السبت، 24 نوفمبر 2018

غرفة أبي





بيته غرفة في منطقة شعبية، غرفة واحدة بمنافعها البدائيّة والبسيطة، وكان سقفها لا يدفع مياه الأمطار. ولا يزال ، إلى اليوم، كثيرون ينامون في غرفة واحدة. ضيق الحال حالٌ متفشّية. 
منذ أن تفتحت عيناه على الدنيا والوعي قال: لن أعيش هكذا، والقدر يحبّ من يريد أن يعيد ترتيب أوضاعه. نظرة الناس للقدر ليست واحدة، ونظرة القدر للناس أيضاً ليست واحدة. القدر مظلوم في بلادنا، أو قل إنّ بعض الناس يسيئون إلى القدر حين يحمّلونه أسباب فقرهم وسوء أحوالهم.
لا يحبّ القدر من يعامله بهذا النوع من الاستهتار. القدر يحترم من يحترمه.
القدر كالفرص، ولم يحرم مخلوق من فرصة، ولكن هناك من لا يسعى الى انتهاز الفرص، كتبت ذات يوم عبارة: قد تكون ولادتك من أب فقير قدر، ولكن أن تموت فقيرا ليس قدراً. ولم تكن هذه العبارة إلاّ من وحي مسار أبي الذي رفض بكلّ ما أوتيه من شغف بالعمل، وبعد نظر أن يعيش كما ولد، ويموت كما ولد.
كان طفلاً، لا يكفّ عن التفكير والعمل للخروج من رقّة الحال التي هو فيها. لم يكن كلامه تذمّراً، كان طموحاً، ويملك اليقين في قدرته على تغيير حاله.
كان يسكن في غرفة ، والأماكن الضيقة كالأرحام للأحلام! 
كانت الكلمات التي يعلّق بها على وضعه أشبه برسم مخطّط لمسار عمره، لعلّ اختصاصي في علم اللغة عزّز ميلي إلى سماع الناس والاهتمام بكلمات الناس التي تخرج من أفواههم وليس فقط ما يسطرون، وأنظر إلى أفواه الناس نظرتي إلى النصوص، فالفم معجم لغوي، وما يتلفّظ به المرء هو قدره، كلماتنا أقدارنا، وكنت كثيراً ما أتأمّل الكلمات التي يستعملها والدي في تعليقه على الأحداث او سرده للأحداث.
ظلّ يعمل ويعمل حتّى استطاع أن يستأجر بيتاً في ضهر المغر أوّلاً، ثمّ في شارع الثقافة، ثمّ في أبي سمراء. كان استئجار بيت نقلة نوعيّة في حياته، ولكن لم يكن يحبّ أن يكون رهينة الإيجار الشهريّ، فكان يوفّر بهدف شراء بيت وهذا ما تحقق له، وشكر الله على النعمة التي أضفاها إليه. أنجب سبعة أولاد، وكبروا ، وتزوجوا، واشترى لكلّ ولد وبنت بيتاً ، ولم يرد مخالفة الشرع في هذه المسألة.
ظلّت غرفته الأولى تحرّك رغابه، فهو ليس مهندساً، كان يحبّ لو أن أحداً من أولاده تخصّص في ميدان الهندسة ليحقّق له حلمه في العمار. ولكن شاءت الأقدار ان تكون الهندسة من تخصص عدد من الأحفاد. 
لم يمنعه عدم حصول أحد من أبنائه على تحقيق رغبته في بناء يحمل اسمه وبصماته، فاستعان بمهندسين شابّين ايهاب عوض ومحمّد بلطجي والأخير رحل باكراً قبل أن تنتهي البناية الرابعة والأخيرة قرب غرفة التجارة والصناعة في طرابلس فتابع أخي البكر مع والدي وزوجة المهندس المتخصّصة أيضا في مجال الهندسة.
وكان شرطه الأوّل في البناء ادخال المسرّة الى قلب من يشتري شقّة من عنده، فزادت التكاليف للهروب من النشش، كما زادت التكاليف بسبب اختياره للموادّ الجيّدة، وفكّر في الطابق الأخير المعرّض أكثر من غيره فعمد الى تزفيت السقف ثمّ تبليطه كما الشقق. الجودة كانت هاجسه الدائم في أعماله.
كثيراً ما أسمع أناساً يسبّون المعمّر الذي اشتروا منه شققهم الذي لم يعتنِ بتفاصيل الشقّة وجودة بضاعتها. اما والدي فكان إرضاء الشاري هاجسه ، وإمتاعه بمسكنه هدفه، ولو تقلّص هامش الربح.
فالربح المادّي الذي يأكل السمعة ليس ربحا مبرورا، إنّه ربح أحمق، قصير النظر، ومن غايتُه الربح لا غير يعش في خسران مبين، واللعنات تطارده.
تعلمت من والدي ان العمل هو الهدف، وليس الربح، والربح لا يخيّب العمل النجيب، والنبيل، والمتقن. 
وهنا أتذكّر ما كنت أقرأه عن سيرة ستيف جوبز وشغفه بالإتقان والبساطة في آن معا.
وجمع الإتقان إلى البساطة فنّ كان يمهر في توليفته والدي رحمه الله حتّى في أصغر الأشياء.
من غرفة إلى شقق كثيرة وأربع بنايات: ثلاث في أبي سمراء، وواحدة في الضمّ والفرز .
بعض من مسيرة تختصر كفاح هذا الرجل الذي أنعم الله عليّ بأن جعله أبي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق