الأحد، 26 يناير 2014

مصائر وعبارات لغوية


مصائر وعبارات

اللغة التي نستعملها تفصح عن طريقتنا في التعامل مع الحياة. في اللغة أدوات كثيرة: ال التعريف، الضمائر، الصفات، المترادفات ...الخ.

وكل كلمة يستعملها المرء تشير الى حالة ما من حالاته النفسية أو الشخصيّة، وفي العربية عبارتان، وهما: " اذا فتحت فاك عرفناك " ، و " ما فيك يظهر على فيك".  الكلام حجاب شفّاف وإن ظنّه البعض معتماً أو صفيقاً. لنفترض أنّ شخصاً يقول: " حياتي جحيم"، وآخر يقول : " الحياة جحيم"، فهل يحملان المعنى نفسه، وهل يدلاّن دلالة واحدة على حالة الشخص الذي ينطق بهذه العبارة او تلك؟

يقول Dave Logan وهو متخصص في فنّ الإدارة : ان العبارة التي  تحتوي على ضمير المتكلم أخف وطأة من تلك التي تحمل أداة التعريف، أي ثمّة ما هو عام وما هو خاصّ. ومن ينظر الى العبارتين من باب التشاؤم يدرك ان التشاؤم ليس واحدا، ضمير المتكلم في "حياتي جحيم" ،على حلكة حياة الناطق بها، يترك مجالا للتغيير والتحسن بخلاف " الحياة جحيم" ال التعريف هنا تغرق انماط الحياة كلها بالجحيم.

ويعمل علم اللغة النفسي بمعونة علم الأسلوب على مطاردة هذه التفاصيل الصغيرة التي يمكن من خلال تغيير استعمالها الى تغيير سلوك المرء سلبا أو ايجابا. فالإنسان، بشكل من الأشكال، اسير الكلمات التي يتفوّه بها، وبمقدورها أن تلعب دور الأجنحة الجامحة كما يمكنها أن تقوم بدور الأغلال الكابحة.

استوقفني ذات مرّة اسلوب شخص في استعمال عبارة بسيطة، ولكن تنمّ عن طريق ذلك الشخص في العيش. حين يريد ان يغادر المكان الذي هو فيه وقد يكون عند صديق له يختار عبارة من احتمالات ومترادفات كثيرة، عبارة تشير الى علاقته المقيّدة مع نفسه: لا يقول: صار لازم روح، مثلاً أو " بدّي روح"  او استأذن،  أو أيّ عبارة أخرى تحمل هذه المضمون، وانّما يختار عبارة : "اتركني روح". العبارة المختارة تدلّ على قيد خفيّ، هذا القيد اللغويّ البسيط تجد له مترادفات في سلوك ذلك الشخص، وهذا النمط من التراكيب نعرف انّه يكثر في لغة الأطفال الواقعين تحت سلطان الأهل والكبار أكثر ممّا هو موجود في تراكيب البالغين.

عانس

الرجل يلعب باللغة لغايات عديدة، يضع التاء المربوطة حيث يريد، ويحذفها حيث يريد. هذا ما خطر ببالي، وأنا أتأمّل كلمة " عانس" ، وهي كلمة قاسية تلصق بالمرأة في بلادنا بعد سنّ معيّن، ( والسنّ مطّاط بحسب المناطق وعادات كلّ منطقة) ، نلاحظ ان كلمة " عانس" استؤصلت من آخرها الزائدة التائيّة، حيث ان محو التاء من كلمة عانس هو موقف ذكوريّ بامتياز. فالمرأة، في نظر الرجل ونظر المجتمع المنتمي اليه، تعنس، بينما هو لا يعنس وكأن الشباب والفحولة شباب ذكوريّ دائم. في اللغة العربية سلسلة من الكلمات يخلة تأنيثها من التاء المربوطة، فنقول: امرأة حائض، فالمرأة تحيض والرجل لا يحيض ( وهذا التمييز ، هنا، هو شأن بيولوجيّ) . والمراة حامل، والرجل لا يحبل ( وهذا أيضا شأن بيولوجيّ).

التاء، في أي حال، لها حضور ملتبس،  فالرجولة تأخذ في الأسماء مثلا التاء المربوطة كمعاوية وعنترة وطلحة ...الخ كما تأخذها في الصفات "علاّمة" ، رحّالة... إلخ

اي ان للتاء المربوطة ادوارا ووظائف تكسر الحدود بين الأجناس.

 اعود الى عانس لماذا لا تأخذ عانس تاء مربوطة ؟ ان الرجل تعامل مع العنوسة معاملة ذكورية محض، وتعامل معها كما لو كانت أي العنوسة امراً بيولوجيا لا اجتماعياً. وسلطان البيولوجيا لا يحمل المدلولات نفسها التي يحملها السلطان الاجتماعيّ .

من حقّ المرأة هنا ان تتشبّث بالتاء المربوطة في  "عانس" لتصير "عانسة" ، وتجعل كلمة " عانس" خاصّة بالرجل. فنقول "رجل عانس" و" امرأة عانسة". اظنّ ان هذا التغيير البسيط في الاستعمال يجعل النظرة الى العنوسة نظرة أقلّ شراسة ممّا هي عليه الآن في مجتمعاتنا الفاقعة الذكورة.

 

العقم واليتم

كلمة العقم ليست من الكلمات ذات الدلالة الايجابية في الأصل. الا انها راحت تحمل مع الوقت في مواضع مختلفات دلالات ايجابية، فالحليب المعقّم مثلا هو الحليب الذي تشربه وانت مرتاح الفم لأنّه لا خطر من شربه. التعقيم هنا هو ازالة الجراثيم المؤذية، ايقاف الجراثيم عند حدّها.

و"التشبيه العقيم" قرأته في كتاب نفح الطيب بمعنى انه تشبيه فذّ، يصعب الإتيان بشبه له. فالعقم استحالة تجديد الانتاج، وعليه تكتسي العبارة سمة ايجابية. وهنا تحضرني عبارة اليتم ايضاً بمعنى عدم القدرة على الاتيان بمثله ومن اليتم ولد عنوان كتاب الثعالبي"  يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر" اي ان الدهر اصيب بعقم فلن يكون بامكانه انجاب مثيل لما انجب بعد ابتلائه بالعقم .من كلّ سلبيّ يتوقّع مجيء الإيجابيّ. فالكلمات في تجوال دائم ما بين السالب والموجب، والاستعمال قادر على اللعب بالسالب كما هو قادر على اللعب بالموجب، عبر بوّابة المجاز التي تسحب الكلمات من عالم الحقائق السلبية الى رحاب المجازات الايجابية. الكرّ والفرّ من طبائع الكلمات والتراكيب.

روح

كلمة " روح " ، في اللغة العربية، مهضومة جدّا لأنّها لا تهتمّ كثيراً بجنسها. فهي لا تغضب اذا عاملتها معاملة الأنثى، ولا تنتقص من انوثتها اذا عاملتها معاملة الذكر. فهي الاثنان معاً. اللغة العربية تبيح لك ان تقول:  هذه" الروح" و هذا " الروح". الأنوثة والذكورة ليست من اهتمامات الروح. هي مثل الملابس الـ"unisex".

وفي اللغة العربيّة مجموعة كلمات من هذا القبيل، منها: السبيل، حيث تقول هذا السبيل او هذه السبيل، والطريق، والسوق والسكين والقوم.

 

أخلاق

ليس هناك معجم لغويّ يتمتّع بالأخلاق الحميدة. فكلّ الكلمات التي يعاف اللسان التلفّظ بها لها مكان دافىء وحميم في ربوعه. ولا يمكنك أن تعترف أو تحترم معجماً يمارس العفّة. إفتح " لسان العرب"، أو " تاج العروس"، أو " المقاييس"، أو "المخصّص" تجدهم يحتضنون كلمات من تحت الزنّار. المعاجم لا يمكنها أن تمارس القمع، والمعجم المقموع ينتج مجتمعاً مقموعاً، المعاجم مناجم في الدرس الاجتماعيّ وأحوال الناس.


الشكل غشّاش. واللغة العربية هي ما تقول هذا من خلال استيلاد " الإشكال" من صلب الشكل. من يتأمل الكلمات التالية المشتقّة من جذر ( ش، ك، ل): شَكْل، إشْكال، مُشكلة يبصر ذلك الرابط المذهل الذي كشفت عنه لغتنا المحنكة.

كأن اللغة تريد ان تقول لنا ببيانها المعهود: خذوا حذركم من الأشكال واللعب بها، فالشكلّ فخّ مفترس وشرك مراوغ، وقد يوقعكم في مشكلة.

 

بلال عبد الهادي

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق