السبت، 28 نوفمبر 2015

كلّ فرنجي برنجي







بعض الأمثال والأقوال التي ولدت وترعرعت في الزمن التركيّ بدأت تلفظ أنفاسها على أفواه الناس – ولكن قد تعود ربّما من باب المسلسلات التركيّة المدبلجة والدارجة!-، فعبارة " كلّ فرنجي برنجي" ( أي كل فرنجي ممتاز) التي كانت شائعة ومفهومة بشكل طبيعيّ قبل عشرين سنة أو أكثر أصبحت مجهولة المعنى والمبنى من قبل جيل الشباب. كنت اظنّ ان مدّة صلاحيتها لم تنته بعد إلى أن فوجئت بجهل عدد كبير من الشباب لمعناها الغريب على أسماعهم. وهي عبارة ليس لها من العربية إلاّ  كلمة "كلّ" و"ياء النسبة" في "فرنجيّ" و"برنجيّ". ليت عدم معرفتها أو عدم تداولها كان نتيجة عدم اقتناع بمعناها وأبعادها المدمّرة لارتحنا من هوس التقليد وأنقذنا واقعنا من أزمات عربية كثيرة لا أوّل لها ولا آخر. غير أنّ الجهل بعبارة "كلّ فرنجي برنجي" لا يعني عدم تبنّيها بكلّ حذافيرها وطقوسها في حياتنا اليومية. فالإنسان العربيّ يمارس دلالات هذه العبارة بعفوية رعناء في المأكل والمشرب والكساء، وفي انتقاء الأسماء، ونجدها حتى على البطاقات الشخصيّة وبطاقات الدعوات. فالكلمات الأجنبية اجتاحتنا كالجراد الأحمر وراحت تقضم اليابس والأخضر، ولم تترك أحداً، إلاّ من رحم ربّك، من شرّها وشرهها الخبيث. فالبعض يظنّ أنّ اختيار اسمٍ أجنبيّ لمتجره كفيل بإعلاء شأنه وشأن متجره. وممّا يستحقّ التجريب أن يقوم أيّ مواطن عربي بلعبة قد تكون أجمل من لعبة الكلمات المتقاطعة وهي عبارة عن خدعة تصويريّة واقعية بسيطة، وذلك بأن يحمل كاميرا ويتجوّل في أيّ مدينة من مدن العالم العربيّ بما فيها طرابلس الفيحاء، ويصوّر مقطعاً بانوراميّاً من المحلات التجارية بأسمائها ولافتاتها، ويحولّها إلى حزّورة عالميّة، ومن شبه المؤكّد ان أي أميركيّ أو فرنسيّ لن يستطيع فكّ لغز المكان الجغرافيّ الذي أخذت فيه الصورة وإعطاء الجواب الصحيح إلاّ إذا استعان بصديق عربيّ. فقد يرجّح البعض أنّ الصورة أخذت في الولايات المتحدّة أو في فرنسا ولن يخطر ببال الغربيّ ربما أنّ الصورة جزء من مكان عربيّ، والسبب أننا نختار أسماء المتاجر ونستوردها من لغات الأقوياء، ونعلقها كالأحجبة والتعاويذ أو النياشين فوق الأبواب ممّا يجعل منها لافتة ليس إلى ما في داخل المحلّ من خيرات مستوردة وإنّما لافتة إلى ما في داخلنا من أمراض وعقد نقص تصيبنا بفقدان المناعة الحضارية. يقولون لك هذه لعنة الغزو الثقافيّ، والغزو، هنا تحديداً، بريء براءة الذئب من دم ابن يعقوب، لأنّ من تعريفات الغزو الفرض بالإكراه. إن من يختار اسم محله يختاره بناء لمزاج خاصّ يصبّ في خانة "كلّ فرنجي برنجي" ولا يختاره تحت ضغط "مرسوم إمبريالي"، فلا اظنّ أن شخصاً يحمل محلّه اسماً عربياً يجد صعوبة ما في الحصول على تأشيرة دخول الى دولة ناطقة بلغة من لغات الأقوياء لأنّ لافتة محلّه مارقة!
فأغلب أسماء المحلات مستعارة إمّا من الفرنسية وإمّا من الإنكليزية، والبعض ينصاع للإبداع الهجين والتفنّن المستهجن، فيختار خلطة محليّة مركّبة من عبارة نصفها فرنسيّ ونصفها الآخر إنكليزيّ مثل محلّ اسمه" آيس دوريه" ( Ice doré ) أي الثلج الذهبيّ، وكأنّ صاحب المحلّ لا يريد أن يكسر خاطر الأمّ الحنون أو نزق العم سام، فتفتّق ذهنه عن تسوية لغويّة لا يستسيغها، في أيّ حال، الفرنسيّ، ولا يرضى عنها حارس "تمثال الحريّة" أو حابسه.
وأمر آخر يثير الغيظ ويكشف عن المستور بحسب القول المأثور " ما فيك يظهر على فيك (فمك)"، ويمكن أن يضاف وعلى كتابتك أيضاً. فالبعض لا يحسن اختيار الأسماء، أو انه يقع في فخّ الإيقاع الصوتيّ، فيختار لمحلّه اسم "سنوب"(Snob) وهي كلمة تعني بالفرنسية تفاخر الإنسان بما لا يملك (أيّ فقر وادّعاء!) أو تقليده لمن يعتبرهم أرقى منه (أيّ اعتراف فاطح وفادح!)، كأن يختار أحدهم اسم "فانيتي"(Vanity)   التي تعني باللغة الإنكليزية شيئا فارغاً أو تافهاً باطلاً، عديم القيمة، وهي كلمة قاسية ليس أمام أيّ إنسان عاقل إلاّ التبرؤ من دلالتها الشرسة، أو محلّ لا يجد صاحبه غضاضة من تسميته  باسم "égoïste " وهي كلمة يخلو مدلولها من الايجابية الانسانية لما في الدلالة من انانيّة صارخة ومبتذلة.
من الخطأ اعتبار الاسم العربي  حجر عثرة في سبيل الرواج، وهنا أحبّ الإشارة إلى ولع المحطات التلفزيونية العربية بلباس اسم غربيّ وشعار غربيّ ظنّا من القيّمين عليها ان ذلك  قد يمنحها " بريستيج" في الأسماع، إلاّ انّ تلفزيون " الجزيرة " باسمه العربيّ القحّ وشعاره بالخطّ الطغرائيّ استطاع أن ينال من الرواج أكثر من محطّات ترطن أسماؤها بالعجمة.
لا ننتبه كعرب، جماعاتٍ وافراداً، الى انه لا يمكن لأمّة أن تنهض عن حقّ وحقيق وهي تنظر نظرة احتقار او ازدراء إلى لغتها وتعتبرها حرفاً ساقطاً. استوقفتني عبارة لحكيم الصين كونفوشيوس  إذ سأله ذات يوم أحد حوارييه : من أين تبدأ الاصلاح في حال استلمت السلطة السياسية؟ لم يتردد او يأخد وقتا فائضاً للتفكير والتعليل وإنّما أجاب إجابة مقتضبة قائلاً: أبدأ الإصلاح من اللغة. ولا يخلو جواب كونفوشيوس من وجاهة فكرية لا ننتبه الى ما تحمله من ثورة على كل اشكال الفساد التي تختبىء خلف مفردات جُوّفت دلالاتها. وأحيل، أيضاً، في الأخير الى عبارة وردت على لسان الفيلسوف الألمانيّ الشهير هيدجر:" إنّ اللغة بيت الإنسان". والتهجير اللغويّ لا يخلو من مواجع يعرف بعضاً منها من شرّدته الجغرافيا أو اضطهدت لسانه لغة من اللغات لأسباب عنصرية أو قوميّة جائرة. والمعروف أنّ اللسان المستعار كالثوب المستعار لا يأتي بالدفء. ألهذا ترانا نعيش ونرتجف في الزمهرير اللغويّ؟ وهذا الزمهرير يحتاج حتماً إلى أكثر من ربيع عربيّ لنستعيد ثقتنا بأبجديّة الذات المشروخة.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق