السبت، 28 نوفمبر 2015

أنف الخليل بن احمد الفراهيدي


أنفُ الفراهِيديّ

ورد في كتاب "الحيوان" للجاحظ أنّ ابنَ الجَّهْمِ حين سُئِل عن أعجب ما في الدنيا أجاب: الشَّمّ. ولا أعرف لماذا لم يعلّق الجاحظ على هذا الجوابِ المُلْغِز رغْم أنّه كان يدُسّ (أنفه) في كثير من المسائل. ولا رَيْبَ في أنّ الشمّ يُحيل إلى الأنف الذي يتمتّع في تاريخ الحضارات والأدب بحضور فوّاح. ففي الصين يستعملون عبارة "أنْفاً لأنْف"، بدلاً من عبارة "وجْهاً لوجْه"، ويقولون عن إنسانٍ كثيرِ الفضول: " له أنفٌ بثلاثةِ مَناخِرَ"، أمّا اليابانيّ فحين يريد الإشارة إلى نفسه فإنّه لا يشير إلى صدره وإنّما إلى أنْفه وكأنّه مستقرّ روحِه ومجاز جسده. والتحيّة عند سكّان الإسكيمو تكون بضغط الأنْف على الأنْف، وهذا ما نلحظه أيضاً في الجزيرة العربيّة حيث يدخل الأنْف في صلْب التحيّة.
 وللأنوف تاريخٌ فتّانٌ ولا سيّما أنّ كثيراً منها دخل التاريخ كأنْف كليوباترا الذي قال عنه المفكّر الفرنسيّ فولتير:" لو كان أنفُ كليوباترا أطولَ قليلاً لتغيّر وجهُ التاريخ". وأنْ يغيّرَ أنفٌ مسارَ تاريخٍ أمرٌ ممكنُ الحدوث، وهذا ما ترويه بعض أحداث الماضي. ألم يغيّرْ أنفٌ مسارَ مملكةِ تدمرَ ويُنْهِ حياة الملكة زنوبيا أو الزبّاء؟ وتفاصيل مأساتها تختزنها وتختزلها عبارةٌ ذهبت مثلاً وهي "لأمْرٍ ما جَدَعَ قصيرٌ أنفَه"، وكان جَدْعُ أنْفِ " قصير" (قاتل الزَّبّاء) أشبهَ بحصان طروادة. والمآسي التي انبثقت من شكل أنفٍ أو حجمِه كثيرةٌ منها مسرحيّة " سيرانو ده برجيراك" ذي الأنف الطويل الذي كان أشبهَ بالجدار العازل بينه وبين من يحبّ، وكذلك أنف الصبيّ اللطيف "بينوكيو" الذي كان يطول مع كلّ كِذْبة يتفوّه بها فمُهُ الخشبيُّ، ويبدو أنّ الصلةَ بين الكذب والأنْف لا تَخَْفى على من يبرع في قراءة ما يتوارى خلف لغة الإشارات والحركات.
 وإذا توقّفنا قليلاً عند اللغة العربيّة، فإنّنا سوف نكتشف الحضور الطاغي للأنْف من خلال الكمّ الغفير للتعابير التي يقوم تركيبُها على مفردات الأنْف أو مشتقّاتِه ومترادفاتِه، وأغلبُ الظنِّ أنّ دراسةَ حضورِه تُفْرِجُ عن معلوماتٍ وافرةِ الثَّراء والدلالة. يكفي أنّ سيّدة الشِّعر العربيّ الأولى غلب لقبها المأخوذ من شكل أنْفها على اسمِها (تُماضِر) وأقصد الخَنْساء، وذلك لجمال أنفها الأخنس، والخَنَس صفةٌ مُسْتَحَبّةٌ في الأنْف لدى العرب القدامى والمحدثين على السَّواء. ولفرْط ولعِ العرب بالأنف ودلالاتِه الرمزيّةِ اشتقّوا منه الأَنَفَة. والجزائريُّ، إلى اليوم، حين يريد التعبير عن أَنَفَتِهِ، يقول: "عندي أنْف". وإذا أردتَ _ لا سمح الله! _ إهانة شخْصٍ فإنّك تمرّغ أنْفه(وتفرفكه) في الرّغام. وعبارة "رغْم أنف..." لا تزال تمثّل فاتحةَ تراكيبَ لغويّةٍ كثيرة.
وما السببُ في كلامي عن الأنْف رغبة في قراءة ظاهرة عمليّات التجميل الرائجة اليوم والتي تطال من "أَنَفَةِ" الأنوف جَدْعاً وتصغيراً وتخنيساً وتكسيرَ عظام، وإنّما رواية عن أنف الخليل بن أحمد الفَراهِيدِيّ، هذا العبقريّ الدَّمِث الذي امتاز بنبوغِ فكرٍ ويقظةِ حواسّ، وله فضْل على العربيّة لا نزال نعيش من بَرَكَتِه إلى اليوم، فهو واضعُ موسيقى الشِّعر العربيّ (أو العَروض)، ولولا حاسّة السّمع المرهفة لديه لما قدر على ضبْط أوزان الشعر، ولولا حاسّة الذوق عنده أيضاً لما استطاع دراسةَ أصواتِ العربيّة درْساً بارعاً يدرك علمُ اللغةِ الحديثِ قيمتَه العلميّة، فكان "يتذوّق" الحروفَ ليعرفَ سماتِ وصفاتِ كلِّ صوتٍ (في أيّ حال، بين الأنف وأحرف الغُنّة علاقاتٌ صوتيّةٌ وثيقة!)، ولولا فكرُه الرياضيُّ لما توصّل إلى ضبْط المفردات الموجودة والممكنة الوجود أيْضاً في "معجم العين"، كما لا يمكن أن ننسى أنّه كان أستاذ "سِيْبَوَيْهِ" صاحب "الكتاب" وهو أوّل مؤلَّفٍ شامل عن النحْو العربيّ، ومعنى سِيْبَوَيْهِ بالفارسيّة "رائحة التفّاح" أو "الروائح الثلاثون"، وأيّاً كان معنى الاسم، فهو( وبالمصادفة!) على صلةٍ بالأنْف والشمّ.
الرواية عن حاسّة الشمّ ذات القدرة التفكيكيّة التي تلامس الأسطورة عند إمام العربيّة قرأتها في كتاب "بُغْية الوُعاة في طبقات اللغويّين والنُّحاة " للعلاّمة جلال الدين السيوطيّ، والرواية تظهر كيف أنّ الخليل استطاع بفضل تحرِّياتِ أنْفِه استخراج مكوّنات خَلْطةِ دواءٍ لم يكنْ قد بقي منه أثرٌ ليحفظ النُّورَ في عيون كان يتهدَّدُها الظلام، وإليك النصّ:
" كان عند رجل دواءٌ لظُلْمةِ العين ينتفع به الناس، فمات الرجل واحتاج الناس إلى الدواء، فقال الخليل: أله نُسْخةٌ معروفةٌ؟ قالوا:لا، قال: فهل له آنيةٌ كان يعمله فيها؟ قالوا: نعم، قال:جيئوني بها، فجاؤوه، فجعل يَشُمّ الإناء، ويُخْرج نَوْعاً نَوْعاً، حتى أخرجَ منه خمسةَ عَشَرَ نَوْعاً، ثم سُئِل عن جمعها ومقدارها، فعرف ذلك، فعمله وأعطاه الناسَ فانتفعوا به، ثم وجدت النُّسْخة في كتب الرجل، فوجدوا الأخلاط سِتَّةَ عَشَرَ خَلْطاً، كما ذكر الخليل لم يَفَتْه منه إلا خَلْطٌ واحد ".
وويلٌ لمن لا يرى أبعدَ من أنْفه!

بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق