجموعته الكاملة، بعد أن كانت كتبه عندي متفرّقة، ورحت أقرأها مرّة ومرّة، مؤلفاته الأدبية والإسلامية وترجماته للمسرحيات الكلاسيكية. كنت أحسّ كما لو أن صوته ينبع من تضاعيف الكلمات المكتوبة.
فاتحت والدتي بموضوع حبي لسوسن، ولم أجرؤ على مفاتحة والدي رحمه الله، فأحاديث القلب للأمّ، ثمّ فاتحت والدتي أبي بموضوع حبي لسوسن.
وهنا كانت المفاجأة غير المتوقّعة، لقد وافق والدي على أن يزوّجني ممّن اختارها قلبي، ويتعهّد بتسفيري إلى باريس لمتابعة دراستي، وأن ترافقني أيضا سوسن لتتابع معي الدكتوراه، على نفقته الخاصّة، وهكذا التزم بتعليمي وتعليم زوجتي من جيبه.
انهارت الليرة خلال وجودي في باريس، وجاء رفيق الحريري رحمه الله بقروضه، فقدّمت طلب قرض لي بنيّة أن أخفّف عن كاهل والدي العبء المادّي، ولكن اعترض والدي على ذلك، ورفض أن أتقدّم بطلب قرض من #رفيق_الحريريّ قائلاً لي: فليتقدّم بطلب قرض المحتاجون، فدع فكرة القرض جانباً، ولا تحمل همّ التكاليف.
لم أكن أعرف الدافع الذي جعل والدي يوافق على تزويجي مع تحمّل الإنفاق عليّ وعلى زوجتي؟
ولكن حين عدت أنا وسوسن إلى لبنان بعد حصولنا على الدكتوراه، أنا في علم اللغة الحديث، وهي في الفكر الإسلامي. واستقرّ بنا المقام في لبنان. عرفت سبب سلوكه الفيّاض. 
لقد قال في نفسه: إن ذهب #بلال بمفرده فهناك احتمال أن يتعرّف على فتاة فرنسيّة، وقد يتزوّجها، وإن تزوّج من فرنسيّة فقد لا يعود، الاحتمال وارد. ولكن إن تزوّج من طرابلسيّة فإن آخرته مهما طال الزمن هي #طرابلس.
وتحقّق ما راهن عليه والدي، فها أنا ، اليوم، في طرابلس، بعد أن أمضيت في فرنسا اثنتي عشرة سنة، اشتغلت خلالها أنا وسوسن في الصحافة فصرنا نكتب في مجموعة من المجلات الصادرة في باريس ولندن، واشتغلنا إلى جانب الدراسة في السفارة الأردنيّة.

قال: خسرت مالاً، والمال الذاهب في التعليم ليس خسارة في نهاية المطاف، بل هو استثمار، وقد ربحت ابني. وربحت عودة ابني، وكان أبي يفرح بحبّي للعلم، ويبارك محبتي هذه، وكان حبّي له يدفعني إلى مزيد من حبّ العلم. كنت أعتبر حبّي للمعرفة يشبه برّ الوالدين.

وكثيراً ما كان يسحرني والدي ببعد نظره الصاقب والصائب، وتقليب الأمور والنظر في المسائل من شتّى وجوهها.

وها أنا ، اليوم، يا حبيبي في مدينتي طرابلس كما أنت رسمت وخطّطت، ولا أنكر فضلك عليّ وعلى زوجتي، كما لا تنكر سوسن فضلك وفيض محبتك.
رحمة الله تتنزّل عليك، يا والدي الغالي في مقامك العالي، مع كل مشرق شمس ومغيب.
طيّب الله ثراك، كما طيّب الله مسراك.
وروحك الفاضلة ستبقى تسري في حبر كلماتي ونبض أوقاتي.
Sawsan Alabtah

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق